إبراهيم الزيدي
لكل امرئ شهرزاده التي تروي له القلق بصيغة حكاية، وشهرزادي هي الرقة، مدينتي التي تتناهبها الخرائط والتصريحات! الرقة التي حين أكتبها أحس بأصابعي وكأنها تتلمس حواف النوتات الموسيقية، الرقة التي ودعتها، ونسيت قلبي نائما على سرير نهرها.
الرقة التي كلما سألني أحد عنها، أتهمها بالشفاء، وأغصّ بالاحتمالات الأخرى، الرقة التي استيقظت، عام 1973، على وقع الشعارات التي رافقت افتتاح سد الفرات، الذي أصبح قبلة لآلاف العمال والموظفين، من المحافظات السورية كافة، فكانت الرقة خلاصة سوريا، اجتماعيا وثقافيا، فتعددت اللهجات والأزياء، ولم يعد أحد يشعر بالغربة؛ فقد وجد فيها الجميع ملاذا لأحلامهم البسيطة، التي عصفت بها رياح اليأس، بعد أن دخلت سوريا غرفة العناية المشددة.
آنذاك، كانت الحقائق مثقلة بماكياج الشعارات، تلك الجعجعة التي عاشت عليها سوريا منذ عام 1963، ولم تر طحينًا! وقد أدرك الناس ذلك، فانصرفوا – في الآونة الأخيرة – إلى الممكن من الأحلام، وكان حلم كتابها أن تكون الرقة «عاصمة للثقافة»، فكانت أول فعالية ثقافية دولية عام 1981، التي حملت عنوان «الندوة الدولية لتاريخ الرقة»، وقد أسست تلك الندوة لحراك ثقافي مميز، استمر حتى عام 2005، حيث بدأت المرحلة الثانية من ذلك الحلم؛ فكان مهرجان الشعر العربي الأول، الذي استمر لمدة 6 سنوات، وتزامن ذلك مع مهرجان للرواية أيضا، وملتقى دولي للفن التشكيلي، وكثير من الندوات والأمسيات والمحاضرات، وكان التركيز في تلك الأنشطة الكبيرة باسمها، وتكلفتها، على ما تحققه إعلاميا، فاستقطبت كثيرًا من أقلام الصحافيين، ونالت الرقة حصتها من المديح المجاني؛ بذريعة تلك المهرجانات، إلاّ أن تلك الأقلام لم تلامس واقع حال المدينة، ولم تطالب بحاجاتها البنيوية، فانتعلت الرقة بؤسها، ومضت لتأخذ مكانها إلى جانب أخواتها من المدن المنسيّة في سوريا الحديثة، وتركتنا نركض خلف أعمارنا التي استهلكتها معتقلات الكآبة الوطنية.
قبل أن ترتدي الرقة خوفها، وتمضي في المجهول، كان اسم الخليفة العباسي هارون الرشيد، يحتل إحدى حدائقها. ينتصب تمثاله النصفي في مدخلها، مكتفيا بوجوده الرمزي. وكان باب بغداد يفضي إلى أحلام تمرّ خلسة بين كلمات الأغاني: (شرّق ع العراق، انجادك تريد الزين.. يا شهر الفراق، عساك لا هليت) إلا أن شهر الفراق هلّ علينا وعليها، وعلى سوريا بقضها وقضيضها!
وتركنا نتابع أخبارها، كما يتابع المغرمون بكرة القدم أخبار المونديال! وكلما هزّت كرة اللّهب مرماها، نتسابق إلى مقاهي الإنترنت، نفتح صفحة «تعازي الرقة»، ونبحث عن أنفسنا بين الضحايا! تلك هي قصة الحب، حين يصبح ممنوعًا من الصرف.
تجتاحني رغبة باقتحام حقولها بفظاظة الجائع، أتمنى أن أكتب عنها بلثغة سين أطفالها، فالحرب ما زالت بخير، تستيقظ باكرا، تسعى إلى رزقها من أرواحنا، وفي المساء تشاركنا سهرتنا العامرة بأخبارها! ولا أحد يسألنا عن الألم، فشهادتنا فيه مجروحة.
سأكتب قبل «أن يتبخر الحزن، ولا يبقى لي سوى الملح، أذره على جراحي»؛ فالطريق إليها ليس عليه إشارات، تحدد سرعة الموت، سأرسم بالكلمات قطارا محملا بالجنود، يغادر المحطة وحيدا، وامرأة تزغرد؛ لأن ابنها حصل على بطاقة لاجئ في السويد، وترك لها بيته كي تموت فيه..
كاتب سوري