![](/img/grey.gif)
يترقب العالم ما ستسفر عنه المفاوضات غير المباشرة بين حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية "حماس" والاحتلال الإسرائيلي، من أجل بدء المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار واستمرار عملية تبادل الأسرى، لكن التقارير القادمة من إسرائيل تشير إلى أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قد يعمل على تأجيل الدخول في المرحلة الثانية من الصفقة.
في المقابل، سيعمل بنيامين نتنياهو العائد مؤخراً من واشنطن حيث التقى حليفه الرئيس دونالد ترامب، على إطالة أمد المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس، وهو ما أكدته مواقف سياسية وأمنية إسرائيلية مفاجئة تدعو لعدم التسرّع في الانخراط بهذه المفاوضات، تحت ذرائع شتى.
لكن سببها الرئيس يكمن في عدم جاهزية الاحتلال لدفع الاستحقاقات التي تتطلبها منه هذه المرحلة، إضافة إلى اقتراب موعد الإنذار الذي أطلقه شركاء بنيامين نتنياهو في الحكومة، لاسيما بيتسلئيل سموتريتش، الذي هدده بالانسحاب من الحكومة في حال إعلان وقف الحرب في غزة.
لماذا ستؤجل المرحلة الثانية من الصفقة؟
تشهد المحافل الأمنية والسياسية الإسرائيلية نقاشات متزايدة حول تمديد المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى لصالح التباطؤ في المرحلة الثانية من الصفقة، في ضوء جملة من العوامل، أهمها:
- إطلاق سراح معظم المدنيين الذين شكل بقاؤهم في أسر حماس عنصراً ضاغطاً على الحكومة.
- عدم الاهتمام كثيراً بمن تبقى من الجنود كونهم أُسروا خلال عملية عسكرية، وفي ظل مقتل قرابة ألف جندي في المعارك بغزة، فليس هناك من اكتراث رسمي في حال بقي عشرات آخرون رهن الأسر لدى حماس، سواء كانوا أحياءً أو أمواتاً.
- تراجع الزخم الجماهيري الإسرائيلي، لاسيما المظاهرات الأسبوعية التي شكلت واحدة من أدوات الضغط على الحكومة، عقب استعادة معظم المختطفين المدنيين الأحياء.
- التهرب من بند "إعلان وقف الحرب" الذي تتضمنه المرحلة الثانية، بهدف المحافظة قدر الإمكان على استقرار الائتلاف الحكومي قبل أن يهتزّ فعلياً.
- ما يقال عن تفاهمات ضمنية أبرمها نتنياهو خلال زيارته الحالية لواشنطن مع دونالد ترامب، وما قيل بخصوص حصوله على ضمانات أنه في حال تعثرت مفاوضات المرحلة الثانية يمكن له العودة للقتال في غزة.
كوابح المرحلة الثانية من المفاوضات
هذه الدوافع تجعل الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو مدعوة للدخول في ماراثون تفاوضي عبثي لا يؤدي في النهاية لمآلاته المرجوّة، المتمثلة في:
إطلاق سراح كبار الأسرى الفلسطينيين الذين يشكل تحررهم حرجاً جديداً للاحتلال الذي طالما توعد بـ"التعفن" في الأسر، لاسيما إبراهيم حامد وعباس السيد وحسن سلامة ومروان وعبد الله البرغوثي وأحمد سعدات.
وقف الحرب بصورة نهائية، وهو "الشريط اللاصق" الأخير الذي بقي يمسك بالحكومة خشية الانفراط والسقوط، مما يدفع نتنياهو للمماطلة فيها، وشراء مزيد من الوقت للمحافظة على ائتلافه أطول فترة زمنية ممكنة.
الانسحاب النهائي والشامل للاحتلال من قطاع غزة، من محور فيلادلفيا في رفح جنوباً إلى بيت حانون شمالاً، وتبدد مشاريع الاستيطان والمناطق العازلة وفرض الحكم العسكري، الذي طالما هدد به نتنياهو الفلسطينيين.
شروع الاحتلال عملياً في بحث "اليوم التالي" في غزة، مما سيضعه أمام استحقاقات سياسية تتعلق بعودة السلطة الفلسطينية لإدارة القطاع، أو التسليم بوجود حماس كأمر واقع، وهما خياران يراهما اليمين الحاكم أحلاهما مرّ، مع تراجع الخيار الثالث المتمثل بفرض الحكم العسكري بعد الانسحاب من معظم أرجاء القطاع.
ما الذي يشجع الاحتلال على التماطل؟
في المقابل، لا يبدو أن مساعي الاحتلال في تأجيل الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية من الصفقة ستكون شائكة أو معقدة، بل قد تكون معبّدة، في ضوء جملة من المواقف والإرهاصات، أهمها:
افتقار المقاومة في غزة لأوراق القوة التي كان يمكن أن تلوح بها للاحتلال بعد القضاء على عصبها العسكري الحقيقي، وبقاء مجموعات مسلحة تعمل بمنطق حرب العصابات، لكنها لا تمثل ضغطاً أمنياً على الاحتلال، كما كان الوضع عليه قبل السابع من أكتوبر 2023.
عدم استعداد الوسيطين، لاسيما قطر ومصر، للدخول في مواجهة أو صدام مع إدارة ترامب في هذه المرحلة، في حال تحقق التسريبات التي تحدثت عن تفاهمات ضمنية أبرمها مع نتنياهو، الذي استجاب له صاغراً في البداية بوقف مؤقت للحرب، وإنجاز المرحلة الأولى من الصفقة.
التغييرات السياسية والأمنية الإسرائيلية الأخيرة تمهّد الطريق نحو إطالة أمد البحث في مفاوضات المرحلة الأولى من الصفقة، وإبطاء العمل في المرحلة الثانية، لاسيما بعد تعيين الجنرال آيال زامير قائداً جديداً لجيش الاحتلال، وبقاء يسرائيل كاتس وزيراً للحرب، وإعلان نتنياهو عن تعيين وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر رئيساً لطاقم التفاوض حول اتفاق وقف إطلاق النار.
التقدير الطبيعي لرفض حماس للشروط الإسرائيلية التي تم تسريبها لبدء مفاوضات المرحلة الثانية، وهي نفي قادتها من غزة، ونزع سلاحها، وإطلاق سراح المختطفين الإسرائيليين كافة.
وتؤكد كل هذه المعطيات أن التوجه الإسرائيلي الجديد يقضي بتمديد مفاوضات المرحلة الأولى لصالح تأجيل المرحلة الثانية التي ستشهد دفع الاستحقاقات الإسرائيلية الكبرى، وهو ما سيجد طريقه للإقرار في اجتماع مجلس الوزراء الثلاثاء 11 فبراير/شباط 2025، فيما سيقتصر بحث الوفد الإسرائيلي في الدوحة على تفاصيل المرحلة الأولى، بزعم ضمان عدم حدوث خروقات أخرى فيها.
نتنياهو أمام "مأزق سياسي"
التحرك الإسرائيلي نحو المرحلة الثانية مع قبول مطالب حماس قد يضع نتنياهو في مأزق سياسي، حيث طالب وزير ماليته بيتسلئيل سموتريتش زعيم حزب الصهيونية الدينية في نهاية المرحلة الأولى بالعودة للقتال بزعم تدمير حماس، واصفاً الانسحاب من محور نتساريم وسط القطاع، والسماح بعودة الفلسطينيين إلى شماله، بأنها "خطوة مؤقتة" وقابلة للعودة للوراء، ولا ينبغي تحويلها لمنحدر زلق وخطير.
في الوقت ذاته، لن يكون سهلاً على نتنياهو تجاهل قلق العائلات التي لا تشمل المرحلة الأولى من الصفقة إطلاق سراح مختطفيها، وعددهم 65 إسرائيلياً مدنيين وجنوداً، لكن إطلاق سراحهم يعتمد على توصل إسرائيل وحماس إلى اتفاق حول بداية "اليوم التالي" في غزة، وفي الطريق إلى هناك، لابد من التغلب على عدد غير قليل من العقبات، مما سيجعل نهايتهم في حالة من عدم اليقين.
ماذا عن معضلة "اليوم التالي"؟
يستعيد الإسرائيليون تجارب سابقة تعزز فرضية تأجيل مفاوضات المرحلة الثانية، أهمها أن عاماً وثلاثة أشهر مرت على اتفاق التهدئة الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2023، فيما استمرت مفاوضات إطلاق سراح غلعاد شاليط لأكثر من خمس سنوات، مما يعني أن المخاوف من أن اتفاقاً آخر لن يدخل حيز التنفيذ إلا بعد فترة طويلة من الآن، تبدو مبررة.
وطالما أن عوامل تأجيل الدخول في المرحلة الثانية تزيد على تلك التي تشجع على الشروع فيها، فإن هذا يعني على الصعيد الميداني بقاء جيش الاحتلال في المنطقة العازلة في قطاع غزة، ويحتفظ بمواقعه البحرية، وتولي مهام مراقبة الحدود، أي التمركز في محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر، وبقاء الفيتو الإسرائيلي على دخول كمّ ونوع المساعدات الإنسانية إلى غزة.
