رضا المحمداوي
كان عنوان «رائحة احتراق العقل» قد أثار فضولي وجذبني إليه منذ أنْ وقع نظري عليه أوّل مرة كمخطوطة في دفتر مدرسي مركونة على أحد رفوف اتحاد الأدباء قبل سنوات عديدة، وكنتُ أظنهُ كتاباً فكرياً يتضمن موضوعات فلسفية، أو يُعنى بعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس، لكنني عندما تصفحتهُ على عجالة وجدتهُ كتاباً شعرياً خالصاً للشاعر عيسى إسماعيل العبادي، وبقي هذا العنوان عالقاً في ذاكرتي قبل أنْ أقرأهُ كمجموعة شعرية صدرتْ عن دار (لانه) عام2021.
يُعرّف (العقل) عادة بأنه عبارة عن القدرات والاستعدادات الفكرية والعادات الذهنية التي ينفرد بها الإنسان، وقد ارتبط هذا المفهوم بالمعرفة الإنسانية، واعتبره أرسطو أداة الإنسان التي تقودهُ إلى اليقين، وقد مرَّ مفهوم (العقل) بمراحل عديدة منذ الفلسفة الإغريقية، وغالباً ما تشتبك مفاهيم ومقولات مثل الدماغ أو المخ، مع العقل وكذلك مفاهيم الغريزة والإحساس والوجود، وتسحب هذه القوى الإدراكية مفاهيم الوعي والإدراك والمعرفة والتفكير واللغة والذاكرة، لاسيِّما في منطقة التساؤل الإشكالي حول طبيعة العقل المادية أو الميتافيزيقية.
وفي حين أنَّ العقل عن طريق الفهم والإدراك والمعرفة، يمكّنُ الإنسان من معرفة الحقيقة فإن حواس الإنسان المرتبطة بالجسد قد تعرَّض المرء للضلال والخداع، ويمتلك العقل، إضافةً إلى ذلك كلّه القدرة على التخيل ومعالجة المشاعر والانفعالات الإنسانية التي تؤدي إلى القيام بالأفعال، واتخاذ المواقف، وهذه هي نقطة التماس والاحتكاك الرئيسية، التي اشتغل عليها الأدب والفن عموماً والشعر على وجه الخصوص، ولا يبتعد الكتاب الشعري «رائحة احتراق العقل» عن هذه النقطة بالذات.
وليس أمراً مستغرباً على الشاعر عيسى إسماعيل، الذي يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة أن تتسلل مفاهيم ومقولات فلسفية إلى المتون الشعرية لهذه المجموعة من أمثال الحق والجمال والحرية وغيرها.. وقد وجدتُ الشاعر في ذروة انفعالهِ واحتدامهِ الشعري يطلق أسئلته:
– ما التأريخ؟ ما الفلسفة؟ ما الشعر؟
وبذلك يعيدنا إلى العلاقة الجدلية بين الشاعر والفيلسوف، ورغم أنَّ هذه العلاقة موغلة في التأريخ قدم الفلسفة والشعر معاً إلا أنّ َ(العلاقة بينهما في غاية التعقيد فليس من السهل فصلهما أو الجمع بينهما، ففي كثير من الأحيان نجد الواحد منهما يتقمّص الآخر ويحلُّ فيه إلى درجة يصعب معها تعيين نوع الخطاب لكونهما يسكنان الفضاء نفسه ويقيمان في المجال نفسه) كما يذهب إلى ذلك الفيلسوف مارتن هيدغر
صيغة شعرية متفلسفة
ليس هذا فحسب، بل يستدعي أو يستحضر الصيغة الشعرية المتفلسفة والمثقلة بالأسئلة المغلقة، وواحدة من هذه المفاهيم والمقولات هي (الحرية) التي طالما صدعنا رؤوسنا ونحن نتغنى بها، ففي نص (حريات) بمقاطعه الثلاثة يتم استحضارها من خلال (حرية الطيور) رمزها وأيقونتها المعروفة، وقد اتخذ أضعف هذه الطيور وأوهنها وهي العصافير، ويقابلها بالقفص شعار السجن والتقييد ومصادرة حق التحليق والطيران، وتبقى هذه العصافير مولعة بالزقزقة وإطلاق الألحان العذبة، لكنها تتناسل داخل تلك الأقفاص التي هي عبارة عن زنازين أُعِدتْ بعناية فائقة من أجل تغييب العقل وإطلاق الخرافة.
لقد تمَّ ابتكار العديد من المهام والوظائف التي تشدد الرقابة على الفضاء من أجل سلب الحريات وتضييق الخناق، حتى على الأوكسجين نفسه، ولذا أصبحتْ الحريات المتاحة قليلة ونادرة، ومن أجل الحفاظ عليها فإنَّ الناس باتوا يحفظونها في علب معدنية، ونظراً لعدم قدرتهم على استخدام تلك الحريات المعلبة فإنها غالباً ما يعلوها الصدأ وتأخذ بالتآكل ليفقد الناس حرياتهم إلى الأبد.
ويتعمّق هذا المعنى أكثر من خلال اتخاذ شخصية سقراط الفلسفية لأحد نصوص المجموعة (ضلال سقراط) بوصفها رمزاً واسماً فلسفياً متداولاً، ومساحة فكرية قابلة للتأويل وتداعي المعاني المعاصرة، فوسط هذا التناقض وشيوع الاضطراب يضل المرء طريقه، وتغيب عنه الحكمة والفلسفة ويصبح أقرب إلى الضياع وفقدان البوصلة، وقد علقتْ أقدامهُ على حافة الهاوية، وهنا تحضر وتتناثر عناصر مثل الغربة والاغتراب والانشطار المتكرر، والضياع والقلق، والروح المغتربة وقد أصبحتْ سمات بارزة لعصر أدرد تساقطتْ أسنانه مُبكّراً.
ويبقى الإنسان في ضياعهِ الراهن.. في قوّتهِ وضعفهِ، وفي حكمتهِ وضلالهِ، وفي يقينهِ وشكوكهِ، يطلق الأسئلة الحائرة حول جدوى الاستمرار في الحياة وحمل صخرة سيزيف إلى ما لا نهاية، وليس أمامه سوى الغوص عميقاً في المعرفة من أجل الاستعانة بقوة تعينه وتساعده في سبيل البقاء على قيد الحياة والبحث عن المجد الشخصي، الذي هو بمثابة العزاء الأخير، وبمعنى آخر أنَّ الإنسان يبقى حائراً في وقوفهِ بين الوظائف الغامضة للحياة وأفعالها البايولوجية، ومحاولتهِ للكشف عن الجوهر الفلسفي الحقيقي الأخّاذ لها.
سقراط – أرسطو – هايدغر
هذه الحياة ومفهومها وما يقابلها من صور الموت، ستكون موضوعاً للنص الشعري المعنون بـ(سيريالية الحياة والموت)المتكون من 16 مقطعاً شعرياً، فدائماً يتم الاحتفاء بالولادة الجديدة (البداية) للإنسان وقد يقصر عمر هذه الولادة، أو تستمر المسيرة الحياتية أطول مما يتصور، وتتكدس الخيبات وتتجمع الآلام وتصبح الحياة نفسها أشبه بالزنزانة، لكن النهاية دائماً تكون مأساوية.
وإذ يحدثنا التاريخ عن اندحار العديد من الطغاة والجبابرة وخسارتهم وفشلهم التاريخي في اغتصاب الحريات واغتيال العقول، إلاّ أنَّ البشرية تبقى مهددة دائماً بأشرار وطغاة وسلالات متناسلة من المجرمين والقتلة والمأجورين واللصوص وقطاع طرق الحياة، ومصابة بحذلقات جنرالات الحروب التي تخلّف وراءها آلاف الجثث من الأبرياء. وهذه القوة الغاشمة التي تحاول مصادرة حق الحياة قد تتخذ شكل وأسلوب شركات عملاقة وكارتلات احتكارية ورؤوس أموال ضخمة عابرة للقارات بأذرعها الاقتصادية الأخطبوطية لتنتج حضارة متوحشة وبتكنولوجيا متحكمة بمصير الإنسان، لتزيد من التكاليف.. تكاليف الحياة نفسها وتبالغ في الدعاية والإعلان والتسويق وتزيد الأسعار لهيباً ليزداد الإنسان معها استهلاكاً وضياعاً، وبواسطة ذلك كله تقوم بنشب مخالبها في اللحم الحي للإنسان، وترسل به إلى أقصر الطرق المؤدية إلى المقبرة.
أما الحروب فما زالتْ تبيد الورود والأطفال وتنشر الموت، وما زالت أموال المستثمرين تحصد أرواح الفقراء والمتشردين والمتسولين وتلقي جثثهم على الأرصفة. وسيزداد اشتباك المجموعة الشعرية مع مفاهيم الوجود ومغزاه وإشكالاته والحياة ومعناها والتساؤل عن جدواها وعبثها، من خلال القصيدة الرئيسية (رائحة احتراق العقل)التي أخذتْ المجموعة عنوانها منها وأهداها الشاعر عيسى إسماعيل إلى روح الشاعر الراحل جان دمو( 1942- 2003) وتنحو القصيدة المتكونة من 24 مقطعاً شعرياً مرقماً في جانب منها منحى قصيدة (الشخصية) الحياتية، أو قصيدة السيرة الذاتية لدمو الشاعر الصعلوك، والخوض في طبيعة حياته ويومياته الفقيرة الشاحبة، وفي جانب آخر من القصيدة نفسها تسعى لتكون قصيدة (قناع) لشخصية الإنسان الهامشي والمحروم والمهزوم، بل المطرود من الحياة، حيث ترصد القصيدة تفاصيل الحياة الجافة لذلك الشاعر العابثن وتحاول أنْ تلتقط المعنى الكامن فيها أو الغائب عنها، بعد أنْ تم نشر الساعات اليابسة على حبل الأيام تحت الشمس الحارقة فتبدأ تلك الحياة بالتفتت والتساقط والتلاشي ولا يبقى منه أيّ أثر!
وتحاكم هذه القصيدة التأريخ الشخصي للشاعر الراحل بوصفهِ إنساناً أكثر مما تستحضره شاعراً، وذلك من خلال مقاطعها المتعددة التي كانت بمثابة زوايا مختلفة للنظر إلى ذلك التأريخ، وتحاول أنْ تفهم الأفكار والدوافع الثقيلة التي دفعتْ بدمو إلى أنْ يكون الشخصية التيِ عُرِفَ بها، وما تداول عنها، حيث تتجسد الفردانية المنعزلة والانكفاء على الذات الضائعة والمحبطة، التي لا تنطوي على شيء سوى العبث الذي لا طائل من ورائه، ولا يبقى أمامها سوى الانتحار البطيء بانتظار نهايتها المفجعة، وهو الخيار الفردي الوحيد المتاح أمام هذه الشخصية المسحوقة والمهزومة أمام الواقع وأمام الذات الضائعة.
إنَّ ماهية المحو والغياب لدى هذه الشخصية تتمثل بالتخلي عن منطق الحياة وقوتها مع الشعور المتعاظم بعبثية الوجود نفسه، حيث تبدو الحياة معه ثقيلة.. وثقيلة جداً وصعبة الاحتمال، فتندفع نحو التخفيف من هذه الاثقال بواسطة العبث المدفوع بشعوراللا جدوى الذي رماها في نهاية المطاف في متاهة الضياع الأبدي وغياب العقل؟
أسلوب البناء الفني
هيمنَ التركيب المقطعي المُرقّم للقصائد على أسلوب بناء المجموعة الشعرية برمتها، مع الاختلاف في عدد المقاطع المُكوّنة للنص الواحد، وكذلك تباينها من حيث القصر والطول من قصيدة إلى أخرى، إضافة إلى حضور قلة من القصائد القصيرة أيضاً، وتفاوتَ تبعاً لذلك مستوى التعامل والأداء الفني للشاعر مع هذه النصوص والمقاطع، وغالباً ما تصبح تلك المقاطع المكونة للقصيدة ذات طبيعة تراكمية في تناول الموضوع أو الغرض الشعري، وكأن النص الشعري ينظر إلى الغرض الشعري من عدة زوايا مختلفة، في حين أنَّ بعض النصوص لم تكن مقاطعها لتفصح عن الغرض الشعري المُحدد من حيث الوضوح والبناء والتركيب مثل قصيدة (صخر البرتقال) و(لا خيار في الحب).
وبشكل عام فإنَّ المقاطع بتسلسل أرقامها وتواليها قد تكون منفصلة عن بعضها بعضا، لكنها ليست مستقلة تماماً عن بنية النص الأصلية، ولذا يبقى المقطع الواحد ذا طبيعة عضوية مع جسد وهيكل النص وتترابط هذا المقاطع في ما بينها لتقود النص إلى بنية كلية متكاملة. مع ملاحظة أنَّ الشاعر يفقد في بعض المقاطع لغته الشعرية لتقودهُ الفكرة الصلدة أو النواة الصلبة إلى لغة تقريرية ومباشرة دون أيّ جهد لغوي داخلي، لاسيِّما عندما يتخذ موضوعاً جافاً مثل، المدنية والكارتلات الكبرى والحضارة والشعوب التاريخية والاستقرار المستقبلي المفقود، ومعابر أمريكا وأوروبا والعالم الثالث!
كاتب عراقي