مشكلة وحل

2024-08-20

عُلا شيب الدين

كنتُ قد قررتُ، منذ انتقالي إلى شقة خاصة بي، بعد إقامة استمرّت شهوراً في سكن خاص باللاجئين، عدمَ طرق باب أيٍّ من الجيران، لأي سبب كان، ومهما كانت الظروف، لأنني في المقابل لا أرغب في أن يُطرَق بابي، ولأنني أعرف، إلى حد كبير، خطورة الاختلاط ببعض الناس في بعض الأحيان. لكن بعد مرور أكثر من سنة، من الصمت الممضّ على إزعاج يوميّ لئيم، من إحدى الشقق، تراجعتُ عن قراري إياه، وطرقتُ الأبواب.

أنا للجارة، وهي أمٌّ شابة لخمسة أطفال، تتراوح أعمارهم بين السنتين والاثنتي عشرة:

من بعد إذنكِ، صوت الموسيقى من شقتك، صاخب جداً، ويمنعني من فعل كل الأشياء التي أحب أن أفعلها، ثم إن توقيته، خاصة حين يكون في الثانية أو الثالثة بعد منتصف الليل، يثير حفيظتي وغلّي. ما عدتُ أحتمل السكوت أكثر. لماذا تصرّين على استعمال مكبر الصوت (البافل)؟!

هي: أنا في شقتي، ومن حقي أن أستمع إلى الموسيقى بالطريقة التي أريدها. هذه حرية شخصية.

أنا: هل تعتقدين أن هذه حرية شخصية حقاً؟ لا يا سيدتي، الحرية الشخصية اسمها «شخصية» وهي يجب أن لا تتعدى حدود ما هو شخصيّ. وموسيقاكِ تعدت حدود شقتك الشخصية، وطالت شقق الآخرين وأزعجتهم. إزعاج الآخرين إذن، ليس حرية شخصية البتة.

هي: حسناً. لن يكون صوت الموسيقى عالياً بعد الآن.

أنا: شكراً..

بعد ساعات، وفي منتصف الليل، عاد صوت الموسيقى الحقير نفسه.. رحتُ أفكر في حل، وقد صارت المسألة بالنسبة إليّ مسألة تحدٍّ: يجب أن يتوقف هذا الإزعاج القذر رغماً عن أنفه. خطر على بالي، سؤال الجيران الآخرين، عما إذا كان صوت الموسيقى يزعجهم، وبالتالي البحث معا ربما عن حل مشترك، يُنهي هذه المشكلة. فطرقتُ باباً، أصحابه في منتهى الهدوء والسكينة.

أنا: مرحباً. آسفة إن كنت أطرق الباب في وقت غير مناسب، لكنني أعتقد أنك منزعج مثلي ربما من صوت الموسيقى الصاخب، خاصة أن شقتك أقرب إليها من شقتي. ترى ما الحل برأيك؟ أنا تكلّمت مع الجارة، لكن لم تكن هناك استجابة.

الجار المتدين: الله يريد ذلك. وليس لنا سوى القبول بإرادة الله والاكتفاء بالصبر والتحمّل.

أنا: لماذا، برأيك، يريد الله للناس أن تقاسي وأن تبقى في حلّ من التوتر والضغط النفسي؟ لماذا يريد الله أن يزعج الناسُ الوقحون الناسَ الطيبين الذين لا يؤذون الغير ولا يزعجون أحداً؟

الجار بعد تمرير اليد على لحية سوداء متوسطة الطول: لا أعرف.

أنا: حسناً. شكراً لك. وداعاً.

بعد ذلك، ارتأيتُ أن أطرق باب جار سبعينيّ، كان يعمل أميناً لدى إحدى المكتبات العامة. جار رصين وودود، كان قد أهداني كتاباً باللغة الألمانية للروائي الأمريكي همنغواي وزرِّيعة مدهشة. كل هذا كان مشجعاً للتحدث إليه بتفاؤل، لعل وعسى نجد حلاً لمشكلة الموسيقى التي تقض المضجع.

أنا: مرحباً. أريد مساعدتك في خصوص تلك الموسيقى الصاخبة.

هو بكل هدوء: يبدو أن تلك المرأة تعيش حالة إنكار لوضعها كأم لخمسة أطفال، وتعاني من جرّاء ذلك. فهي ترى نفسها جميلة وشابة، ولا تزال تريد عيش حياة ابنة السابعة عشرة.

أنا وقد أعجبتني محاولة التحليل النفسي تلك، ومحاولة العودة إلى معرفة الأسباب وراء السلوك إياه: نعم. أتفهَّم ذلك، لكننا نعاني من وضع كهذا، ونريد حلاً.

هو: أنصحكِ باليوغا.

أنا: سلامات.

بعد يومين، وبينما كنتُ أعاني الأمرّين من أجل إكمال صفحة واحدة من كتاب باللغة الألمانية، دون العودة إلى القاموس، وبينما كنت مسمومةً من جرّاء ذلك، بدناً وروحاً، عادت الموسيقى التافهة لتصدّع رأسي من جديد. وأي موسيقى!. فقلت لنفسي، لِمَ لا أطرق باباً آخر؟

أنا: مرحباً. هل يزعجكما صوت الموسيقى هذا، كما يزعجني؟

الجار وزوجته معاً: نعم جداً.

أنا: هل لديكما حل؟

هما: سنجرّب.

أنا: ستجربان ماذا؟

هما: لن نقول شيئاً الآن.

أنا: حسناً. إلى اللقاء.

منذ ذلك الحين، صار صوت الموسيقى الصاخب، ينبعث من المصدر الأساسي إياه، ومن مصدر جديد، ألا وهو الشقة التي طرقتُ بابها مؤخراً. وقد أُضيف إلى صوت الموسيقى، صوت الكلاب. حينها عرفتُ ما الذي قصده الزوجان. ها هما «ينتقمان» بالطريقة نفسها، لعل وعسى يهدأ صوت الموسيقى إياه. وهكذا، كنا بواحد، صرنا باثنين. خطرت على بالي أفكار جهنمية، من قبيل أن أزعجهم أنا أيضاً بدوري. لكنني، وبمنتهى الصراحة، لم أستطع التنفيذ، فقد فكرت، بأني سوف أؤذي بذلك، الجيران الآخرين، الذين لم أطرق بابهم بعد، فهم هادئون جداً، ولا يستحقون منّي مثل هذا الفعل السخيف الشرير. ثم إني لستُ أنا مَن يوقظ ـ فزَعاًـ أطفالاً هانئين في نومهم. لا لستُ أنا مَن يمكنه فعل ذلك. في الحقيقة، مضى وقت لا بأس به، قبل أن أعرف تفاصيل قانونية يُفترَض معرفتها، أو على الأقل الإلمام البسيط بها، لكي أستطيع مواصلة العيش في بلد جئت إليه لاجئة. مضى وقت لا بأس به، قبل أن أستطيع الاتصال بالبوليس وشرح ما أريده باللغة الألمانية. ومضى وقت لا بأس به، قبل أن أعرف أن ثمة شيئاً اسمه Lärmprotokoll وهو إجراء قانوني يُستخدم في مثل هذه الحالات. المهم، أنني نجحت أخيراً، في الوصول إلى حقي «الطبيعي» في الهدوء، وربما أرحتُ الآخرين أيضاً، الذين تساءلوا ربما: ترى كيف توقف صوت الموسيقى الصاخب؟! ومن ذا الذي كان وراء ذلك؟ أو ربما اعتقد أولئك المساكين أن الجيران إياهم، قد صاروا «محترمين» من تلقائهم، دونما رادع. ياااه كم هو ضروري الرادع القانوني، حين لا يكون هناك مجال لأن يكون البشر لطيفين مع بعضهم بعضاً ورحيمين!.

كاتبة سورية








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي