كمال القاضي*
المُفترض والبديهي في السينما أن تُفضي كل مُفردات الفيلم من سيناريو وحوار وديكور وموسيقى تصويرية وإضاءة وتمثيل، إلى مضمون يتم توجيهه إلى حيث يُريد المخرج، أو ما يهدف إليه الفيلم نفسه، وإذا تصادف وجود عمل فني تكتمل كل عناصره الفنية، ولم يُحقق ما يهدف إليه، يُصبح هناك خللاً ما في أي من أدواته المُشار إليها، وعليه يظل هذا العمل سواء كان فيلماً أو مسرحية أو مسلسلا، مُبهراً ومُسلياً لكنه ناقص.
أعتقد أن فيلم «أفريكانو» للمخرج عمرو عرفة، الذي أنتج عام 2001 نموذجاً من الأفلام التي تنتمي لهذا النوع، فقد استخدم صُناعه تكنيكاً عالياً في توظيف الأدوات، لكنهم أهملوا الأدوات ذاتها فجاءت صناعتهم براقة خالية من العُمق، تهتم فقط بالشكل، وتفتقر للكثير من الناحية الموضوعية.
منذ اللحظات الأولى ومع بداية عرض التترات على الشاشة انتاب المُشاهد إحساس بحدوث مفاجأة، وأخذته للوهلة الأولى دهشة قوية من الاستخدام الذكي للغرافيك والطريقة الجديدة في كتابة أسماء الأبطال وفريق العمل بشكل مُختلف، ربما لم يحدث من قبل في أفلام أخرى بهذه المهارة وعلى هذا النحو من المستوى المُتقدم في حينه. ولعل المُثير في هذا الخصوص وفي تلك الفترة هو استخدام الشُعلة لتعظيم الإحساس، بأن هناك خلفيات درامية وراء هذا الشكل، لاسيما وأن المعهود هو أن توحي المقدمة بما تنطوي عليه الأحداث، فقد رأينا أسماء الأبطال تخرج من بين اللهب تُصاحبها أصوات تُصيب بالفزع وتجبرك على الانتباه، وهي إشارات لها دلالات في أغلب الأحيان، لكنها في فيلم «أفريكانو| بالذات غابت تماماً ولم يظهر لها أي أثر يُبرر استخدامها.
الفيلم يبدأ بمشهد للبطل أحمد السقا وهو يُحاول الهروب من أسد يواجهه في إحدى الغابات، وقبل أن يلتهمه الأسد نكتشف أن المطاردة ما هي إلا كابوس يلازم البطل ويداهمه على فترات. وبعد دقائق تُنبئ الأحداث بهوية البطل لنعرف أنه طبيب بيطري، يُعاني من بيروقراطية رئيسه في حديقة الحيوان التي يعملان فيها معاً، ويفشل الأول في استكمال دراسته العُليا والحصول على درجة الماجستير، نتيجة تعنت رئيسه إدارياً معه وإحباط كل محاولاته لتحقيق هدفه العلمي.
وتتوالى الأحداث والمشاهد التمهيدية التقليدية التي يُخفف من وقعها الرتيب الأداء الكوميدي لأحمد عيد الذي أثبت أن فن الكوميديا قائم على التلقائية وأنه في وجود الموهبة لا يعد عملاً مُعضلاً. وبين عدة مشاهد مُتباينة ما بين الكوميديا والرتابة تنفك عُقدة الفيلم، وندخل كمشاهدين في عمق الأحداث، عندما تتحقق رغبة الطبيب الشاب في الخروج من قمقم النمطية بإيجاد فرصة للسفر إلى جنوب افريقيا، حيث يُقيم عمه الذي هاجر منذ فترة طويلة واستقر به الحال هناك. وفي مستوى آخر من الأحداث يتم الإعلان عن وفاة العم والإنباء بالوصية التي تركها وشدد فيها على أن يرث ابن أخيه ربع تركته، وهنا يتحتم على ابن الأخ أحمد السقا أو بدر مُغادرة القاهرة والتوجه إلى جنوب افريقيا لمعرفة ملابسات الوصية والاستفادة منها في ضوء ما أوصى به عمه الطيب. وبالفعل يصل بدر إلى جنوب افريقيا، حيث المساحات الواسعة والفضاء الرحب وآفاق المُستقبل المنشود، إلا أن بعض المناوشات والخلافات تحدث بينه وبين ابنة عمه منى زكي «جميلة» تُحبط الحُلم الكبير في داخله في بداية التعامل معها، لكن سرعان ما يتغلب على هذه العقبة ويبدأ في توطيد علاقته بها تدريجياً، وبينما هو ماض في خُطته الطموحة تستوقفه بعض العثرات، أولها ديون عمه التي لابد من سدادها لأحد البنوك قبل تقسيم التركة، ثانياً المؤامرة التي يُدبرها اللوبي الثلاثي المُجابه له والمكون من زوجة عمه وشريكها والمحامي المُرتشي. ووفق بعض الرموز التي وظفت داخل السياق الدرامي يُمكن اعتبار ما ورد من أحداث نوع من الإسقاط السياسي على الواقع العربي المُحاط بالمؤامرات والدسائس، الذي يحتاج إلى إقامة وحدة عربية حقيقية لمواجهة الدخلاء من المُتآمرين والطامعين، الذين تمثلهم في الفيلم زوجة العم وأعوانها الخُبثاء ومُشرعها القانوني، ذلك المحامي الفاسد المُدافع عن الباطل.
ولعل من دواعي هذا التأويل السياسي والقراءة الخاصة للفيلم رؤية السيناريست محمد أمين الذي جعل من الغابة في وسط جنوب افريقيا مسرحاً للأحداث، وإن كان قد استبدل اسم الغابة بالبارك لتخفيف وقع الكلمة على المُتلقي والابتعاد عن التضييق الرقابي آنذاك، ومع ذلك لم يلتبس المعنى على المشاهد الفطن لجلاء الحقيقية والعلم المُسبق بما يُحاك ضد الأمة العربية وما يُدبر لها بليل. ويمكن الاستدلال على ما تُشير إليه أحداث الفيلم بالتركيز على شخصية آدم الرجل الافريقي المُسالم الذي ظل في خدمة العم المتوفى لسنوات طويلة، دون أي شيء يعكر الصفو بينهما، وظل مستمراً في مُعاملة الابنة بالود نفسه إكراماً لأبيها، مع شكه وارتيابه في زوجة الأب الخائنة وترقبه لتصرفاتها هي وصديقها الطامع في الثروة.
وتلك إشارة أخرى إضافية لسماحة الشخصية الافريقية، وإخلاصها للقضية الإنسانية، فهي جزء أصيل من القارة الافريقية التي تربطها بمصر علاقات قوية وأواصر مودة وإخوة. ويؤكد المصور سامح سليم عمق العلاقات الافريقية المصرية بالطواف بالكاميرا حول القارة السمراء لإظهار العمق الحضاري والمُتشابه في الصور الاجتماعية والإنسانية بين مصر وافريقيا، في عرض بانورامي للوديان والسهول وشكل العمارة والبيوت. كما لعب أحمد السقا في فيلم «أفريكانو» دور سوبرمان الذي جاء في الوقت المُناسب ليُخلص حبيبته «جميلة» من الطامعين، وقد تُرجم هذا المعنى في المشهد الأخير الذي قتل فيه السقا بحركة فروسية أنثى الأسد التي هاجمت أصدقاء جميلة، الأمر الذي استيقظ على أثره ضمير المحامي الخائن حسن حسني فرد الجميل بإنقاذه لبدر، حيث قتل وحش آخر قبل أن ينقض عليه ويفترسه واعتبر ذلك عربون صداقه لبداية جديدة بعيده عن أجواء الخيانة والتآمر والتدبير.
*كاتب مصري