ويمكن استحضار جملة تصريحات أخيرة لنتنياهو الذي أعلن أنه لن يوافق على إنهاء الحرب دون تحقيق جميع أهدافها، وتشمل إعادة جميع المختطفين، وفي الوقت ذاته انهيار حكم حماس في غزة.
فيما طالب كاتس من الجيش بتقديم خطة لهزيمة الحركة إن لم تطلق سراح المختطفين، زاعماً أن أي خطاب عن "اليوم التالي" لم يعد ذا صلة الآن، لأنه لن تحل أي قوة أخرى محل حماس طالما حافظت على قوتها العسكرية، مع أنه يبدو عصياً على الفهم كيف يمكن القضاء على الحركة دون تقديم بدائل تسيطر على غزة في اليوم التالي.
يارون بلوم، منسق الأسرى والمفقودين السابق بين عامي 2017-2022، أكد أن إحدى المشاكل الرئيسية لمحادثات المرحلة الثانية هي تجنب مناقشة "اليوم التالي"، مما سيضع صناع القرار الإسرائيلي في معضلات لا تطاق، وتخلق ديناميكية من عدم الثقة من شأنها أن تفجر المحادثات، خاصة عقب زوال روافع الضغط الإسرائيلية في غزة، وأهمها الانسحاب من نتساريم وعودة الفلسطينيين لشمال القطاع.
وأضاف بلوم أنه بينما تحاول حماس في الداخل البقاء والحفاظ على قوتها في غزة قدر الإمكان، فإنها في الخارج تريد البقاء في قطر وتركيا، وهنا يمكن للولايات المتحدة الضغط عليهما في هذا الشأن، لإجبار الحركة على الموافقة على الشروط الإسرائيلية، وهذا أمر غير مضمون أبداً.
فيما لا تبدو المؤسسة العسكرية والأمنية متفقة مع التراجع الذي تبديه الحكومة عن الشروع في مفاوضات المرحلة الثانية من صفقة التبادل، لأن الأولوية بالنسبة لهم هي إعادة جميع المختطفين، دون استثناء، وعدم تحقيق ما تصفها الحكومة بـ"الأهداف الاستراتيجية الشاملة" على حساب بقائهم في الأسر، كما يزعم الجيش أنه لن يتخلى عن غزة، وسيعرف كيفية التعامل بشكل جيد مع أي تهديد ينشأ فيها حتى بعد الانسحاب الكامل منه، وسيكون ممكناً العودة للقتال.
وتروج الأوساط الإسرائيلية لفرضية مفادها أنه بما أن القوة العسكرية لحماس لم يتم القضاء عليها بالكامل، فلا يُتوقع منها أن توافق على نزع سلاحها، الأمر الذي من شأنه أن يفرض صعوبات هائلة على أي حكومة تأتي في مكانها، بدلاً منها، مما يعني حصول الاحتلال على قدر معين من الحرية العسكرية في غزة، وهو ما ترفضه حماس حتى الآن.
الرافضون والمؤيدون للمرحلة الثانية من الصفقة
يمكن رصد أهم المواقف المعارضة والمؤيدة للمرحلة الثانية من الصفقة، حيث يقف على رأس المعارضين وزير المالية سموتريتش الذي جدد انتقاده لها، مدعياً أن حماس تسعى لفرض نهاية سياسية للحرب، ومعتبراً أن التوقيع على المرحلة الثانية سيكون بمثابة تجاوز للخط الأحمر، زاعماً أن صفقات التبادل السابقة "المتهورة" كلفتنا أنهاراً من الدماء.
فيما زعمت وزيرة الاستيطان أوريت ستروك من حزب الصهيونية الدينية أنه إذا قرر نتنياهو الذهاب بما وصفته "الاتجاه الكارثي"، وهي المرحلة الثانية من الصفقة، فلن نكون قادرين على التواجد في الحكومة، بل والتأكد من عدم وجودها من الأساس. الوزير الليكودي ديفيد أمسالم أكد أن صفقة التبادل ستتوقف بعد المرحلة الأولى، لأن إسرائيل ستعود للحرب بقوة قبل الشروع في المرحلة الثانية، وزعم وزير الثقافة الليكودي ميكي زوهار أنه ليس متأكداً من الشروع في مفاوضات المرحلة الثانية، بادعاء أن حماس لن تسيطر على قطاع غزة، هذا ليس خياراً بالنسبة لإسرائيل.
وزير الشتات من الليكود عميحاي شيكلي عارض بشدة المرحلة الثانية من الصفقة، بزعم أنها تشكل تهديداً وجودياً، وتتضمن تنازلات أمنية صعبة، وتمنح حماس الشرعية لمواصلة العمل المسلح، وهذه كلها استحقاقات تجعلها مرحلة خطيرة للغاية، لأنها تعني إفراغ السجون من الأسرى الفلسطينيين، وإلغاء فكرة السجن المؤبد مدى الحياة، والاضطرار لإخلاء محور فيلادلفيا، وهذا حدث لا يمكننا العيش معه، على حد زعمه.
في الاتجاه المقابل، دعت الأحزاب الدينية لمواصلة الصفقة بمرحلتها الثانية، حيث أعلن وزير الإسكان الحاخام يتسحاق غولدنبف أنه "أيّاً كانت الصفقة التي تعقدها الحكومة، فنحن معها، يتعين علينا أن نسعى لإطلاق سراح الجميع"، وأعلن الوزير يوآف بن تسور، أن ستة وزراء من شاس بقيادة رئيسهم أرييه درعي سيدعمون إبرام المرحلة الثانية من الصفقة، كما وجهت الأحزاب الحريدية نداء لنتنياهو لمواصلة المرحلة الثانية.
كما دعا بيني غانتس رئيس المعسكر الرسمي المعارض رئيس الوزراء للبدء بمناقشة المرحلة الثانية من الصفقة، وفي الوقت ذاته إزالة حكم حماس، ونزع السلاح من غزة، وإشراك المجتمع الدولي في إدارة غزة في السنوات القادمة، والمحافظة على كامل حرية العمل العملياتي فيها.
اللافت في هذه المواقف أن نتنياهو أبلغ وزراء المجلس السياسي الأمني المصغر أنه في حالة فشل المرحلة الثانية من الصفقة، فقد تلقى ضمانات من ترامب باستمرار القتال في غزة، لكن هذه المرة، سيدور القتال بكثافة غير مسبوقة، وبدعم أمريكي كامل، سيشمل زيادة في إمدادات الأسلحة لإسرائيل.
بجانب المواقف الحزبية والسياسية، فقد كشف استطلاع للرأي أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، أن أغلبية ساحقة من الإسرائيليين تؤيد استمرار الصفقة إلى المرحلة الثانية إذا تم تنفيذ المرحلة الأولى كما هو متفق عليه، فيما تركزت الأغلبية الكبيرة جداً في معسكري اليسار والوسط، فقد أيّد نصف الإسرائيليين من معسكر اليمين الانتقال للمرحلة الثانية بنسبة 51%، فيما عارضها 40%.
سيناريوهات متناقضة
ليس سرّاً أن تردد الحكومة في دخول المرحلة الثانية من مفاوضات صفقة التبادل يعود لفشلها في القضاء على سلطة حماس في غزة، رغم أنها وضعته ضمن أهداف الحرب الأساسية، واليوم سيكون إنهاء الحرب بشكل كامل قبل تحقق ذلك الهدف مثار جدل شعبي وسياسي كبير في إسرائيل، لأنه يثير تساؤلات حول استمرار الوجود العسكري الإسرائيلي في المنطقة، وتحقيق أهداف الحرب التي تم تحديدها في البداية.
هذا يعني أن تكون المفاوضات المقبلة، في حال بدأت، معقدة ومتوترة، لأنه سيكون مطلوباً من كل الأطراف اتخاذ قرارات بشأن قضايا أمنية وسياسية وإنسانية شديدة الحساسية، وسيكون لها تداعيات محتملة تتجاوز حدود قطاع غزة، وستثير ردود فعل سياسية وجماهيرية في إسرائيل وعلى الساحة الدولية.
ويكشف السجال الإسرائيلي حول مستقبل مفاوضات المرحلة الثانية، عن تناقض أهداف حماس وإسرائيل بصورة كاملة، فالأخيرة تزعم استعدادها لإنهاء حرب غزة بشرط أن تنهي حماس وجودها كمنظمة مسلحة ذات سيطرة مدنية وسياسية وعسكرية.
أما الحركة فتسعى للوضع المعاكس المتمثل بأن تنهي إسرائيل وجودها في غزة، وتستمر هي بالسيطرة عليها عسكرياً وسياسياً ومدنياً، فيما يُصدر ترامب تصريحات تبعث الأمل لديهما معاً، فهو يريد رؤية نهاية لحرب غزة، وفي الوقت نفسه، لا يريد أن يرى حماس حاكمة للقطاع، مما دفع نتنياهو خلال زيارته للبيت الأبيض لبذل جهود لإقناع ساكنه بأن هذين الشرطين لا يجتمعان معاً.