القصيدة المُسنّة

2024-10-26

تعبيريةأثير الهاشمي

 

للشعر أثر، يُخطّ من الروح، أو من القلب، وهو في النهاية رأي ٌ يفترضه الشاعر بصدقهِ أو خيالهِ، بفرحهِ أو بحزنهِ، بما يورده من معان مباشرة أو مضامين رمزية، فالمتلقي يُفسّر الشعر بما يقرأ، وعلى قدر ثقافته ووعيهِ وفهمهِ للشعر، وبالتالي قد يكون المتلقي، مؤلفاً آخر للنص، من خلال الفهم أو التحليل أو الاستنتاج. ووفق ذلك، لا نستطيع نحن القرّاء، أن نجزم فهمنا للشعر، ولا نستطيع القطع بما يكتبه الشعراء، أو ما يقصدونه، ومن ثم نحن قرّاء نفهم الشعر، حسبما يَرِد إلينا من لغة أو إيحاء، وما نورده من نقدٍ وتحليل.
للشعراء فهم خاص عن الحياة، يتشابهون في ما بينهم، ويختلفون عن الآخرين، فهم لهم الحرية في إيجاد لغة مناسبة لمشاعرهم، ولرؤيتهم، ولمشاهداتهم، ولتجاربهم؛ وبذلك تكون لغتهم الشعرية مفعمة بالبلاغة اللغوية، فهم يُظهرون ما هو مخف، ويخفون ما هو ظاهر، وبالتالي تكون رمزية الأشياء لديهم مُفعمة بالمعنى المُراد، والمغزى الشعري عندهم موثوق بالطريقة المُثلى، والأداء المتين، وكلّ شاعر حسبِ ثقافتهِ ووعيهِ وتجربتهِ. حاول العديد من الشعراء، منذ الشعر الجاهلي، حتى يومنا هذا، أن يخلقوا روحية اللغة، بوصفهم للحياة، من خلال المعنى المُراد صياغته، بالطريقة التي يُريدها الشاعر، وبالأداء الذي يسعى إليه، فالحياة لديهم متعبة غير سارّة، والعمر لديهم حفنة من الألم، يمضي مسرعا مثل أيّ حلم، خاصة عندما يكتب الشعراء نصوصهم نهاية العمر، فتكون القصيدة (مُسنّة) بألفاظها ومغزاها؛ ووفق ذلك تكون المعاني مُعتّقة بالنضوج في فهم الحياة. إنّ أبلغ من تحدّث عن وصف الحياة في حزنها، كان أبو العلاء المعرّي، بوصفه شاعراً مختلفاً، متشائماً؛ بسبب العمى، وما حلّ به من تجارب مُغايرة مع الآخرين، فالحياة لديه كما يقول:
تعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْـ
جَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ أضْعَا
فُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
يرغبُ الشاعرُ المعرّي أن يسلك طريق العارفين، وأن يُحيط آراء العالمين بلغة الحياة ومأساتها، ولغة الموت وتجلياتها، فهو البصير بتجارب الحياة، على الرغم من عماه، وهو العاقل بمواجهة الجنون، وهو المجنون الذي لا يثق بالعقل أحيانا؛ لذلك فالحياة لديه مجرد رحلة متعبة وشاقّة، إنْ قصرت يوما، أو زادتْ عدة أيام، فالحزن يُحَسّ به لديه، كما الفرح الذي يُشهر فيه عنده، فلا هذا يدوم، ولا ذاك يبقى. ومثله، نجد الشاعر عبد الله البردوني، فهو يشبه المعرّي في حزنهِ، وفي تشاؤميتهِ، وهو الشاعر البصير، الذي يتمنى مجيء الموت إليه، فالحياة لديه موت، والموت عنده حياة، فالأمران متعاكسان غير متجاذبين لديه، لكنه إلى الموت أقرب، بما يرغب ويتمنى، وفي ذلك المعنى يقول:
يا حياتي ويا حياتي إلى كم
أحتسي من يديك صاباً وعلقم
وإلى كم أموت فيك وأحيا
أين مني القضا الأخير المحتم
أسلميني إلى الممات فإني
أجد الموت منك أحنى وأرحم
وإذا العيش كان ذلاً وتعذيباً
فإن الممات أنجى وأعصم
تتجلّى لغة الموت لدى البردوني بوصفها الخطاب المحتوم، الذي لا بدّ منه، إذ إنّ الموت عنده ليس عقيماً، بل الحياة لديه بائسة، فهو المتشائم من صيرورتها، والحزين من أيامها القصيرة، الحبلى بالذلّ والألم والعذاب. إنّ الحياة لدى الشعراء قصيرة، مهما طالت الأيام، وتعدّدت السنوات، فلا بدّ من انقضائها، ولا بد ّ من نهاية أكيدة، كما في لغة الشاعر محمد مهدي الجواهري، وما يؤرقه من الحياة لؤمها، وما يزعجه منها بؤسها، إذ يقول:
سائلي عما يؤرِّقُني
لا تسلْ عني.. ولا تَلُمِ
حالَ رَيْعانُ الشُّموس ضحىً
وتمشّى الثلجُ في الضَّرَم
وانْطَوَتْ دُنيايَ في كَفَنِي
وتَقَضّى العُمْرُ كالْحُلُمِ
وتمطّى «الغولُ» مُحتَقِناً
من دمٍ يمتصُّ وهو ظمي
ألفُ أُظفورٍ بألف يدٍ
ألفُ نابٍ بينَ ألف فم
ورؤى الأطياف تجرُفُني
قَشةً في سيلها العَرِم
فأنا كالموج منصرماً
في عُباب غيرِ منصرم
تهيمن في لغة الجواهري التشاؤمية، وانطوائية الحياة، إذ إنّ لغة الموت حاضرة في صوتهِ، من خلال احتضان الكفن للحياة، ومن ثم تشبيهه للعمر بالحلم الذي يمضي مسرعاً، فلا قيمة للعمر لديه؛ لأنه يشبه الحُلم في وقتهِ، يمرّ مسرعاً، كذلك الأيام تركض على عجالة من العمر، وهذا ما أكّده أيضا الشاعر بدر شاكر السياب في أن العمر لا قيمة له، في حياة بائسة يمشيها بعكازة على دروب الهرم، إذ يقول:
فما قيمة العمر أقضيه أمشي
بعكازة في دروب الهَرَم؟
ومن أين للروح هذا البقاء؟
فناءٌ، فناء
إذا مات أو عاش فهو الألم.
يصوّر السياب الحياة كونها مجرد رحلة مؤقتة تنتهي إلى فناء أكيد، إذ إنّ الجسد في هذه الحياة يؤول إلى نهاية الفناء، والحياة ما هي إلّا ألم نحسّ به، ونشعر فيه، حتى إنه يشبّه دروب المدينة بالحبال من الطين تمضغ قلبه وتحرقه، وأخرى حبال من النار تجلد عرى الحقول الحزينة:
وتلتفّ حولي دروب المدينة حبالا من الطين يمضغن قلبي ويعطين عن جمرة فيه طينة حبالا من النار يجلدن عرى الحقول الحزينة ويحرقن جيكور في قاع روحي ويزرعن فيها رماد الضغينة إنّ لغة الحياة لدى الشعراء لغة تشاؤمية، غير مُحبّذة في تصوراتِهم، وغير مقنعة في هواجسهم؛ لأنّ مصيرها إلى فناء، فالعمر، يمضي مُسرعاً كالحلم، ومن ذلك ما قاله الشاعر محمود درويش:
أما كان في وسعنا أَنْ نُغافِلَ أعمارَنا
وأَنْ نَتطلَّع أكثرَ نحوَ السَّماء الأخيرة قبل أول القمر؟
أُحِبُّ الرَّحيل إلى أَيِّ رِيحٍ..
يتجلّى العمر لدى درويش بوصفهِ إيقونة حالمة، لكنها مُدركة لنهاية غير سارّة، فالموت لا يرضَى إلّا بأجسادِنا وهي تُدفن تحت الأرض، لتكون رماداً ليس إلّا.
ومثل ذلك المعنى ما نجده في تعبير الشاعر فوزي كريم:
أعمارُنا حفنة ٌ من سجائر
تُطفأ في راحةِ الكفّ، سيجارة ً إثرَ سيجارة
وأنا مولعٌ بتواتر أعدادها
أستعين ُ، إذا خَفِيتْ، بالأصابع..
يقدّم الشاعر فوزي كريم لغة الحياة/ مُعادلاً للرماد، فالعمر لديه، حفنة من السجائر، التي تنطفئ سجارة بعد أخرى؛ لتكون رماداً من اللاشيء، فالجسد لديه كالسجارة، تنتهي بالرماد، ونحن إذ نموت، تكون الأجساد رماداً خالصاً، حسبما يرى. إنّ العمر واحة قصيرة، لا يمكن أن تدوم، فالإنسان يُبلى كما تُبلى الأقمشة، أو الخرقة بما تُوصف، أو الخيط الذي يُغزل من الألم، كما وصفه الشاعر عدنان الصائغ، إذ يقول:
لأُمّي، مِغْزَلُها
يَغزِلُ العُمرَ…
خيطاً رفيعاً، من الآهِ
كانتْ تَبُلُّ أصابعَها – إِذا انقطعَ الخيطُ من حَسْرةٍ –
ثم تَفْتِلُهُ…
فمَنْ ذا الذي، سوف تَفْتِلُ خيطَ الزمانِ…
إذا ما تقطّعَ بالآهِ ـ يا قُرَّةَ العينِ ـ
يُضفي نص الصائغ هنا بلاغة القول الموجزة، فهو يجعل من العمر خيطاً رفيعاً من «الآه»، تغزله أمه ثوباً يطوي جسده، فلا مناص عنه، وإن تقطّع، من الحسرة، سيُفتل من جديد، فالحياة هكذا، لا تدوم لديه، إذ يُشبّه العمر بالخيط الرفيع الذي تغزله أمه من الآه. يحاول الشاعر ربط العمر بالألم، فالجسد لا محالة بالٍ في أيّ وقت، كما يُقطع الحبل الرفيع، ووفق ذلك تكون الصورة الشعرية هنا نابضة بالحزن المقرنة بصورة أصابع الأم (الرامزة للحنان) وهي تغزل الآه خيطاً خيطاً؛ لأنْ يكون العمر رفيعاً، مُحاكاً بما يكفي من الألم.

*كاتب عراقي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي