الجينز الأزرق: سيرة بنطال من العبودية إلى التمرد

2025-11-15 | منذ 2 ساعة

مواقع التواصلمحمد تركي الربيعو*

 

رغم أن بنطال الجينز قد تحوّل في العقدين الأخيرين إلى أحد أبرز مكوّنات خزانة الثياب في العالم، فإن تاريخه لم يُكتب بعد بالشكل الكافي. ففي كتابها عن تاريخ الأزياء العربية، توقفت المؤرخة الراحلة يديدا كالفون ستيلمان، مطولاً عند تحولات اللباس العربي خلال القرنين الأخيرين، لكنها لم تُولِ هذا البنطال اهتماماً يُذكر، رغم أنه أصبح من أكثر قطع الأزياء التصاقا بحياتنا اليومية.
ولعل الشهادة الوحيدة التي تتيح لنا تتبع لحظة دخول الجينز إلى العالم العربي، هي تلك التي دوّنها اليهودي المصري ألبير أريه، السياسي وابن أحد تجّار القاهرة في خمسينيات القرن الماضي. يروي أريه في مذكراته الشيقة أن والده، في أحد الأيام من عام 1950 سافر إلى فرنسا، وعاد بتوكيل من شركة فرنسية كانت تنتج الجينز، ليكون، حسب روايته، أول من أدخل هذا البنطال إلى مصر. في تلك الفترة، كان الجينز في مصر يُعرف باسم العفريتة وهو لباس يرتديه العمال، ما يجعل القصة أكثر إثارة حين نعلم أن تاجراً مصرياً هو من استشرف مستقبله التجاري. وقد اعترض الابن ألبير على صفقة والده، مشككاً في جدوى بيع سروال العمال في القاهرة، إلا أن والده التاجر أجابه بثقة، «اسكت هذا هو المستقبل». وبالفعل، فقد امتلك الرجل حِسّاً تجارياً نادراً، إذ أدرك أن موجة الجينز التي غزت أمريكا وأوروبا ستجد طريقها قريباً إلى مصر.
الطريف في هذه القصة أنها تقلب السردية الشائعة عن دخول الحداثة إلى المدن العربية، والتي تفترض أن الشباب هم من أدخلوا الأزياء الجديدة. غير أن هذه الرواية تُظهر العكس: فالمبادر هنا هو الأب التقليدي، لا الابن الثوري، ما يكشف أن التاريخ مليء بالمفارقات، التي تُجبرنا على إعادة النظر في مسلّماتنا حول الحداثة والتقليد.
أما عالمياً، فقد تبنّت الولايات المتحدة الأمريكية الجينز بوصفه رمزاً لثقافتها، لكنه سرعان ما تجاوز حدودها ليصبح سلعة كونية. اليوم، يرتدي الناس الجينز بشكل شبه يومي في مدن العالم المختلفة، لكن تاريخه، كما تشير الباحثة كارولين بورنيل في كتابها «الجينز الأزرق» دار بلومزبيري، يحمل معاني أبعد من مجرّد الموضة الأمريكية. تصف بورنيل الجينز بأنه رمز للهوية الأمريكية من جهة، وحامل لإرث مظلم من جهة أخرى؛ فخلال قرونٍ طويلة، عانى العبيد الأفارقة وسكان أمريكا الأصليين أثناء إنتاج صبغة النيلة، التي تُستخدم في تلوينه. وفي فترات لاحقة، تحوّل الجينز إلى أداة احتجاجٍ ورمزٍ للنضال؛ فقد استُخدم في الهند وإيطاليا، ضمن مظاهرات سياسية واجتماعية، وتبنّته منظمات لرفع الوعي بقضايا مثل العنف الجنسي والفساد الحكومي. وهكذا، يبدو تاريخ الجينز، رغم بساطته الظاهرية، مشبعاً بالتحولات والتمردات.


تبدأ الحكاية من قرية دونغري الهندية، حيث كان العمال يصنعون قماشاً قطنياً خشناً متيناً، صار يُعرف باسم «دُنجَري»، ومع توسع رحلات الاستكشاف الأوروبية، أثار هذا القماش إعجاب التجّار الغربيين، الذين استخدموه لصناعة أشرعة السفن. وبعد اهتراء الأشرعة، كان البحّارة يعيدون تدويرها لخياطة سراويل عملٍ لأنفسهم، بحثاً عن حمايةٍ من رطوبة البحر وملوحته. وصل هذا القماش لاحقاً إلى مدينة جنوة الإيطالية، إحدى أهم موانئ العالم في القرن السادس عشر، حيث اشتهر القماش وارتفع ثمنه. ولأن الإنكليز كانوا يجدون صعوبة في نطق جنوة بالفرنسية، اختصروا الاسم إلى جين. في المقابل، حاول الفرنسيون منافسة أهل جنوة عبر إنتاج نسيجهم الخاص في مدينة نيم، فأطلقوا عليه اسم «سيرج دو نيم» الذي تحوّل لاحقًا في اللسان الإنكليزي إلى «دنيم».
ولم تدخل الولايات المتحدة القصة إلا بعد قرون، حين ارتدى رعاة البقر هذا القماش العملي، لكن اللحظة الحاسمة جاءت عندما أضفى عليه التاجر الأمريكي ليفي شتراوس لونه الأزرق المميز في نهاية القرن التاسع عشر. أنتج شتراوس أول بنطال دنيم أزرق مدعّم بالمسامير النحاسية، بجيب خلفي واحد وتطريز مميّز، وكان يُعرف آنذاك باسم «السراويل العلوية»، قبل أن يستقر مصطلح «جينز» لاحقاً في خمسينيات القرن العشرين.
مع حلول القرن العشرين، أصبح الجينز لباساً شائعاً بين العمال، ثم انتقل تدريجياً إلى عامة السكان، حتى تحوّل خلال قرنٍ واحد من زيّ العمالة إلى قطعةٍ أساسية في كل خزانة. ترى بورنيل أن الكساد العظيم (1929–1932) كان لحظة حاسمة في هذا التحول؛ فمع تفاقم البطالة، تراجع استهلاك العمال للجينز، بسبب ارتفاع أسعاره، لكنه في المقابل انتقل إلى الطبقات الوسطى والعليا التي تأثرت بأفلام الغرب الأمريكي، حيث ارتبط الجينز بصورة الكاوبوي الصلب والمستقل. وهكذا، صار الجينز رمزا للغرب الأمريكي، والمساواة، والشعبوية، والصلابة، و»السوبر موضة» التي تتجاوز الزمن والطبقات.
في المقابل، تبنّاه المراهقون رمزاً للتمرد.. في خمسينيات القرن العشرين، أصبح الجينز لباساً للمغامرين والمتشردين والمجرمين في أفلام هوليوود، ما منحه هالة من الجرأة والعصيان. حظرت مدارس أمريكية عديدة ارتداءه، لكن الشركات استغلت الحظر للتسويق له، مطلقة حملات مثل شعار «الدنيم: صالح للمدارس» مع صور لطلاب أنيقين يرتدون جينزاً مكوياً. بالنسبة لشباب ما بعد الحرب العالمية الثانية، مثّل الجينز أكثر من قطعة قماش: كان بياناً ثقافياً ضد السلطة، ورمزاً لقلق جيل يبحث عن معنى في عالمٍ مضطرب. ومن هنا، تحوّل من زيّ للمراهقين إلى لغة احتجاجية، ظهرت في الستينيات داخل حركة الحقوق المدنية، حيث تبنّت الناشطات الأمريكيات من أصولٍ افريقية الجينز كرمز للفخر بأصولهن الريفية، ورفضا لمعايير الأناقة البيضاء السائدة.
وفي الاتحاد السوفييتي، أصبح الجينز الأزرق علامة تمرد ضد النظام، منذ مهرجان الشباب في موسكو عام 1957، اندلعت «حمّى الجينز» وصار اقتناؤه حلماً نادراً يرمز إلى الانتماء إلى الثقافة الغربية.. وقد اعتبره المحافظون الروس رمزاً للرأسمالية والإفراط، وفرضت الدولة قيودا صارمة على بيعه، لكن السوق السوداء ازدهرت. وفشلت المحاولات المحلية لإنتاج بدائل، لأن الشباب أرادوا الجينز الأصلي، ذاك الذي يتلاشى لونه تدريجيا، ويتدلى بحرية على الأرجل، ويعلن العصيان في صمته الأزرق.


وهنا تطرح بورنيل فكرة ذكية مستعينة بأفكار كلود ليفي شتراوس، الأنثروبولوجي الفرنسي، الذي تحدث عن الثنائيات التي ينظم بها الإنسان فهمه للعالم: الساخن والبارد، الذكر والأنثى، الحضري والريفي. وبناءً على هذه الفكرة، ترى أن الجينز ذاته يحمل في نسيجه ثنائيات متناقضة: فهو في آنٍ واحد كاجوال ورسمي، متين وقابل للتلف، مثير ومريح، ذكوري وأنثوي، عالمي ومحلي، بسيط ومحمّل بالمعاني. هذه الازدواجية هي التي جعلت الجينز رمزاً حياً يتحرك بين الأزمنة والثقافات. في التسعينيات، مثلاً، انتشر الجينز في شوارع طهران بوصفه إشارة رمزية على العصيان ضد التشدد الديني، ثم صار علامة على تحولات اجتماعية في القاهرة ودمشق، خصوصاً بين الجيل الشاب والفتيات المحجبات اللواتي حاولن إيجاد توازن بينه وبين الالتزام، وقد عبّر عادل إمام في أحد أفلامه «مرجان أحمد مرجان» عن هذه المفارقة حين قال «من فوق عمرو خالد ومن تحت عمرو دياب».
وفي عام 200 ظهر الجينز ليؤدي دوراً ثورياً في بيلاروسيا، حين رفع أحد المتظاهرين قميصه الجينزي ليكون علم الاحتجاج،_بعد أن صادرت قوات الأمن الأعلام الحزبية. هكذا، استعاد الجينز معناه الأصلي كرمز للمقاومة والصمود.

الجينز وعصر الراحة:
تستحضر المؤلفة أفكار مارك أوجيه في كتابه «اللا أمكنة» الذي يرى أن الفضاءات الحديثة ـ من المطارات إلى المراكز التجارية ـ تُصمم لتكون عالمية بلا خصوصية، ما يتيح لأي إنسان أن يشعر بالانتماء إليها. وفي هذا المعنى، يبدو الجينز قطعة لا مكانية بامتياز: لباس يفقد خصوصيته المحلية ليصير مفهوماً ومقبولاً في كل مكان. لكن بورنيل تذهب أبعد من ذلك؛ فانتشار الجينز لا يعكس بالضرورة انتصار الموضة الأمريكية، بل أيضا انتصار مفهوم الراحة. منذ القرن الثامن عشر، ومع ما سُمّي في أوروبا بـ»عصر الراحة» تحوّلت الأذواق من الرسمية الصارمة إلى البحث عن الأناقة المريحة. تطورت المنازل والأثاث والغرف، ثم التكنولوجيا، حتى صار الإنسان الحديث لا يكتفي بالجمال، بل يطلب الراحة في كل شيء. وفي هذا السياق، وُلد الجينز من جديد كقطعةٍ تجمع بين البساطة والحرية والذوق العصري، فانتشر بلا حدود، ورافق الناس من المناجم إلى المكاتب، ومن الثورات إلى عروض الأزياء.
مع كتاب «الجينز الأزرق»، نرى أن الجينز اليوم ليس مجرد قماش أزرق، بل سيرة إنسانية مكثفة تختزل حكاية التمرد والطبقات الذاكرة والموضة. وبالتالي فهو قطعة صغيرة من عالم طويل اسمه التاريخ.

 

*كاتب سوري











شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي