هل كان ماجنا ؟: البعد الرمادي في أدب هنري ميللر: بين الواقع والمجاز

2025-02-01

العربي بنجلون*

 

يعرف هنري ميللر بحبه للحياة البوهيمية وتشبثه الشديد بها، لحد أن عــدها المحافظون مرادفا لحياة (المجون) كما عد النقاد كتاباته، وهي كذلك بالفعل، مجونا، ما جعل القضاء يحاكمه غيابيا، طبقا لقانون (حظر العمل الفني الإبداعي ذي الغاية الجنسية الفاحشة) في بداية الأربعينيات من القرن الماضي، بل إن الروس، آنذاك، أحرقوا كل كتبه في إحدى مناسباتهم الدينية، وحظروا على المكتبات توزيعها وبيعها! والحقيقة التي لا غــبار عليها، هي أن هنري لم يكــن يعــبــر إلا عن سلوكاته الطبيعية، التي فتح عينيه عليها، أو التي تلقاها في طفولته؛ فهو لم يتابع تعليمه النظامي، في طفولته، ليجني منه قيما تربوية ومبادئ أخلاقية، أو ينشأ في عائلةٍ متماسكةٍ، يمارس طقوسها في العادات والتقاليد، وضوابطها العرفية، إنما انقطع عن الدراسة، منذ فـتوته، وانكب طويلا ومواظبا على القراءة الذاتية، والملاحظة والتساؤل والنقد، فأصبح بذلك كاتبا وصحافيا شهيرا، إلى أن رأى مجتمعه مختلا، لا يظهر ما يخفـيه، فاتخذ مسارا آخر، ألا وهو الصدق والصراحة والفضح في الكتابة الروائية والقصصية، التي يـبلور عبرها سيرته الشخصية والغيرية.. ولهذا كانت كتاباته في جلها (سـيرية) أكــثر من روائيةٍ، أي يـبـئر ذاتــه القلقة، ليـنقل مغامراته العاطفية والجنسية بشكل واضحٍ وفاضحٍ وصارخٍ، وفي الحين نفسه، تـبرز مواقفه الإنسانية، وتعاطفه الكبير مع الفئات الاجتماعية الهــشة، كالـمـومــسات (بائعات الهوى) محللا شخصياتهن، ومبينا العوامل التي دفعتهن إلى ممارسة هذه الحرفة، وما ينتج عنها من أضرار وأمراض صحية ونفسية واجتماعية.. خير مثالٍ على ذلك، روايته «أيام هادئة في كليشي» المكونة من فصلين؛ الأول يحمل العنوان نفسه، والثاني «مارا مارينيان» وكلاهما يدوران في ساحة (كلـيـشي) وما يتــفــرع عنها من شوارع وأزقةٍ ودروبٍ، الغاصة بالمقاهي والمطاعم والحانات، بطلاها الصحافيان المهاجران، الكاتب وصديقه.

وإذا كان الفصلان معا يعكسان سيرته الذاتية من جهة، فهما، من جهة ثانيةٍ، يكـشــفان (البعـد الرمادي) لبلدين كبيرين ومؤثرين في ثقافات واقتصادات وتوجهات العالم، قضى حياته متنقلا بينهما: أمريكا وفرنسا!
إنه اللــون الــذي يستحــوذ على كثـيـر من المشاهــد المادية والرمزية، ويربطه بما عاشه الكاتب في كلا البلدين. فالرواية تحدد زمنها في بداية الحكي بـ(ليلة رمادية) كسائر ليالي (باريس الرمادية)، أي تـشهــد حالاتٍ غامضة، تخفي أسرارا، وطبائع مختلفة، وأمزجة متــقــلـبة، لكنها لا تحدث أثــرا سلبيا بليغا، يصل إلى (السواد) وإن كانت (رماديتها) تــكتسي شبهاتٍ وتهـماً. وإذا كان الإنسان ابن بيئته، فإن الفنانين التشكيليــين لم يسلموا من تأثير هذا اللون، الذي يطغى على مدينتهم، إذ تلحظ لوحاتهم المعروضة في الواجهات الزجاجية، يكاد اللون الرمادي يــزيح باقي ألوانها، لأنه يعكس أفكار وأحاسيس الفرنسيين القلقة المضطربة. بينما الرمادي في لوحات الأمريكيين، له حضور نسبي، يسايــر الألوان الأخرى، أو يتساوى معها في تشكيل اللوحات، دون أن يطغى عليها. وبالتالي، فإن اللون الرمادي الأمريكي، يحفز الكاتب على الحياة الطليقة، والحركة النشيطة، التي تدفعه إلى الانخراط في أنشطة المدينة، فيما الرمادي الباريسي لا يثير فيه شعــورا بالحيوية، يجعــله كئيبا، منكسر الخاطر، منكفـئا على نفسه، فـيعـود في المساء إلى (غرفته ليبحث في مخيلته عن عناصر الحياة المفقودة)..وعلى الرغم من هذا الحكم الفاصل بـيـن الرماديين الفرنسي والأمريكي، فإن ميللر كان ممتــنا لفرنسا، التي لجأ إليها في ظروفٍ عصيبةٍ، إذ قال: «إنني أقرب إلى فرنسا من أمريكا، قضيت هناك عشر سنوات فـقـط، كانت كـل شيء بالنسبة لي، وشكلت مسيرتي المهنية بأكملها».. وقد أجمع النقاد على أن عنوان الرواية (مضللٌ) إذ عــدوا (أياما هادئة) مراوغة من ميللر، كسائر عناوين قصصه ورواياته، التي في معناها البعيد (مضطربة وعنيفة)، لكنني أخالفهم الرأي، فأرى (الهدوء) لحظة تأملٍ (رمادية) تــدل على (الحياد) الإيجابي، الذي لا تنتج عنه مشاكل عويصةٌ، تسقط الكاتب في المحظور. فلحظته قابلةٌ للتعايش مع الحالات والأوضاع (البيضاء والسوداء)، ومنها نستطيع أن نرى الاتجاهات المتباينة، ونـقـيمها تقييما نزيها، كي نتخذ موقـفا ملائما ومتزنا.

وهو يؤكد على ذلك اللون في أكثر من موضع، فيذكر، مثلا بين الحين والآخر: (كان يوما رماديا، مثل الأيام التي يراها المرء غالبا في باريس) و(لأن باريس، كما يعرف الجميع، مدينة رمادية إلى حد بعيدٍ) و(كنت أفكر بعالم اللون الرمادي الهائــل الذي عرفــته في باريس). وهذا ما تجلى في الأحداث، التي مـرّ بها جوي الأمريكي ميللر وصديقه كارل التشيكي، إذ ما إن يواجههما عائقٌ ما، حتى يجدا له حلا بديلا، أو مخرجا، يـنقذهـما من نتائجه السيئة، وبالتالي، يظلان في (المنطقة الرمادية) بعيدا عن كل الشبهات والتهم.. من ثم نعي جيدا لماذا استهــل الكاتب روايته باللون (الرمادي) وألح على دلالــتــه في مقــارنـتــه بين المجتمعين الأمريكي والفرنسي. فيما ذهبت القراءات والتحليلات التفصيلية للنقاد والباحثين إلى تشريح الممارسات الجنسية، غير المشروعة، والتسكع بين حانات ومواخير باريس.. فاستسهلت هذه القراءات الكتابة، ولم تــبذل جهدا يسيـرا في رفع الستــار عما وراء تلك الممارسات، وكان عليها أن تبحث عن المعنى الكامـن بين ثــنـايا النص، وهو وجهٌ من الوجـوه الحـقـيقـية للرواية، كما يذكر الكاتب السوري فواز حداد في مقدمة سيرته (لقد مررت في هذا العصر)..كما أن تلك القراءات، لم تـتـساءل عن لجوء ميللر إلى فرنسا، ولماذا فضلها على وطنه الكبير أمريكا؟ ففي حقبة الحربين العالميتين، شعر الكتاب الأمريكيون بأن باريس توفر مساحة أكبر من الحرية للأدباء والفنانين، فهاجر ميللر الذي ضاق ذرعا بانـتـقاد كتاباته ومحاكماته. كان مقــتــنعا بأن باريس ستمهد له ظروفا للمتعة والعمل معا، وإن كان في تلك الحقبة (محبطا ومفلــسا) إذ آثــــر أن يعيش فــقــيــرا، يــتــضور جوعا، لا يجد قطعة خبزٍ، أو قطرة نبـيذٍ، على ألا يعيش حرا طليقا في وطنه، يعــبر بأسلوبه الخاص عن أحاسيسه الدفينة، ورغباته المكبوتة!

يستحضر الكاتب مونمارتر في ساحة كليشي، الشارع القــذر الحقير لــ(حد أن الرعشة تنتابك عندما تدخل فنادقه) ومقاهـيه ومطاعمه، التي تعـرض عليك ألوان (المتع البيضاء المتلألئة بالأنوار والأضواء الخافتة).. وفيه يلتـقي بنموذجين من المومسات المحترفات: الأول لا يقيم وزنا لسلوكاته، فـيـشهــر بصلافةٍ حرفــته على الملأ، ولذلك لا يلقى قبولا في المجتمع. يذكر، مثلا، أن الصدمة صعــقــته، ليلة، عندما لمح مومسا ثـملة، تــنهار على الناصية، بين أرجل المارين، ولا أحد عـبّرها بلـفتة نــظــر، أو ساعــدها عــلى الأقـل، لـتنهـض من سقطتها الـــمـــدويـــة، لـيـدرك أن الــفرنسيــيــن، في هــــذه الحــالة، يــتـــجـــردون من كــل السلوكات الـنـبـيلة الــتي تميز شخصياتهم. كما يستنتج أنه إذا لم (يتعود على مثل هذه المواقـف القاسية، ويتقبلها برحابة الصدر، فإن إقامته في فرنسا، ستكون مزعجة للغاية). والثاني، يتجلى في النساء اللواتي يـنـسجن حيلا لاستمالة زبائنهن، فـيـقـصدن أماكن معـينة، غير مشبوهةٍ، ثم ينزوين في ركنٍ قصي منها، كأنهن ينتظرن خطيبا أو زوجا أو قريبا، مما يضفي عليهـن وقارا وجاذبية، يشدان فضول الرجال. وقد وقع الكاتب في حبائل إحداهن، وكان صيدا ثمينا لها، عندما دنا منها، وهو يتأبط كتبا واسطواناتٍ، فانطلقـت تـناقـشه في الكتب ولغتها، كأنها شغوفةٌ بالقراءة. ولما اطمأن لها، سارت معه إلى شقـته، وقبل أن يتماسا، فاجأته بأنها في ورطة، وتحتاج إلى مساعدته بمال، فأفرغ بين كفيها كل ما تحتويه جيوبه، وقضى تلك الليلة خالي الوفاض، لم يـوفــر فــيها حتى عشاءه!

تستمر الرواية في طقوسها الرمادية التي لا تصفـو سماؤها، أو يتغير شكلها، أي لا يتحول إلى سوادٍ أو بياضٍ؛ فالكاتب وصديقه، طيلة الرواية، حالمان، نهــمان، شرهان، يمارسان الجنس، ولا شيء سوى الجنس. الأول مع الفاسقات، والليالي الجنسية الجامحة، والثاني مع الفتيات القاصرات، لكنهما في البداية والنهاية، يظلان في المنطقة الرمادية، لا يتخطيانها، وهذا من حظهما، على الرغم من مغامراتهما الجنسية الفاضحة، التي يمكنها أن تسيء إلى مكانتهما الأدبية والصحافية.. فالقارئ العادي لهذه الرواية، إن كان ينتظر سيرا طبيعيا للأحداث والوقائع، لتنتهي بـبديلٍ لها أو حل مرضٍ، أو ينتظر رؤية عامة لموضوعها، كما في الروايات والقصص والمسرحيات، فهو واهـم، لأنه سيجد نفسه في دوامةٍ عـبـثـيةٍ، لا تــفضي به إلى شيء، كأنه يشاهد شريطا إباحيا، تتكرر فيه المشاهد ذاتها. وهذا ما جعل الكثيرين من قرائها، ومشاهدي شريطها السينمائي أيضا، يشعرون بالرتابة والملل، لتكرار المغامرات الجنسية المتماثـلة. لكن النقاد، لهم رؤية أخرى، ذلك أن وراء هذه المغامرات تأكيدا على معاناةٍ قاسيةٍ لشريحةٍ من نساءٍ، وجدن أنفسهن معروضاتٍ في الواجهاتٍ، مثل البضائع في سوق الجنس، يبعـن أنفسهن وأجسادهن بأسعارٍ بخسةٍ، لدواعٍ وعوامل اجتماعيةٍ. وهنا تكمن قيمة الكتابة الحارقة، التي لا تأتي عـبثا واعــتباطا، إن لم يكن فــيها ما يــقــلــق كاتبها ويــؤرقــه.. وهذا السوق، لا يكتسي لونا وشكلا واحدا لتاجراته، فهناك مومساتٌ (ساقطاتٌ) لا يكــتــرثــن بقــيم المجـتمع وحدود أخلاقه العامة، وأماكنهن البشعة (لا علاقة لها بالجنس الرومانسي، خصوصا عندما يكون موضع بيعٍ وشراءٍ).. وهناك مومساتٌ (واعــياتٌ) بما يــفعـلـنه، لكــنهــن يحاولــن ألا يــثــرن حــفــيــظــة الــمحــيــط الاجتماعي، كأنهن مضطــراتٌ ومرغماتٌ، وهــن أدرى بسلوكهن الذي يرفضه ويجرمه مجتمعهــن!
ومن ثمة، لم يستوعـب المجتمع الغربي أبعاد الكتابة عند ميللر في الخمسينيات من القرن الماضي، إلا بعـد عــقـودٍ، إثــر تحولاتٍ اجتماعــيةٍ واقــتــصاديةٍ، لأنه كان ينظر بعــيـنٍ واحدةٍ، تـنحصر في (الأخلاق) فقط!

*كاتـب مـن الـمـغـرب








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي