![](/img/grey.gif)
واشنطن - في عالم السياسة، لا تحدث الانهيارات دفعة واحدة، لكنها تبدأ بتشققات صغيرة، تتسع تدريجياً إلى أن تهدم الأسس التي بدت يوماً صلبة. النظام الدولي، كما نعرفه اليوم، لم يكن وليد توافق عفوي، بل نتاج هندسة أمريكية عقب الحرب العالمية الثانية، حيث أسست واشنطن المؤسسات الدولية الكبرى – الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي (الناتو)، منظمة التجارة العالمية – كأدوات لضمان هيمنتها العالمية، مغلفة ذلك بشعارات مثل حقوق الإنسان، التجارة الحرة، والتعاون الدولي.
على مدى عقود، تكيّفت واشنطن مع تغيرات العالم، لكنها بقيت ثابتة في دورها كقوة مهيمنة، لا مجرد لاعب بين آخرين. إلا أن عودة دونالد ترامب تبدو وكأنها تنبئ بكسر قواعد اللعبة اليوم.
عاد ترامب إلى البيت الأبيض حاملاً فكرة إعادة تعريف موقع واشنطن في العالم، ولكن بمنطق رجل أعمال لا يعترف إلا بالمكسب والخسارة الفورية. لا يرى في التحالفات الدولية الكثير من الفاعلية، ويعتبر المؤسسات الدولية قيوداً تكبّل سيادة أمريكا، والاتفاقيات صفقات خاسرة ربما يجب إعادة التفاوض عليها وفق شروطه وحده. ويرى المحللون والأطباء النفسيون أن هذا النهج ليس مجرد تغيير في الأولويات الاستراتيجية، بل هو انعكاس واضح لشخصيته—رجل لا يستمع إلا لنفسه، مقتنع بعبقريته المطلقة، مهووس بفرض هيمنته على كل شيء، حتى لو كان الثمن هدم النظام الذي جعل أمريكا القوة العظمى الوحيدة في العالم.
في ولايته الثانية، يبدو أن ترامب لم يعد مجرد رئيس شعبوي، بل زعيماً يمينياً يعيد تشكيل العلاقات الدولية بفوضوية، مفككاً المؤسسات، وكاسراً للتقاليد السياسية.
فما الدوافع النفسية التي تجعل ترامب محباً لتحطيم التقاليد، وكسر القواعد، وتفكيك المؤسسات؟ وهل ينبع نهجه من رؤية سياسية مدروسة، أم من اضطراب نفسي يدفعه إلى إثبات تفوقه عبر الهدم لا البناء؟
نظام الهيمنة الأمريكية
لم يكن النظام الدولي الحالي سوى نتيجة هندسة للمؤسسات وترتيبات المعاهدات التي تولّت واشنطن زمام المبادرة في إنشائها خلال العقد الأول بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك الأمم المتحدة، حلف شمال الأطلسي، ومنظمة التجارة العالمية، كمحاور رئيسية لإرساء نفوذها العالمي. هذه المنظومة لم تخلُ من شعارات مثالية—حقوق الإنسان، التجارة الحرة، الديمقراطية، والتعاون المتعدد الأطراف—لكنها كانت في جوهرها أداة لترسيخ الزعامة الأمريكية، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، حين وجدت الولايات المتحدة نفسها القوة العظمى الوحيدة في عالم بدا أنه يسير وفق شروطها.
غير أن هذا النظام، الذي تهيمن عليه الإمبراطورية الأمريكية، تلقّى ضربة عنيفة مع صعود دونالد ترامب، الذي رفع شعار "أمريكا أولاً" منذ حملته الانتخابية، مؤكداً، في خطابه التنصيبي الأول، نيته انتهاج سياسة خارجية تعيد تعريف دور واشنطن في العالم.
كيف يهدم ترامب المؤسسات والمعاهدات الدولية؟
وفقًا لتقرير صادر عن مركز ميلر التابع لجامعة فرجينيا، فإن السياسة الخارجية الأمريكية، التي لطالما ارتكزت على قيادة واشنطن للنظام العالمي، وجدت نفسها أمام منعطف حاد مع صعود دونالد ترامب. فعلى الرغم من عقودٍ من الالتزام المؤسسي بممارسة الهيمنة العالمية، استغل ترامب موجة استياء شعبي كانت قد بدأت بالتشكل منذ نهاية الحرب الباردة، وتصاعدت مع تداعيات الحروب الطويلة في العراق وأفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
هذا الإرهاق العام من التدخلات العسكرية الخارجية، ربطه ترامب بخطابه الشعبوي، متماشياً مع رؤيته للسياسة الخارجية على أنها استجابة لمعاناة "الرجال والنساء المنسيين" في أمريكا، الذين اعتبر أنهم ضحايا العولمة الاقتصادية.
كيف يهدم ترامب المؤسسات والمعاهدات الدولية؟
في عام 2016 لم يكن استخدام ترامب لشعار "لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً" مجرد تكرار لأفكار سابقة، بل كان البداية لظهور حركة سياسية متطرفة – عربي بوست
لم يكن نهجه مجرد انسحاب من الالتزامات الدولية، بل جاء مقرونًا برؤية مزدوجة ومتناقضة تجمع بين العزلة وتعزيز القوة العسكرية، مما أدى إلى إعادة صياغة العلاقات الدولية وفق مبدأ الأحادية، بعيدًا عن الترتيبات المتعددة الأطراف. هكذا، أصبحت إحدى ركائز أجندة "أمريكا أولًا" تفكيك الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف، واستبدالها بصفقات مباشرة بين الدول، حيث تُفرض شروط واشنطن دون قيود مؤسسية.
فكان ترامب صريحًا في عدائه للاتحاد الأوروبي، الذي اعتبره خصمًا اقتصاديًا أكثر من كونه حليفًا استراتيجيًا، ولم يتردد في تهديد حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالانسحاب منه، متذرعًا بأن الدفاع عن أوروبا عبء مالي لا يجب أن تتحمله الولايات المتحدة. ولم يتوقف الأمر عند المجال العسكري، ففي يونيو 2017، أعلن ترامب انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية باريس للمناخ، في خطوة أكدت ازدرائه للتعاون الدولي بشأن القضايا البيئية، وهو القرار الذي سرعان ما ألغاه جو بايدن في أول يوم من رئاسته، لكن فور عودة ترامب وعقب تنصيبه بيوم واحد، أعلن مجددًا انسحاب الولايات المتحدة من اتفاق باريس للمناخ.
وفي خضم جائحة كوفيد-19، أعلن ترامب أن الولايات المتحدة ستنسحب من منظمة الصحة العالمية، التي اتهمها بتبرئة الصين من المسؤولية عن الجائحة. وكما في اتفاقيات باريس، انضمت إدارة بايدن على الفور إلى منظمة الصحة العالمية في يناير 2021. لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى عاد ترامب مرة أخرى ليعلن انسحاب واشنطن مجددًا من منظمة الصحة العالمية، تاركًا المنظمة في حالة استنفار لبحث سبل لتوفير النفقات بهدف سد الثغرة المالية التي سيخلفها الانسحاب الأمريكي. فبحسب المنظمة، بلغت مساهمة الولايات المتحدة نحو 988 مليون دولار في العام المالي 2024-2025، أي ما يعادل 14% من الميزانية الإجمالية للمنظمة البالغة 6.9 مليار دولار.
تفكيك المنظومة الحقوقية والإنسانية
مع اقتراب نهاية ولايته الأولى، ضاعف دونالد ترامب من حملته ضد المؤسسات الدولية، مسلطًا سيف العقوبات والانسحابات على الهيئات التي لم تساير سياساته أو شكلت عائقًا أمام أجندته. في عام 2020، فرضت إدارة ترامب عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، ووضعت قيودًا على تأشيرات دخول موظفيها إلى الأراضي الأمريكية، في محاولة لمنعها من التحقيق في مزاعم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من قبل الجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) وحركة طالبان في أفغانستان.
وبعد عودته اليوم، استأنف ترامب استهدافه للمحكمة الجنائية الدولية، ليستخدم العقوبات ذاتها لحماية قادة الاحتلال الإسرائيلي المتهمين بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية في غزة. وبعد عودته، وخلال أقل من شهر، وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًا لفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وأعلن "حالة الطوارئ الوطنية للتعامل مع التهديد الذي تمثله جهود المحكمة"، بعد أن أصدرت مذكرات اعتقال بحق رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الأمن الإسرائيلي المقال يوآف غالانت، بسبب جرائمهم في الحرب الإسرائيلية على غزة.
لم يكن موقف ترامب من المحكمة الجنائية الدولية سوى جزء من استراتيجية أوسع قوامها تجاهل القانون الدولي وتفكيك المؤسسات متعددة الأطراف. خلال فترته الأولى، لم يعر أي اهتمام لقرارات الأمم المتحدة أو القوانين الدولية المتعلقة بالاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، بل عمد إلى تعزيز نهجه الأحادي في السياسة الخارجية، مُعلنًا في ديسمبر 2017 اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل، ضاربًا بعرض الحائط عقودًا من التوافق الدولي حول وضع المدينة. وفي مايو 2018، افتتحت الولايات المتحدة رسميًا سفارتها في القدس، وسط موجة من الغضب الفلسطيني والدولي.
واليوم، وبعد أن شن الاحتلال حرب إبادة على غزة، خرج ترامب ليعبث في المنطقة مجددًا، فاستضاف نتنياهو في البيت الأبيض وسط مطالب من منظمة العفو الدولية باعتقاله. وبعدما تبادل هو ونتنياهو الإطراء، خلط ترامب الأوراق وخرج بقرارات مفاجئة للكثيرين، طارحًا فكرة استيلاء الولايات المتحدة على غزة وتهجير شعبها، ضاربًا بعرض الحائط كل القوانين الدولية والتاريخ والواقع السياسي المعقد للمنطقة.
وقبل هذا اللقاء، وقع مرسومًا رئاسيًا يقضي بانسحاب الولايات المتحدة من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في خطوة اعتبرها المراقبون ضربة قاسية للعمل الحقوقي العالمي. ولم يكن القرار معزولًا، بل جاء متزامنًا مع استمرار إيقاف تمويل وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا).
وسياسة قطع التمويل لم تتوقف عند الفلسطينيين فقط، فقد أمرت إدارة ترامب بوقف جميع المساعدات الخارجية، غير مبالية بالتحذيرات الصادرة عن مسؤولين حاليين وسابقين في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID)، الذين أكدوا أن هذا القرار قد يُعرّض ملايين البشر لخطر الموت في مختلف أنحاء العالم، خصوصًا في الدول التي تعتمد بشكل أساسي على الدعم الأمريكي في مواجهة الأزمات الغذائية والصحية والصراعات المسلحة.
ترامب والفوضى الاقتصادية: انسحابات عشوائية، حروب تجارية
من الصين إلى أوروبا، ومن كندا إلى المكسيك، منذ ولايته الأولى، تبنّى دونالد ترامب نهجًا اقتصاديًا قائمًا على تفكيك الاتفاقيات متعددة الأطراف، وفرض التعريفات الجمركية، فصنع حالة من عدم الاستقرار في الأسواق العالمية. انسحب من اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (NAFTA)، مستبدلًا إياها باتفاقية الولايات المتحدة-المكسيك-كندا (USMCA)، كما خرج من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP). و انسحب أيضاً، من الاتفاق النووي الإيراني في 2018، دون تقديم أي بديل حقيقي، ثم أعاد فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، مما زاد من التوترات الدولية.
مع عودته إلى البيت الأبيض، صعّد ترامب من نهجه الحمائي، ففرض رسومًا جمركية على الواردات المكسيكية والكندية والصينية والأوروبية، ما دفع هذه الدول إلى التهديد بإجراءات مضادة، في تصعيد جديد للحرب التجارية.
من أين تأتي رغبة ترامب في تدمير النظام العالمي؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من فهم من هو دونالد ترامب، وما الذي يدور في عقل هذا الرجل، الذي يشكل خطرًا على البشرية، وفقًا لما وصفته الطبيبة النفسية باند إكس لي، رئيسة التحالف العالمي للصحة العقلية. ترى إكس لي أن ترامب "شخص نرجسي يرى نفسه وحياته أكثر أهمية من بقية البشر مجتمعين". هذا ليس رأيها وحدها، فمنذ لحظة ترشحه للرئاسة وحتى نهاية ولايته الأولى، كان الباحثون والصحفيون منشغلين في النبش في ماضي ترامب ومحطات حياته، بحثًا عن إجابة للسؤال المحوري: لماذا يتصرف بهذه الطريقة؟
العديد من علماء النفس، من بينهم جون كارتنر من جامعة جونز هوبكنز، ولانس دودس الباحث في السلوك القهري الإدماني، وجاست فرانك، الطبيب النفسي الذي مارس المهنة لأكثر من أربعين عامًا، أجمعوا في أبحاثهم حول شخصية ترامب على أنه مصاب باضطراب "النرجسية الخبيثة"، وهو مرض خطير حدده عالم النفس الشهير إريك فروم في عام 1964. يتكون هذا الاضطراب من مزيج شديد من النرجسية، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، والسادية، والشعور بالعظمة. وبحسب هؤلاء الخبراء، فإن ترامب غير مؤهل ليكون على رأس الولايات المتحدة الأمريكية، فهو مهووس بذاته، يسعى وراء مجده الشخصي، وليس لجعل "أمريكا عظيمة مجددًا" كما يدّعي.
رئيس لا يستمع إلا إلى نفسه
هذه النزعة النرجسية تدفع ترامب إلى الاعتقاد بأنه في غنى عن أي مشورة، فلا يستمع إلى مستشاريه أو طاقم حكومته، رغم أن معرفته بالقضايا الخارجية لا تتعدى، وفقًا لما وصفه وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، مستوى "طالب في الصف الخامس أو السادس الابتدائي". هذا الوصف نقله الصحفي الأمريكي المخضرم بوب وودورد في كتابه "Fear: Trump in the White House"، وهو نفس الصحفي الذي كشف فضيحة ووترغيت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في سبعينيات القرن الماضي.
لم يكن الأمر مجرد انتقاد داخلي، فشخصية ترامب تجعله مقتنعًا بأنه لا يحتاج إلى أي استشارة، وقد اعترف ترامب نفسه بهذا النهج، ففي مقابلة مع قناة MSNBC، وعندما سُئل عن مستشاريه في القضايا الخارجية، رد بكل غرور: "أستشير نفسي في المقام الأول، لأن لدي عقلًا جيدًا جدًا… أستمع إلى آراء الكثير من الناس، لكن مستشاري الرئيسي هو نفسي".
هذه القناعة دفعت ترامب إلى تعيين شخصيات تفتقر تمامًا إلى الكفاءة في المناصب الحساسة، شرط أن تكون موالية له. خلال ولايته الأولى، اختار جيسون غرينبلات، المحامي الذي لم يسبق له العمل في أي موقع دبلوماسي ويفتقر إلى أي إعداد رسمي، ليكون مبعوث البيت الأبيض إلى الشرق الأوسط، رغم أن خبرته في المنطقة لم تتعدَ تأليف "دليل سفر عائلي لإسرائيل"!
وفي ولايته الثانية، لم يكن يتوقع أن يتغير نهج ترامب، بل ازدادت هواجسه النفسية هشاشة، التي حاولت الطبيبة النفسية باند إكس لي شرحها في كتاب "The Dangerous Case of Donald Trump"، حيث أوضحت مدى خطورة بقائه في السلطة على العالم.
لذلك، لا عجب اليوم في مظهر البيت الأبيض، مع عودة ترامب وبصحبة أتباعه عديمي الخبرة والكفاءة على رأس الإدارة الأمريكية. إذ يكفي أن نذكر أنه عيّن مذيعًا تلفزيونيًا لمنصب وزير دفاع أقوى جيش في العالم! ناهيك عن تصريحاته وقراراته المتهورة في السياسة الخارجية، والتي تستعدي الحلفاء قبل الأعداء، مثل تهديده بضم كندا، واحتلال جرينلاند، والاستيلاء على غزة.
فوضوي العصر
بينما يروج ترامب لنفسه باعتباره "صانع الصفقات والسلام في العالم"، يراه الخبراء والمحللون مدمرًا للنظام الدولي. في هذا السياق، تساءلت مارغريت ماكميلان، أستاذة التاريخ الدولي بجامعة أكسفورد، في مقال لها في مجلة فورين أفيرز الأميركية: "هل ترامب هو بغل عصرنا؟"، مشبهة إياه بالشخصية الخيالية من ثلاثية الخيال العلمي الكلاسيكية لإسحاق أسيموف، حيث ظهر "بغل" يتمتع بقوى غير عادية وملايين الأتباع المخلصين، وكان يهدد بقلب العالم رأسًا على عقب.
لكن في الواقع، لا يمكن إلقاء اللوم كله على ترامب، فعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لن تعني نهاية ما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي، لسبب بسيط: هذا النظام قد انتهى بالفعل. هذا ما يوضحه أستاذ العلوم السياسية في جامعة كليرمونت ألكسندر كولي، في مقال مشترك مع الباحث دانييل نيكسون، حيث يجادل الكاتبان بأن ما يسمى بالنظام الدولي الليبرالي هو في الواقع امتداد للبنية التحتية للقوة الأمريكية.
وقد صُمّم هذا النظام لحماية المصالح الأمريكية، معتمدًا على المعايير والمؤسسات والتحالفات التي منحت واشنطن قدرة لا مثيل لها على التأثير في الدول الأخرى، وتنسيق الاستجابات للتهديدات الناشئة، وضمان التعاون في القضايا التي تراها حاسمة لأمنها القومي. بمعنى آخر، حتى السياسة الخارجية التي لا تهتم إلا بالحفاظ على الهيمنة الأمريكية، كانت ستجد مصلحة في الحفاظ على ركائز هذا النظام، لا تفكيكه.
إذ يزعم الكاتبان أنه لأكثر من نصف قرن، استمدت الولايات المتحدة قوتها الناعمة من دورها كمدافع عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما جعلها تكسب ولاء دول عديدة حول العالم. لكن اليوم، أصبحت هذه الرؤية المتفائلة بعيدة تمامًا عن الواقع المعقد للسياسة الدولية، حيث تواجه واشنطن اتهامات متزايدة بالنفاق.
ففي الوقت الذي تقدم فيه إدارة بايدن الحرب في أوكرانيا كصراع بين الديمقراطية والاستبداد، لم يلق هذا التأطير أي صدى لدى دول الجنوب العالمي، التي ترى في الخطاب الأمريكي محاولة جديدة لفرض الهيمنة الغربية على العالم. فالولايات المتحدة، التي تروج لمفهوم "النظام القائم على القواعد"، تجاهلت تلك القواعد تمامًا عندما دعمت الغزو الإسرائيلي لغزة، دون أي مساءلة. هذه الازدواجية زادت من نفور الكثير من الدول، التي باتت ترى في الخطاب الغربي أداة لإملاء السياسات الاقتصادية، والتدخل في الشؤون الداخلية، وتقويض السيادة الوطنية.
وفي مقالهما، يوضحان أنه مع صعود ترامب، يتغير المشهد تمامًا. إذ إن ترامب واتباعه يهدفون إلى تدمير هذه الشبكة من النفوذ التي استغرق بناؤها أكثر من نصف قرن. وبدلًا من تعزيز المؤسسات الدولية التي خدمت المصالح الأمريكية لعقود، يتجه ترامب إلى نسفها تمامًا، منسحبًا من الاتفاقيات، والتحالفات، والمنظمات متعددة الأطراف.
الكاتبان يؤكدان أن انسحاب واشنطن من الاتفاقيات والتحالفات لا يعزز أمنها القومي، بل يعرضه للخطر، إذ إن الصين وروسيا تعملان بشكل متزايد على تقويض النفوذ الأمريكي في النظام الدولي، لكن بأسلوب مختلف تمامًا عن ترامب.
فبدلاً من مهاجمة المؤسسات الدولية القائمة مثل الأمم المتحدة، تعمل الصين وروسيا على توسيع نفوذهما ودعم شرعية المؤسسات الدولية والتعددية، كما أنهما يبنيان مؤسسات جديدة تنافس الهياكل التي أنشأتها الولايات المتحدة، مما يمنحهما بديلاً عن المنظومة الغربية التقليدية.
وبالفعل، حققت الصين تقدمًا كبيرًا من خلال إنشاء مؤسسات ومنتديات متعددة الأطراف، مثل "مجموعة البريكس"، التي تضم البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، وتوسعت حديثًا لتشمل قوى أخرى مثل السعودية والإمارات ومصر. كما أنشأت البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، كمنافس مباشر للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكلاهما يخضعان لنفوذ واشنطن.
ولا يسعنا في النهاية إلا ذكر قول الفيلسوف والمناضل الإيطالي أنطونيو غرامشي: "العالم القديم يحتضر، والجديد يكافح من أجل الولادة، والآن هو وقت الوحوش".