جدّي موناوي

2025-01-23

لوحة لاحدى شخصيات الهنود الحمر السكان الاصليين لأمريكا (مواثع التواصل)
جوي هارجو / ترجمة ميلاد فايزة *

كان جدي موناوي (وينطق اسمه ميناوى أيضا)، وهو في الحقيقة أحد أجدادي الأوائل، قد سُمح له بزيارة بيته في أوكفاسكي (وهو مكان قريب مما يُعرف اليوم بمدينة دايْدفيل، في ولاية ألاباما)، لقضاء ليلة واحدة هناك قبل أن يُنفى إلى الغرب الأمريكي. يُحكى أنه قال لـ»رجل ذي شأنٍ» بعد أن قدّم له بورتريه شخصي له: «سأرحل عما قريب، ولكني جئتك بهذه الصورة ــ أرجو من كل قلبي أن تأخذها وتعلقها في بيتك، حتى إذا نظر إليها أطفالك، تستطيع أن تقول لهم مَن أنا. إن رغبتي حين أعبر نهر المسيسيبي العظيم، هي ألا أرى أبداً وجه رجل أبيض».

لم ينظر جدي وراءه أبداً بعد أنْ غادر. واصل المسير إلى الأمام صحبة شعبه الحبيب.
أعودُ الآن لأرى ما يمكن أن أعثر عليه، في هذه الأراضي التي أُجبرنا على تركها وراءنا.

منفى الذاكرة

لا تعودوا،
حذّرنا أحدُ العارفين بخبايا الأمور
لن تحقّقوا شيئا بعودتكم سوى إزعاج الموتى.
سيخرجون من الذاكرة اللولبية للبيوت الصغيرة
مصطفين في أخاديد النخاع
وسيضربون في الأرض.
لن يكون هناك مكان في الذاكرة
لما ستراه عيونهم
الطرقات السريعة، البيوت، دكاكين الدخلاء
المطلة على حُقول الدم
حيث وقف الموتى للمرة الأخيرة.
ثم ماذا، هل تعرفون بكلماتكم
في لغة العدوّ-
كيف تهيّئون طريقا آمنا
عبر ذاكرة البشر؟
وماذا عن الأشباح الغاضبين في التاريخ؟
ثم ماذا؟

لا تنظروا إلى الوراء.
قيل لنا في مدرسة الكنيسة يوم الأحد إن زوجة لوط
نظرت إلى الوراء فتحوّلت
إلى ملح.
ولكن عائلتها لن تسقط من الجنة.
أحببنا أشجارنا ومياهنا
والمخلوقات والأراضي والسماوات
في ذلك المكان العزيز على قلوبنا.
هؤلاء المخلوقات كانوا رفاقنا
حتى عندما أطعمونا واعتنوا بنا.
إذا تحولتُ إلى ملح
فسأكون من دموع متحجّرة
من خطى أقاربي
وهم يمشون غربا.

لم أعرف ماذا سأجد
في الليلة الأولى وضعنا فراشنا في غرفة فارغة
في بيتنا على نهر تينيسي
بَلَغَهم خبرُ مجيئنا
هؤلاء الذين استمروا في الحفاظ على الأرض
رغم أعباء الواصلين الجدد
والمنفى القسري لأقاربنا
ظلوا يرحّبون بنا كلّ الليل
ويرقصون ضاربين بأقدامهم الأرض
مجلجلين صدفات السلاحف المربوطة حول سيقانهم
رقصوا لليلة كاملة في دوائر ودوائر
راسمين لولباً صاعداً نحو درب التبانة

لا نزال في حالة حداد.
سرقت الحكومة الأطفال من هذه الأراضي العزيزة علينا.
قصّت شعورهم، وافتكّت منهم ألعابهم وملابسهم المصنوعة يدويّاً.
حَمّمتهم في مبيدات الحشرات
وهم الآن نظاف، يتلون صلوات بلغات أجنبية
كلما اصطفوا ليناموا بشكل انفرادي في أقفاص أعدّها لهم الجيش.

الحداد يقتلنا. الغضب يعذبنا. نتآكل من الحزن والأمراض.
اختطفوا نساءنا الشابات واغتصبوهن وقتلوهن.
ورجالنا الشباب إما قتلهم البوليس أو اقتتلوا وانتحروا.

هذا تحذير لكم:
الهيروين رفيق غبي يزعم تحريركم من محنة التاريخ.
أمّا مخدر الميث الكريستالي فينقلكم إلى عالم آخر.
الكحول، إكسير الشجاعة الزائفة، ستعبر بكم ضفة المحن
يكفي من اشتهاء المخدرات والمواد المعالجة
فأنتم لا تستطيعون الابتعاد عن الطاولة.
لو دفعنا ما يكفي لتمكنّا ربما من اشتراء أنفسنا من جديد.

كنا نتزاحم في الحانة مساء كل ثلاثاء لأجل الحصول على بيرة بعشرة سنتات.
كانت حانة الهنود والشعراء والطلاب والواصلين على الدراجات
في تلك المدينة الجامعية
في تلك المدينة التي كانت فيها قاعدة عسكرية.
كانت الصواني المليئة بكؤوس البيرة الصغيرة تمر فوق الكونتوار كل الليل دون توقف
أخذنا كل أحلامنا العطشى إلى هناك
وقامرْنا بها على طاولة البلياردو كل الليل.
رقصنا معهم ومع بعضنا بعضا على أرضية المرقص الملطّخة بالدماء
على إيقاع أغنيات جهاز الجوكبوكس الذي كان الزبائن يحشرون فيه قطعا من العملات المعدنية الصغيرة، كل الليل.
وعند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، نخرج مترنّحين إلى العالم
الذي صنعته أحلام المسيحيين البيوريتانيين
حيث لا مكان فيه للسكان الأصليين، للشعراء أو أي أشخاص آخرين يمتطون الريح
بحثا عن معرفة خطيرة.

كل الليل.

ثمة شجرة تغني هنا في المجمع السكني.
تغني عن تاريخ الأشجار هنا.
تغني عن جدي موناوي الذي وقف مع أصدقائه المقاتلين
على التلّ محدّقين في البلدة الجديدة التي أقامها
سكّانٌ غير شرعيين.
تغنّي عن معسكر جنود الحرب الأهلية، عن الملطخين بالدماء
عن المتغطرسين والمنبوذين.
تغني عن القوة الذرية
والبنوك التي أصبحت أبراجها العالية أماكن عبادة.
أما المقطع الأخير من الأغنية فهو دائما عن الأشجار.
فهي التي ستبقى.

عندما يحين الوقت لنترك مكان العودة هذا
ماذا سأقول أني وجدت هنا؟
من خلل الضباب، كافح شبحُ شيء ما ليظهر ـ
كان متعدد الأرجل، ذا أذرع كثيرة. وأرسل أفكارا بألوان متعددة.
كان هناك ظباء تقف بالقرب منا تحت السماء المنفرجة الضبابية
ونحن ننظر إليها، تشمّمت الهواء بحثا عن رائحة الماء
تسرّب ضوء أخضر إلى أجسادها
من الأوراق التي أكلتها ـ

القوانين القديمة لشعب الموسكوكي حظرت الديانة المسيحية
لأنها تفرّق بين الناس.
نحن أقارب الفهد، الراكون، الظبي والحيوانات الأخرى
والريح، أصبحنا مفرّقين.
ولكن أساليب حياة شعب الموسكوكي تجعلنا أقارب
لذلك جعلْنا من المسيح قريبا لنا وأعطيناه اسما موسكوكيّاً.

لم نستطع أن نرى أسلافنا حين تسلّقنا
حافة الدمار
ولكن أحسسنا في الظلام بحضورهم المرن على حافة عقولنا
وسمعناهم يغنّون.
ليس ثمة كلمة في هذه اللغة الوسيطة، ليس ثمة كلمات تملك ما يكفي من القوة
لتعبّر عن كل هذا الذي أصبحناه ـ

نحن في الزمن. ليس ثمة زمن في الزمن.
نحن في قرية موسكوكية تقليدية، في زمن قديم.
إيكاناجاكا، أمّنا الأرض، في حالة مخاض، منذ زمن طويل.
هي ليست شابة وقد تجاوزت عُمر الولادة.
حارس الإنجاب يتتبّع طاقتها، والزمن.
أتساءل كيف، هذ المرة.

يلعبُ طفل صغير مع جروين في مدخل البيت.
تظهر طفلة صغيرة تحمل روح امرأة عجوز
وبين يديها نباتات خضراء
وتوأمان يلعبان حول حافة السرير.
يضيق رحم الأرض بسبب الحاجة إلى الدفع
ذلك كل ما أراه بسبب غشاوة الزمن.

أغني أغنية الرحيل
أغنيها لحارس الأشجار، لهذه الأرض الحبيبة،
لأولئك الذين يبقون هنا لرعاية الذاكرة.
سأغنّيها حتى يوم مماتي.


*جوي هارجو (Joy Harjo) شاعرة أمريكية بارزة ولدت سنة 1951. تعتبر من أهم الشعراء الأمريكيين الذين اعتنوا في نصوصهم بقضايا السكان الأصليين. اختيرت سنة 2019 لتكون شاعرة الولايات المتحدة (United States Poet Laureate) لثلاث فترات متتالية.

*ميلاد فايزة شاعر ومترجم تونسي يقيم في ولاية رود آيلند (عن القدس العربي)








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي