بين الريف والمسرح: قراءة في رواية «بغل برغوث» وأبعادها الرمزية

2024-08-07

موسى إبراهيم أبو رياش

رواية «بغل برغوث» للكاتب المسرحي التونسي بوكثير دومة، رواية أولى له بعد اثني عشر عملاً مسرحياً ودرامياً، وهي رواية تتدفق كما النهر الجاري بعذوبة وسلاسة، تصور جانباً من حياة الريف والمدن الهامشية في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي في تونس، وبشكل عام، لا تختلف عن الحياة في غيرها من الدول العربية آنذاك؛ حيث الفقر والطبقية، السادة والعبيد، سوء الخدمات، ترهل الإدارة وفساد السلطة وعدم الثقة بها، الأمية والجهل والتخلف، والتجارب العبثية، وغيرها. والفترة الزمنية التي تتناولها الرواية، مرحلة قلقة في المنطقة العربية وجوارها، وتبعها تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية.

تميزت الرواية بمشهديتها السينمائية، ولغتها الجميلة، وتوظيفها للهجة التونسية المفهومة من السياق، بالإضافة إلى بعض المفردات العربية غير الشائعة، لكنها واضحة، ووظفت الرواية الحوار، والأحلام والكوابيس، والتشظي الزمني، وتقنية الاسترجاع والاستباق، وبراعة الوصف، ودقة التفاصيل، والمقارنة، والأمثال، والشعر الشعبي، وغيرها. وتناولت موضوعات اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية. وجرت أحداثها في ولاية قفصة ومدينتها في الجنوب الغربي التونسي.

بغل برغوث

يحمل العنوان مفارقة طريفة بنسبة بغل إلى برغوث، فمن لم يقرأ الرواية، يبدو العنوان غريباً ومستهجناً؛ فكيف يكون للبرغوث بغل؟! وأين البرغوث من البغل؛ حجماً وقوة؟ لكن عندما يعلم السبب يبطل العجب، ومع ذلك، فأرى أن اسمي (بغل وبرغوث) جاءا في الرواية مقصودين ومدججين بالرمزية والإسقاطات.

البغل في الرواية كان البطل، وهو المحرك الرئيسي لمعظم أحداثها، فهو السبب في القضاء على رجولة النوري، وتأجيله للزواج، ومن ثم زواجه بناجية من دوار (قرية) آخر، وتعرضه للفشل والتعريض من زوجته، وبالتالي قتلها، وقاد ذلك إلى زواج مرضية من حمد تمهيداً للثأر، لكن حمد هرب مع مرضية، ولجآ إلى الصويعي، ومن ثم اشتريا البغل إياه الذي اشتراه الصويعي من برغوث، وهربا إلى قفصة على ظهره، وهناك، كان البغل سبباً في مغامرة جديدة وتعرف فرج إلى مرضية، واستئجاره البغل لتهريب السلاح تمهيداً للانقلاب، وتعرف مرضية إلى قدور وعملها في حانته، ونسج علاقاتها مع روادها، وعملها في نقل السلاح دون أن تدري، وتجسسها على العقيد البجاوي وضيوفه.

كما أن البغل، كان السبب في احتراق كوخ الصويعي لانشغالهم بسقايته، وكان له الفضل في تعرف الصويعي بمرضية، وتطور علاقتهما. أي أن البغل كان واسطة عقد الرواية، وأساسها، ومعظم أحداثها بنيت حوله، والغريب أن هذا البغل الحرون الشرس، كان لا يهدأ إلا إذا تشمم جلد ضبع أو باروداً أو مزج ماء شربه بالخمر، إلا أنه يكون طيعاً ليناً بين يدي مرضية، وحق لها؛ فأعتى الرجال روضتهم بأنوثتها الطاغية، وحركاتها الماجنة، وكأنه يستوي هنا البغال بالرجال، أو الرجال بالبغال!

والبغل في هذه الرواية، ليس مجرد حيوان هجين عقيم، نتج عن تزاوج فرس بحمار، بل هو رمز عميق الدلالة على غير صعيد، وقل ما شئت عن البغل والبرغوث ونظائرهما في الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية، فمهما شططت، فلن تتجاوز الحقيقة! وفي السياق ذاته، كان الأبقع كلب مرضية، كلباً وفياً، مخلصاً لصاحبته؛ يسالم من يسالمها، ويعادي من يعاديها، رفيقها الدائم في حلها وترحالها، ولما مات، دفنه الصويعي، وبنى له قبة.

براعة الوصف

برع الكاتب في الوصف الجميل، والصور الرائعة، واللغة الرائقة، وهذا لا يتأتى بسهولة، إلا لمبدع متمكن موهوب، فليس كل وصف وصفاً تتقبله الذائقة بنشوة وطرب، وانبهار وعجب؛ فالوصف إبداع ومهارة وموهبة. ومن ذلك مشهد يصف الطفل ابن الصويعي أمه بعفوية وبراءة وفطنة، يقول: «إن جئتنا يوماً ورأيتها، ستتعرف عليها من الوهلة الأولى.. جلدٌ على عظم، والعظمُ عودٌ مهزولٌ كمرودٍ مبروم. لو رآها طبيب، لأمر بإدخالها فوراً للعناية المركزة. لكنّ أمي لا تمرض أبداً، هي لا تعرف الأطباء أصلاً.. لم تتناول دواءً في حياتها، ومع ذلك لا تهدأ بتاتاً، كثيرة الحركة، دائمة النشاط، لا تشكو من شيء، لا سكّر ولا ضغط ولا كولسترول. إن ماتت أمي، فلن يقتلها إلا الشاي، مدمنةٌ من الدرجة الأولى، كانونُها لا يخمد كامل ساعات اليوم. صوتها ضعيفٌ يكاد لا يُسمع، حتى أنك ترى حركة شفتيها الرقيقتين قبل أن يصلك صوتها.. إنْ فرحتْ لا تُغالي، وإن حزنتْ لا تُبالي. فقد تعتقدُ أحياناً أنها بلهاءُ، إنما هي ليست كذلك. ردود أفعالها باردةٌ تجاه الفواجع والأفراح على حدّ سواء.. لو كانت طباعُها عكس هذا، وهذا من لطف الله، لأصابها الفالجُ بعد شهر واحد من زواجها، فأبي كان لا يُطاق».

جمالية التفاصيل

في كثير من الروايات، تكون التفاصيل عبئاً على الرواية، مجرد حشو ممل يثقل كاهلها ويضعفها، لكن، في رواية «بغل برغوث» جاءت التفاصيل إضافة نوعية، زادت من جمال الرواية وإبهارها ووهجها، فهي تؤدي وظيفة لا غنى عنها في الرواية، من حيث تأطير المشهدية التصويرية للموصوف، وتضع القارئ أمام الشيء، يتجسد له، كأنه يراه رأي العين، بالإضافة إلى وظيفة التفاصيل التوثيقية والتعريفية والتشويقية، ومن ذلك، مشهد يصف تفاصيل كوخ مقام على مرتفع مشرف من الأرض يسمى «كِيبْ المرقب» يقول: «صار «كِيبْ المرقبْ» كقبةِ وليٍ صالحِ ارتحل من حولِهِ مُريدوهُ. أصبح مهجوراً. عصفت الريحُ بِحُصُره فطار القشُ من بعض جوانبه وتعرّى سقفُهُ. ليس في داخله سوى سِدّةٌ على هيئة سرير صنعوها من أعواد الزيتون؛ اتقاء العقارب والثعابين. فيه قُلّةٌ صفراءُ قديمة. حبلٌ معلقٌ. برادٌ للشاي صدئٌ. جرّةٌ نصفها مهشمٌ. دلوٌ مثقوبٌ. بقايا محراثٍ مفككٌ إلى قطعٍ عديدة. بَرْدَعَةٌ يبدو أنها نجتْ من أيام التفريط الجماعي للممتلكات، حتى أضحتْ مسكناً وثيراً للفئران. هناك في السقف، ترى قازةً بلا فتيل ولا بلور.. عُلقتْ من خصرها، تحيطُ بها بيوتُ العنكبوت من كل جانب، تتقاذفها الريحُ يمنةً ويسرةً.. كم بدّدتْ تلك القازةُ من ظلامٍ، وكم أنارتْ من سبيلٍ.. الآن غدتْ جُثةً بلا معنى، كَعَالِمٍ مصلوبٍ في ساحةِ قتالٍ غير ذي شرفٍ».

نهاية مفتوحة

جاءت نهاية الرواية مفتوحة، وانتهت بالصراع بين الانقلابيين والموالين، ولم تفصح الرواية عن المنتصر، لكن كان واضحاً انحياز المواطنين البسطاء لصالح الوطن وسلامته واستقراره، ورفضهم لمحاولات الفوضى والانفلات، وربما سكتت الرواية عن النهاية؛ لأنها واضحة في السياق التاريخي، واستتباب الأمر للرئيس الحبيب بورقيبة.

كما أن الرواية أبقت كثيراً من الأمور معلقة، أو لم تلتفت إليها إطلاقاً، لعدم أهميتها فيما ترتجيه الرواية وما تذهب إليه، ولانفصال هذه الأحداث عن البغل بصفته المحرك المركزي للأحداث، ولا شيء مهماً ما لم يكن للبغل دور فيه. ومن هذه الأحداث؛ غياب الصويعي وعدم عودته لأسرته. رد فعل العيفة، والد حمد، إثر هروبه وزوجته، وعدم أخذه انتقام اخته. موقف برغوث وابنه النوري من اختفاء مرضية وزوجها.

وبعد؛ فإن «بغل برغوث» الصادرة حديثاً في تونس عن دار خريف للنشر في 279 صفحة، رواية رائعة، تستحق الكثير من القراءات والدراسات، وهي أقرب في روحها للرواية اللاتينية منها للعربية، لميلها للبساطة والعفوية والسلاسة، واحتفائها بتفاصيل الحياة العادية، دون فذلكة أو تعقيد أو تحليق في فضاءات بعيداً عن الواقع ومشكلاته وقضاياه، كما أنها ابتعدت عن الابتذال ودغدغة الشهوات مع توافر أسبابها. وتبشر هذه الرواية بروائي بارع مشاكس، مسلح بفنون المسرح والدراما وتقنياتها، ومولع بنبش قضايا وأحداث وشخصيات إشكالية؛ تاريخية ومعاصرة.

كاتب أردني








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي