محمد نعيم فرحات
يمثل اليمن أقدم وأعمق بنية اجتماعية تؤرخ للعرب، ويشكل مع بر الشام والهلال الخصيب وامتداداتهما، قوس العروبة الثقافية والروحية والسياسية. ولطالما كان فهم اليمن وأعماقه يتشكل كـ»حقل سوسيو- ثقافي سياسي» من نوع خاص يغري بالتورط المعرفي فيه ومقاربة أبعاده كافة.
عبر تاريخه العميق كان اليمن بذاته، وبما هو حيز جغرافي سياسي له دور يؤديه، بما يتجاوز حدوده الجغرافية، أنتج وقدم نماذجه في: الدولة وحكم المرأة والزراعة والري والسدود. وفي قوة الاعتقاد والحكمة والصبر وثقافة الحرب والسلم وركوب أعالي البحار. وفي التكيف مع بيئته وتجربة العمران المتسلق لأعالي الجبال، التي تقيم فوق الغيم، فطوَعها وسكنها وطوَع نفسه معها ومع مجازاتها المترامية، وتعود على استطلاع الآفاق والأزمنة بعينه المجردة وفطنته أكثر من استخدامه للوسائط والأدوات.
ما يتميز به اليمنيون عن أغلب، إذا، لم يكن عن كل المجتمعات العربية، هو تكامل رؤيتهم لأنفسهم إلى حد بعيد، ورسوخ هويتهم وتجانسها العام، وأنهم قد نجوا إلى حّد ملموس من حالة التوتر والانفصال التي تقوم بين خيارات وعيهم من جهة، ومتطلبات الوجدان من جهة أخرى، وهذه الحالة ظلت تشتغل عند أغلب العرب، كأزمة بنيوية شخصية وجماعية كانت لها وما زالت تكاليفها الباهظة في حياتهم.
«ثقافة التوكل» الشجاع والصبور التي لها سريانها العميق في الشخصية اليمنية بكل ما يترتب عنها من التزامات، هي التي يعتمد عليها اليمنيون للتعبير عن نفسهم وخياراتهم، وكانت لها مساهمتها في صياغة تاريخ اليمن وأحداثه ودوره وتعبيراته عن نفسه. طاقة التوكل وقوة الإجماع والانسجام عند اليمنيين بين النوايا والخيارات، حررتهم إلى حد بعيد من الاعتبارات التي تتحكم في سلوك العرب الآخرين، وطريقة الحساب التي ينتهجونها التي تفضي بهم للخسارة عموما. وهذا ما يفسر إلى حد مهم التوافق الذي يقوم بين اليمنيين والخيارات التي تشبههم، وكيف يذهبون إليها ببساطة مدهشة وبعزم شديد وبنكهة ذات طابع يمني خاص متحررين من مناورات التذاكي العربية المتعبة في إدارة النفس والروح والمقدرات.
***
التزام اليمن بفلسطين وروابطه معها، ليس وليد الظرف الراهن، إنه امتداد لموروث عميق وقديم، مبني على منطلقات أخلاقية وروحية وإنسانية واستراتيجية، واليمنيون الحاليون، من حشود الساحات المدهش في كل شيء إلى المسيرات فالموقف، يستأنفون صنيع أجدادهم الذين ساهموا على نحو حاسم في استعادة فلسطين من الرومان بعد ظهور الإسلام، الذي قدم العرب كقوة وحالة تحمل رسالة، كان فيها لليمن مع بر الشام والهلال الخصيب دور حاسم في كل صعيد منذ بداياتها قدما إلى حيث وصلت على مدار الزمن.
في الأزمنة المعاصرة اعتقل حكم «الإمامية» دور اليمن وقدراته الاستراتيجية في حدود ما كان يراه الإمام ويتقصده، وفي عهد الجمهورية كان ممنوعا على اليمن إطلاق هذه القدرات، وكل من حاول من الزعامات والحركات الأولى التي عرفها اليمن المعاصر كان يدفع ثمن ذلك. في عهد الرئيس علي عبد الله صالح باعتباره من أطول العهود، استخدم القدرات الاستراتيجية لليمن في حدود معينة، على نحو كان يخدم رؤيته ويراعي فيها الآخرين ويساومهم معا، وكان التصرف فيها، (استخداما ومنعا) من أهم ما توفر لديه من عوامل القوة في لعبته السياسية الإقليمية والدولية.
من أهم ما ترتب عن نتائج الحرب المركبة التي شهدها اليمن في العقد المنقضي، أنها أطلقت سراح القدرات الجيو- استراتيجية والجيو- ثقافية وتاريخية لليمن، وسط ظرف بالغ الصعوبة والتعقيد، وقالت بالملموس للعرب حصرا وعيناً، بأن مشكلتهم ليست في الإمكانيات والمقدرات والظروف، بل هي في النوايا والمواقف، وفي طريقة وعيهم لأنفسهم ومصالحهم وحقوقهم واستثمار قدراتهم وإدارتها.
تطورات الصراع الدائر في فلسطين وعليها، وما يترتب عنه من تأثيرات وظلال في حياة محيطها الحميم وما تثيره فيه من مشاعر وتحديات، شكل المنصة التي دخل منها اليمن مختارا وبكامل وعيه ووجدانه معا، إلى المسرح الاستراتيجي الإقليمي والعالمي كموقف وكقوة مقبلة وصاعدة ذات طبيعة خاصة تأخذ مكانها على نحو لافت في الخطاب والوعي والواقع، في لحظة ضائقة صعبة يمر بها الإقليم وكل المنخرطين في صراعه وقضاياه.
وقد عبّر اليمنيون على طريقتهم عن موقف فرط ـ ثقافي وأخلاقي بالغ الأهمية والأثر والصدى والمعنى والخصوصية في الإسناد والمناصرة والمشاركة، ورسموا بذلك «معادلة ما» ما زالت فعالة ومؤثرة ومتصاعدة في مواجهة النزعة الفرط – أيديولوجية والفرط -عدوانية التي تحكم إسرائيل وحلفائها الغربيين والموضوعين في التعامل مع المنطقة وشعوبها وحقوقها، تفصح عن نفسها بصورة فرط – متغطرسة ومغالية في الرهانات.
***
إدراك ما يجري في الشرق الأوسط وأدوار اللاعبين المنخرطين في صياغة أحداثه وفي توجيهها، يتطلب منهم أن يطالعوا مشهده واحتمالاته على نحو مختلف عما يفعلون، وفيما يخص اليمن يحتاجون لأن يتعرفوا عليه وعلى خصائصه وطريقته في التفكير، كمجتمع وكثقافة وكمكان له عبقريته الخاصة، وأن يتأملوا كيف أن الوعي الجمعي لليمنيين، لا يستغرق وقتا كي يناقش نفسه: كيف يكون؟ وأين يكون؟ عندما يتعلق الأمر بالقضايا التي يجمع عليها ويستبطنها، أو عندما يكون الاختيار المطروح بين: الجسارة ومتطلباتها، أو كمين النجاة عبر الحسابات الخاسرة التي يقع فيها لاعبون كثر في الإقليم وينجو منها اليمن.
فقه اليمن يقول، إنه ليس أحجية، وليس مفاجأة، إنه حالة حقيقية فعلية لها خصائصها وأسرارها، ليس في أعرافه فعل الانهزام أمام التحدي، ويتعين على الجميع قريبين كانوا أم بعيدين، أن يأخذوا خصائصه بعين الاعتبار عند التعامل معه تفاهما، وأن يتحسبوا منها إذا ما أساؤوا فهم اليمن!
*كاتب وأستاذ جامعي من فلسطين