حسن داوود
العنوان الذي هو «الآن بدأت حياتي» يشمل كلا من النساء الثلاث والرجلين، هؤلاء الذين تحكي الرواية حكايتهم. أول من كانوا مدركين لبداية الحياة هذه هما، يوسف وزوجته ريما، وقد أنهيا توضيب حقائبهما وها هما يستقبلان المودعين في سهرة في منزلهما. إياس أيضا يرى أن حياته الجديدة تبدأ الآن مع مجيء لين إلى بيته، هكذا من دون مناسبة ولا دعوة. أما المرأة الثالثة (صفاء) طليقة إياس وأم طفله فكانت قد «بدأت حياتها» منذ سنوات غير كثيرة، مسجّلة بذلك سبقا على كل الحالمين بمغادرة بلدهم سوريا، أو مدينتهم اللاذقية.
في سهرة الوداع هذه، في المنزل الذي تقام فيه، تجري وقائع الرواية كلها ويكتمل مداها الزمني. أعني من لحظة وصول أولئك الذين بكّروا بالمجيء إلى السهرة حتى انفضاضها الكارثي. هناك منزل مكمل لذاك المجال المكاني وهو بيت إياس، وهو يقيم فيه وحده منذ ما بعد طلاقه من صفاء، أول مهاجرات المجموعة. البيت هذا، يكاد يكون، في مجرى الرواية، غرفة من غرف بيت السهرة، إذ يستكمل فيه بعض مما كان يجري فيها. لكن من دون أن نغفل، نحن من نقرأ الرواية، عن أن تذكّر صاحبه المقيم فيه ضروري لرجوع الرواية إلى الزمن الذي سبق.
نبدأ الفصل الأول من الرواية مع أنس الذي يستقبل لين زائرةً من دون دعوة. كان واضحا أن علاقة ستبدأ بين الرجل وزائرته، على ما نقرأ عادة في روايات الغرام. لكننا لن نلبث أن نعلم أن ذلك اللقاء المفاجئ، الأليف والحميمي، قائم على تاريخ معقد اشتركت في نسجه المجموعة كلها، النساء الثلاث والرجلان. فقط أنس، وهو الذي بدأت به الرواية، كان ساهيا عما جرى في ذلك الماضي إذ لم يشارك فيه إلا بكونه زوجا لامرأة أقامت، من دون أن يعلم، علاقة مع صديقه يوسف. كان هذا الأخير ناجحا في عمله في المحاماة ووارثا عن أبيه، المحامي أيضا، عقارات وأملاكا واسعة. فوق ذلك كان يوسف هذا قد أقام علاقات مع نساء تلك المجموعة، ما جعل المحقّق الرئيسي في مصرعه المفاجئ يتأكد من أن الضحيّة يوسف هذا «أحبّ صفاء، ومارس الجنس مع لين، وعاش مع زوجته ريما».
النصف الأول من الرواية يذهب عميقا في تحليل شخصية كل من هؤلاء، كأفراد أولا، وكمشاركين في الحياة التي يصنعها قربهم من بعضهم بعضا. كل من هؤلاء يعيش أزماته الخاصة المكونة لشخصيته، من ضمن محنة علاقته بالآخرين. صفحات عديدة من الرواية نقلت تفاصيل تلك الأزمات المتداخلة، وقد بدا أن هذا الاسترسال المعمّق في تفرّعاتها سيستمرّ حتى بلوغ تلك الشخصيات مصائرها. لكن في سياق ذاك السرد النفسي والاجتماعي تحدث واقعة انتحار يوسف أو واقعة مقتله المفاجئة. كانت تلك ذروة السهرة غير المتوقّعة، التي أدخلت إلى الرواية شخصيات جديدة بينها المحقّق الرئيسي والمحقّقان المساعدان، وكذلك ذاك الرجل النافذ في أوساط المراجع العليا، وهو خال الزوجة التي تحوّلت لتوّها إلى أرملة.
التحقيق ذاك استغرق النصف الثاني من الرواية إذ تداخلت فيه مسائل ودوائر نفوذ، مما سيبقي الجريمة غامضة الأسباب والدوافع. أما ما ستعلنه الصحف والإذاعات التي انشغلت بالحادثة، فينبغي أن يظهر بعد ساعات حدّدتها المراجع. فاستجابة لظن الناس أن يوسف لم يقض منتحرا، عمدت السلطات إلى البحث عن مجرم قاتل، وهكذا تألّفت رواية أخرى، سلسلة وقائع بعضها حقيقي وبعضها ملفّق لتقع التهمة على لين، التي (ستبدأ حياتها من جديد) مع إياس الذي بدوره اعتبره التحقيق شريكا لها في الجريمة هو الذي، أيضا، كان (سيبدأ حياته من جديد).
بدا ذلك في الرواية وكأن الجريمة حطّت في ذاك العالم المعقّد، لكن الأليف والمنطوي على ذاته. هذا ما كان ينبغي أن يغيّره ويغير سياق الرواية من أزمات العيش اليومي إلى تحقيق قانوني تتداخل فيه أوامر وإملاءات ومصالح تأتي من خارجه، لكن، مع ذلك، أمكن للروائي أن يُبقِ ما كان بدأه من البحث في أزمات أبطاله قائما، بل إن التحقيق الذي أجري بدا قادرا على كشف ما كان صعبا كشفه من علاقات هؤلاء.
في خلفية ما يجري، وفي أحيان قليلة في مقدّمته كانت تظهر أزمات العيش متأتية من فضاء أكثر عمومية من المجال الذي يتحرك فيه هؤلاء الخمسة. نبدأ بذلك من سهرة الوداع تلك، حيث بدا السهر توق الجميع، ثم من تداخل القرابة بالقضاء، حيث رفض نذير أن تُتّهم ابنة أخته بالجريمة، قائلا للمحقّق، إن هذا خارج النقاش، ثم أخيرا، هناك لين التي اتُّفق على أن تكون هي القاتلة، وذلك لمصلحة الجميع.
يعرف سومر شحادة أن يكتب رواية علاقات حميمة وعميقة في بلد تطغى موضوعاته الكبرى على خيارات الكتابة فيه. فلنقرأ «الآن تبدأ حياتي» لنعرف كيف يمكن ذلك.
رواية «الآن بدأت حياتي» لسومر شحادة، صدرت عن «دار الكرمة» في 198 صفحة، سنة 2024
كاتب لبناني