هذا الإجماع على الحب

2025-08-09

إبراهيم عبد المجيد*

 

لن أقول ما يتردد دائما من أنه بعد موت المشاهير من الكتاب والفنانين، يظهر إجماع على الحب افتقدناه في حياتهم. الحب موجود وكثيرا ما يتم التعبير عنه، لكن الحياة تشغل الكثيرين، أو لا يظهر إجماعهم معا في وقت واحد، بالقدر نفسه الذي يظهر به عند الفراق. مَن في عالمنا العربي لم يحب فيروز والأخوين رحباني وزياد رحباني وألحانهم ومسرحياتهم، وكل ما قدموه في حياتنا. لقد كتبت هنا في «القدس العربي» منذ ثلاثة أعوام مقالا عن فيروز بعنوان «فيروز وطيور السماء» بمناسبة عيد ميلادها السابع والثمانين، وعن المعاني الوجودية العميقة التي تتجلى في كثير من أغنياتها، وكيف انتشر في مصر مثلا اسم شادي، بعد أن غنت أغنيتها التي لا تُنسى عام 1968 «أنا وشادي»، وغير ذلك، كما أن في حياتي وكتابتي الكثير من الليالي التي سهرتها أستمع إليها، أو أشاهد مسرحياتها، حين توفر لدينا الكاسيت، ثم سي دي ثم اليوتيوب في ما بعد.
لم يدهشني الإجماع على الحب مع رحيل زياد الرحباني، فهو ساعة صدق تتسع ملء الفضاء بجمال الروح، الذي كثيرا ما تسرقه مشاكل الحياة السياسية، التي تأخذنا إلى مستنقعات كثيرة حولنا، حاولنا الخروج منها على طول التاريخ، لكن حتى الآن للأسف لم نستطع. ظهر الاجماع على الحب مرة أخرى بعد أيام من وفاة زياد الرحباني مع رحيل الفنان لطفي لبيب، امتلأت صفحات السوشيال ميديا بالذكريات التي نال النصيب منها الكثيرين من مصر وخارجها. لم يكن لذكرياتي مع زياد مقابلات شخصية مثل الكثيرين غيري، لكن ذكرياتي كانت مع الغناء والمسرح. كانت لي ذكريات شخصية، وهذا طبيعي، مع لطفي لبيب فهو يعيش بيننا، سواء في لقاءات في دار نشر ميريت، أو حين شارك في مسلسل كتبته يوما كان اسمه «بين شطين ومياه» أخرجه عمر عبد العزيز عام 2003 وكان من بطولة حسين فهمي وسلوى خطاب. كانت لحظات اجتماعنا في أوقات الراحة خلف مكان التصوير من أجمل الأوقات، أو سهراتنا عند بعض الفنانين المشاركين. كذلك كانت ذكرياتي معه حين شارك في فيلم «صياد اليمام» المأخوذ عن روايتي، والذي قام ببطولته أشرف عبد الباقي، وكتب له السيناريو علاء عزام، وأخرجه إسماعيل مراد عام 2009 وكانت معهم فنانات رائعات في بداياتهم مثل بسمة وحنان مطاوع.

على المستوى الشخصي كان لطفي لبيب شديد التواضع، فضلا عن ثقافته، وكنت أعرف إنه أحد أبطال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر/تشرين الأول، والسنوات الست التي قضاها في الجيش، وله كتاب في ذلك نشرته دار ميريت عام 2010 بعنوان « الكتيبة 26» قرأناه وقتها وهو كتابه الوحيد. طبعا شاب الإجماع العظيم على الحب بعض التعليقات الرديئة، ممن يتصورون إنهم سدنة الدين الإسلامي، الذين أتاحت لهم السوشيال ميديا القفز بتفاهاتهم أمامنا، وهو يتحدثون ويلومون من يترحم على زياد الرحباني أو لطفي لبيب، باعتبارهما مسيحيين، وهكذا فهما كافران وليسا مسلمين لا تجوز عليهم الرحمة! الحمد لله لم تشارك في هذا العته شخصيات بارزة من رجال الدين، لكنها السوشيال ميديا أتاحت الوجود للجهل والجهلة من أجيال متعددة، ولم أقف عند ذلك أو اهتم به. كنت أعرف أن هناك من سيرد عليهم، وحدث من كثيرين، أبرزهم الفنان صبري فواز. أنا أعرف أن هذه مسألة لن تنتهي، ويحزنني إنها شملت أجيالا جديدة، لكن اكتفي بالتجاهل أو «البلوك» في تويتر، وغالبا أخفي هذه التعليقات وأصحابها فلا أراهم بعد ذلك.

خرجت الجموع تُحيي الهلال مع الصليب، لكنها عادت في سنوات السبعينيات مع سياسة أنور السادات، أعرف أنها محاولات فاشلة لصرف نظر المصريين عن القضايا الحقيقة، وكتبت في ذلك كثيرا في رحلتي مع الكتابة. لم أقف أبدا عند ديانة أحد، ويكفي أني عشت أجمل سنوات الصداقة لحوالي ثلاثين سنة مع الراحلة سهير فهمي مترجمة الأدب العربي إلى الفرنسية، وإحدى أعلام جريدة «الأهرام الأسبوعية» الفرنسية، ولم أعرف إنها مسيحية إلا حين ماتت، فكان العزاء في الكنيسة، هي التي كانت تقيم لنا في بيتها أجمل اللقاءات في رمضان حتى نتناول سحورنا ونمضي! فقط هذه المرة حين كتبت بوست أطالب نقيب الموسيقيين المصريين أن يقيم عزاء رمزيا لزياد الرحباني في مسجد عمر مكرم، أطل شخص أو اثنان ينبهاني إنه مسيحي، فقمت بتعديل البوست قائلا، ليس مهما مسجد عمر مكرم، لكن يمكن في أي مكان، وأوضحت كيف أني طوال حياتي لم أقف عند ديانة أحد، فالفن أوسع من الدين. فعلت ذلك لأتفادى أي هجوم ليس عليْ، لكن على زياد الرحباني، فلن اتحمل ذلك، وحدث أنه لم تأتِ تعليقات أخرى في الموضوع. صارت هناك اقتراحات كثيرة أن يتم هذا العزاء الرمزي في أماكن تعدد ذكرها، لكن الإجماع المثير كان حول نقيب الموسيقيين المصريين، وهل حقا يعرف من هو زياد الرحباني.
النقيب المشهور بالأغاني الهابطة، الذي طلب التحقيق مع الفنان راغب علامة، لأن فتاة صعدت على المسرح وقبلته في حفل في الساحل الشمالي. رغم أني أعرف أن الفارق بين زياد الرحباني ونقيب الموسيقيين المصريين هو كما نقول، فارق بين السماء والأرض، لكن كان هدفي أن يرى من يفسدون حياتنا بالسياسة المتردية، طوابير المعزين التي كان يمكن أن تذهب إلى هذا العزاء الرمزي، ليعرفوا كيف يوحد الفن بين البشر، الذين تفرقهم السياسة، وهو الأمر الذي ظهر في الإجماع على محبة زياد الرحباني أو جنازته، التي تقدمت كل صراع طائفي في لبنان، وصارت سماء تحت السماء.
من الطرائف التي قرأتها للكاتب محمود عبد الشكور الكاتب السينمائي، أن لطفي لبيب الذي جسّد دور السفير الإسرائيلي في فيلم «السفارة في العمارة» لعادل إمام، قال عنه الإسرائيليون إنه شديد الشبه بالسفير، وأدى الدور كأنه هو. أداء الدور بشكل رائع ليس غريبا على لطفي لبيب، لكن أن يكون شبيها بالسفير الإسرائيلي، فهذه معلومة لم أعرفها، وربما لم يعرفها أحد من قبل أن يقولها محمود عبد الشكور. أما حكاية رفضه لدعوة السفارة الإسرائيلية لتكريمه على هذا الدور فنعرفها كلنا. كيف لمثقف مثله شارك في حرب أكتوبر أن يقبل ذلك. طبعا كان رفضه متسقا مع حياته وقناعاته.
والسؤال الآن هل ينقذنا الفن والفنانون من القبح حولنا؟ الإجابة نعم حتى لو انشغلنا أحيانا عن رؤيتهم أو سماعهم. كل الفنانين الذين أقاموا القصور والأسبلة والمدارس والمساجد في مصر القديمة المنسوبة لحكام مختلفين، تجعل الزائر ينسى ما فعله هؤلاء الحكام بالشعب المصري، من موت أو مجاعات. هذه المرة رحل زياد الرحباني الذي لم يكن مع السلطة ولم يكن طائفيا، وحدد الكفر في الجوع في عبارة بليغة عابرة للزمن.

يا للي بيصلي الأحد ويا للي بيصلي الجمعة
راجعوا الكتب السماوية…راجعوا كلام القادر
أنا مش كافر بس الجوع كافر..
اجتمعت في النهاية كل الطوائف على الحزن لرحيله.
وهذه المرة أنقذنا الرحيل فلم تنفجر في مصر كما يحدث كل عام الاعتراضات على جوائز الدولة، التي ظهرت نتائجها بين هذا الفقد الكبير. ظهرت إلى حد ما ولم تشغل فضاءات السوشيال ميديا كما يحدث كل عام بشكل كبير. وإن كنت أتمنى لو فاز بها كاتب مثل محمد جبريل أو مصطفى نصر أو السيد حافظ، لكن كثيرا ما دعوت إلى ذلك من قبل، ولن أكرر كيف تغيب الجوائز عن أعلام من الإسكندرية حتى مات الفنان الكبير عصمت داوستاشي وفي قلبه غصة من ذلك، هو الفنان الذي لم يحصل على جائزة منها. لكن أعود إلى الحب الذي شمل الفضاء أفضل، فكم نحن في حاجة إليه حتى لو بعد رحيل الأحباء.

 

*كاتب وروائي مصري









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي