كمال القاضي*
كان ولا يزال السفر إلى أمريكا حُلما يراود الكثير من الشباب في دول العالم الثالث، حيث التطلع إلى حياة أفضل، والتمتع بمناخ الحرية المزعوم، وفق الدعاية التي صنعتها هوليوود وأقنعت بها ملايين البشر عبر أفلام أنفقت عليها ملايين الدولارات، من أجل تصوير الولايات المُتحدة الأمريكية كأنها جنة الله على الأرض، التي تتوافر فيها كل سُبل الراحة والأمان والرفاهية.
في عام 1993 تم إنتاج فيلم «أمريكا شيكا بيكا»، الذي كتبه السيناريست مدحت العدل وأخرجه المخرج خيري بشارة، ليكون وثيقة سينمائية دالة على فساد الحُلم الأمريكي العالق بأذهان الشباب، بحيثيات درامية إنسانية لم تقترب من الخطاب السياسي المباشر، ولكنها شملت كل ما يُمكن تضمينه عن مخاطر السفر والمغامرة غير المحسوبة، بواقعية صادقة أكدتها التجربة الحية لأبطال الفيلم، الذين يُمثلون فئات مُختلفة من الشعب المصري بأعمار وثقافات متفاوتة، وشخصيات تختلف أيضاً في النوع والمستوى الاجتماعي والبيئي والتعليمي.
لقد تنوعت الشخصيات ما بين «عم غمراوي» (أحمد عقل) الترزي الستيني الذي أغوته فكرة السفر إلى أمريكا، فاستسلم لها آملاً حياة أفضل، و»دوسة» (شويكار) التي ضاق بها الحال في مصر فخرجت تبحث لنفسها عن فرصة علها تنجح في تأمين مستقبل ابنتها الصغيرة المريضة ذات العشر سنوات.
كذلك «منسي» الميكانيكي (محمد فؤاد) الشاب المُتحمس ابن البلد الذي يتمتع بكل صفات الرجولة والشهامة، ويمتلك الكثير من الخبرات انتوى السفر كغيره، ليخوض غمار تجربة جديدة تصور أن فيها الخلاص من الفقر والبطالة.
أما عماد رشاد «الدكتور فؤاد» فهو الشاب الوسيم المُثقف المشغول بمستقبله الطبي والحالم بالعيادة والعربية والعروسة والرصيد البنكي، تقوده أحلامه هذه إلى الفكرة نفسها، فيقتفي أثر الحُلم ويمضي خلفه بلا دليل أو مُرشد، ومثله (نهلة سلامة) «سُهى» الفتاة الجميلة المُتعلمة، لم تنجُ هي الأخرى من مُغريات السفر والحُلم الشيطاني الذي سكنها فأصبحت أسيرة له، لا ترى مستقبلاً غيره ولا سبيلا لطريق آخر.
أما الشحات مبروك «رامبو» فهو البطل الرياضي الذي يسعى للنجومية في مجاله، ويحلُم كغيرة بالراحة والاستقرار هو وصديقه من الطبقة الاجتماعية نفسها، محمد لطفي المُلقب «بالبنا» فهما يبحثان معاً عن نفسيهما في عالم مُزدحم لم يُلق فيه أحد بالاً لهما أو يقيم لهما وزناً.
كل هؤلاء مُجتمعين يستغل «جابر فواز» (سامي العدل) سمسار مكتب السفريات والنصاب المُحترف شغفهم بالسفر، وإقبالهم على المُغامرة بشجاعة، ويوهمهم بدخول أمريكا عن طريق رومانيا، بتأشيرات مضمونة لعبور الحدود، فينقادون خلفه بلا وعي في استسلام تام ليخوضوا معاً تجربة المُعاناة والشقاء والانتقال عبر طُرق ومسالك غير آمنة، على أمل الوصول في النهاية إلى أمريكا قبلة النازحين من بلادهم والمهزومين قهراً وفقراً على حد اعتقادهم.
لم يشأ المخرج خيري بشارة، أن يُمرر المفاهيم التي احتواها سيناريو مدحت العدل مروراً تقليدياً مباشراً، فأمعن في إبداع الصورة الدرامية بمراحلها، من خلال مشاهد تأثيرية، تؤكد المعنى المُستهدف، وتثبت يقين المُتلقي فتتأكد له الحقيقية الغائبة بفعل الدعاية الكاذبة بأن أمريكا ليست هي المدينة الفاضلة، وأن كل ما نُسج حولها كان محض وهم وخيال.
وهنا يقف بنا المخرج الكبير عند بعض المشاهد الدلالية، كتلك التي خاض فيها الدكتور «فؤاد» (عماد رشاد) «وعم غمراوي» (أحمد عقل) مُغامرة عاطفية بصحبة فتيات الليل في أحد البيوت المشبوهة، انتهت بمشاجرة عنيفة وسلب ونهب جزء كبير من أموالهم المُدخرة للرحلة الطويلة الشاقة.
وأيضاً كان مشهد تغيير العُملة واستبدال الدولارات بورق الجرائد والمجلات في عملية نصب محبوكة بالغ القوة والدلالة، غير أن مشهد خروج «دوسة» (شويكار) للبحث عن زبون ليقضي معها ليلة ساخنة مقابل أجر لتعويض خسارتها كان واحداً من المشاهد الغنية عن التفسير في إشارة ذكية وغير مُستهجنة للاضطرار الذي يُجبر المرأة للتفريط في أعز ما تملك لسد الرمق والمحافظة على ابنتها الوحيدة، وهي قمة المأساة في محنة الهروب من الواقع المرير إلى واقع أمر وأشد قسوة.
ولا يُمكن بالطبع إغفال مشهد موت عم غمراوي إثر إصابته بالحُمى ودفنه في بلاد غريبة لا يجد فيها من يترحم عليه، ناهيك عن الحزن الذي كسا وجوه الأبطال طوال رحلة البحث عن مرفأ أمان ما بين بلد وآخر بين الغابات والطُرق الوعرة، والقصص المأساوية التي حكاها أبطال الفيلم، كل على حده كنوع من التنفيس وتخفيف الضغط النفسي باللجوء إلى البوح والاعتراف وربما الندم.
أما البطلان الرئيسيان، (محمد فؤاد) «منسي» و(نهلة سلامة) «سُهى» فكان لهما النصيب الأوفر من التأثير، إذ ارتبط دوريهما بالمعنى الإجمالي للفيلم كله فهما الأصغر سناً فاقدا البوصلة والعاجزان عن تحديد الاتجاهات الصحيحة في حياتهما المُقبلة، رغم حيويتهما وإقبالهما الشديد على المستقبل، لكن الإحباط واليأس دفع كلا منهما للبحث عن ذاته خارج مداره الطبيعي في وطنه وبين أهله وذويه، ولم يجد الطرفان سوى الحُب العفيف الطاهر ليوحد قلبيهما ويجمع شتاتهما بعدما تصارحا وكشف كل منهما للآخر عن حقيقة مشاعره.
بهذه الطريقة كانت المُعالجة الدرامية لائقة، لاسيما بعد التأكد من زيف مزاعم جابر فواز النصاب، وهروبه من المجموعة بعد الاستيلاء على أموالهم وتركهم تائهين في مُفترق الطرق بلا حماية.
وفي النهاية لم ينقذهم غير الذهاب إلى السفارة المصرية في الخارج طالبين العودة إلى بلادهم، فهي الموطن والسند والحماية، وبهذا يُغلق المخرج القوس على الدرس المُستفاد من التجربة القاسية، مع وضع التوابل الحريفة الموقظة للشعور الوطني كأغنية يعني إيه كلمة وطن التي غناها بإحساس مُرهف محمد فؤاد ولخص فيها كل معاني الوطنية والانتماء.
كما أنهى بشارة الأحداث أيضاً بالقبض على «جابر فواز» (سامي العدل) مع نزول تتر النهاية وأغنية أمريكا ـ أمريكا ـ أمريكا شيكا بيكا وسقوط كل المُنتجات الأمريكية الاستهلاكية على الأرض كناية عن الرفض والاستغناء والاستفاقة من الحُلم المُضلل الكاذب.
*كاتب مصري