
في عالم تتزايد فيه المسؤوليات وتضيق الموارد، يجد العديد من المديرين أنفسهم محاصرين في حلقة من الإرهاق والضغط المستمر، محاولين التوازن بين متطلبات الإدارة العليا وتوقعات الفرق التي يقودونها، بحسب الرجل.
هذا الواقع لا ينطبق على شركة معيّنة، بل أصبح ظاهرة عالمية يعانيها المسؤولون في المؤسسات الحديثة، من كبرى الشركات إلى أصغر الفرق الناشئة.
في هذا التقرير، نسلط الضوء على ملامح الأزمة الإدارية المعاصرة، ونستكشف كيف تحوّلت الضغوط اليومية إلى تحدٍ بنيوي يمس جوهر القيادة الحديثة.
أسباب الضغط الإداري
أجمعت الأبحاث الحديثة على أن الاحتراق الوظيفي لدى المدراء لا يرتبط بشخصياتهم أو قدراتهم الفردية بقدر ما يعكس كمًا من الاختلالات الهيكلية في بيئة العمل ذاتها.
فالمشكلة ليست في القائد المرهق، بل في النظام الذي يُطالبه بالكمال من دون أن يمنحه الأدوات الكافية.
في دراسة صادرة عن معهد ماكنزي للصحة McKinsey Health Institute عام 2022، تَبيَّن أن السلوكيات السامة داخل بيئة العمل، من تجاهل الآراء إلى ضعف الاحترام المتبادل، تشكّل العامل الأكثر تأثيرًا في تفاقم أعراض الاحتراق.
أما تقرير مؤسسة ذا ويلبينغ بروجيكت The Wellbeing Project لعام 2024 فيشير إلى أن تضخّم الأدوار وتعدد المهام باتا من أبرز الضغوط التي تضع المدير في مواجهة طاقته البشرية المحدودة.
ويضاف إلى ذلك غياب التأهيل الإداري الكافي، إذ أظهرت بيانات حديثة أن نحو 77% من المديرين لم يتلقّوا تدريبًا فعليًا قبل تولّي مناصبهم، ما جعلهم يخوضون معركة القيادة من دون العُدة المناسبة.
وفي الوقت نفسه، يعاني 44% منهم من تقييد واضح في صلاحيات اتخاذ القرار، وهو ما يخلق حالة من الإحباط وانعدام السيطرة.
هذه العوامل المتداخلة تُنتج بيئة خصبة تُسرّع من إرهاق القادة، خصوصًا حين يُتوقَّع منهم تحقيق نتائج مثالية وسط نقص في الموارد والدعم والتمكين، وهكذا، يتحوّل الطموح المؤسّسي إلى ضغط مستمر يقود ببطء نحو الاحتراق الإداري الكامل.
المخاطر المترتبة على ضغط المديرين
لا يقف أثر الإرهاق المهني عند حدود القائد نفسه، بل يمتد كعدوى صامتة تتسرّب إلى كل طبقات المؤسسة، فحين يضعف القائد، يتداعى النظام بأكمله.
وتشير الدراسات الحديثة إلى أن آثار الإرهاق تتجلّى في ثلاثة مستويات متداخلة: الأداء، الاستقرار، والثقافة التنظيمية.
على صعيد الأداء، تُظهر دراسة صادرة عن هارفارد بيزنس ريفيو Harvard Business Review عام 2023 أن إنتاجية المديرين الذين يعانون الإرهاق تنخفض بمعدل 22 نقطة مقارنةً بنظرائهم المتوازنين، نتيجة ضعف التركيز، وتراجع الدافع، وتزايد الأخطاء في اتخاذ القرار.
أما على مستوى الاستقرار المؤسّسي، فيكشف التقرير نفسه أن احتمالية مغادرة المديرين المنهكين لوظائفهم ترتفع إلى خمسة أضعاف، ما يؤدي إلى خسائر ملموسة في تكاليف التوظيف والتدريب، ويزعزع استمرارية الأداء داخل الفرق.
لكن التأثير الأخطر، كما تحذر الدراسات السلوكية، هو انتقال الإرهاق من القائد إلى فريقه، فحين يفقد المدير توازنه النفسي، تتراجع الروح المعنوية، ويضعف التواصل، ويعمّ الارتباك حول الأولويات، لتبدأ موجة ثانية من الإرهاق الجماعي تمتد إلى كامل المنظومة.
وهكذا يتضح أن الإرهاق المهني ليس مسألة فردية، بل خلل نظامي في بنية القيادة وثقافة العمل، يستدعي من المؤسّسات مراجعة جذرية لطريقة تعاملها مع القادة، لا الاكتفاء بدورات دعم موقتة أو شعارات تحفيزيّة.
خارطة النجاة من الضغط الإداري
يرى الخبراء أن معالجة الاحتراق الوظيفي لدى المديرين تبدأ من إعادة هندسة طريقة العمل، لا من تحميل الأفراد مزيدًا من المسؤولية، ويقترح الباحثون خمسة مسارات عملية تمثل ما يمكن تسميته "بخارطة النجاة للمدير المعاصر":
1- اجعل الاجتماعات لحلّ المشكلات لا لتكرار التحديثات
يُوضح نيلسون ريبيننغ، مدير مركز القيادة في معهد MIT، أن كثيرًا من المديرين يقعون في خطأ شائع يتمثّل في استخدام الأدوات الإدارية بطريقة معكوسة، فيخصّصون الاجتماعات لعرض تقارير روتينية لا تحتاج إلى نقاش، فيما يتركون حلّ الأزمات وتبادل القرارات للبريد الإلكتروني. والنتيجة كما يصفها: "فيض من الرسائل المتبادلة ودوامة من الأسئلة التي لا تُحسم".
يرى ريبيننغ أن الحلّ يكمن في إعادة تعريف وظيفة الاجتماع نفسه، فاللقاءات القصيرة والمُنظّمة، يمكن أن تختصر مئات الرسائل الإلكترونية وتُسرّع الوصول إلى القرارات، فالغرض من الاجتماع ليس الاكتفاء بعرض ما أنجز، بل توليد القرارات والخطوات المستقبليّة الواجب تنفيذها.
2- تعلَم رفض الأفكار
يطرح ريبيننغ، فكرة جوهرية أخرى في إدارة الضغط: القائد الفعّال هو من يعرف متى يرفض، لا من يوافق على كل ما يُعرض عليه، فالإجماع الدائم ليس دليل انفتاح، بل مؤشر على غياب التركيز.
ويحذّر ريبيننغ من أن قبول كل المبادرات، حتى الجيدة منها، يفتح الباب أمام تراكم مهام غير منظورة تُرهق المدير وتستنزف الفريق، خصوصًا في بيئات العمل المعرفي حيث لا تُقاس الأعباء بعدد الملفات بل بحجم الانشغال الذهني.
الحلّ، كما يوصي، هو وضع نظام صارم للأولويات وتسجيل الالتزامات في مكان واحد، سواء على الورق أو عبر الأدوات الرقمية، مع الالتزام بإنهاء المهمة الأهم قبل الانتقال إلى التالية.
فالفوضى الإدارية لا تبدأ من كثرة العمل، بل من غياب القرار الحاسم بالرفض في الوقت المناسب.
3- كن صريحًا مع فريقك
تؤكد بيث همبرد، أستاذة الإدارة في جامعة ماساتشوستس، أن القائد الذي يسعى إلى الكمال المطلق يزرع الخوف لا الثقة داخل فريقه، فالقيادة الحقيقية، كما تقول، تبدأ من الصدق مع الذات ومع الآخرين.
حين يرى الموظفون مديرهم غارقًا في المهام، يتردد الكثيرون في الاقتراب أو طرح الأسئلة، ما يخلق فراغًا تواصليًا يُبطئ العمل من دون أن يُلاحَظ. هنا تكمن أهمية مبادرة القائد بكسر هذا الحاجز، وإظهار جانبه الإنساني قبل دوره الإداري.
وتوضح همبرد أن الخطوة الأولى بسيطة لكنها حاسمة: صارح فريقك بما تمرّ به، واطلب دعمهم في تنظيم الأولويات والمتابعة، بدلاً من أن يثقلوك بأسئلة يومية صغيرة.
4- فكّك الفريق إلى مجموعات صغيرة
يقول الخبير الإداري رون كارووتشي، المؤسس المشارك لشركة الاستشارات نافالينت Navalent ومؤلف كتاب To Be Honest، إن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه المديرون هو التعامل مع فرق كبيرة بالطريقة نفسها التي يديرون بها فرقًا صغيرة.
ويضيف: "إذا كنت تدير أكثر من عشرة موظفين، فقسّمهم إلى مجموعات صغيرة من ثلاثة إلى أربعة أشخاص، وفقًا للمشروعات أو التخصصات". هذا التنظيم يسمح للقائد بتركيز جهوده على تنسيق العمل الجماعي بدلا من متابعة كل فرد على حدة.
ويقترح كارووتشي استبدال الاجتماعات الفردية بجلسات جماعية صغيرة تُشجع على الحوار واتخاذ القرار المشترك، على أن تُخصَّص اللقاءات الفردية الفصلية فقط للتنمية المهنية ومناقشة تطور المسار الوظيفي.
5- اعتنِ بجسدك وعقلك
يحذّر كارووتشي من أحد أكثر الأخطاء شيوعًا بين المديرين: إهمال الجسد والعقل في خضم الضغوط اليومية، فالقائد المنهك لا يفقد طاقته فحسب، بل يصبح، من حيث لا يدري، أكبر عائق أمام نفسه. كما يقول: "حين يظهر القائد غاضبًا أو متعبًا، يتحول إلى أسوأ أعدائه".
ويرى كارووتشي أن العناية الجسدية والنفسية ليست ترفًا شخصيًا، بل شرطًا أساسيًا لاستمرارية القيادة، فكل ما يدخل إلى الذهن من رسائل وسرديات يومية يُشكّل وعي القائد، ويؤثر في قراراته وتعامله مع فريقه.
لذلك، من الضروري الانتباه إلى نوعية هذا الوقود الذهني، ما تقرأه، ما تستمع إليه، والطريقة التي تحدّث بها نفسك، أما التأمل والرياضة فليسا رفاهية، بل وسائل ضرورية للحفاظ على الفاعلية المهنية والقدرة الذهنية.