مروان ياسين الدليمي
مرة أخرى يعود الكاتب عواد علي في هذه الرواية إلى شغفه الدائم في خلق بنية سردية واقعية متخيلة، يخرج فيها عن سياق الخضوع لآليات التوثيق، متوغلا عبر مخيلة خصبة في وقائع يومية لشخصيات آشورية، عادة لا يتم الالتفات إليها، سواء في تدوينات التاريخ العراقي الرسمي، أو في النتاج الروائي، لأنها تنتمي إلى الأقليات، نافضا عن سيرتهم غبارا متراكما، لطالما خلَّف آثارا موجعة على العلاقة التي تجمعهم مع فضاء اجتماعي مثقل بالخوف والعنف والإرهاب والتشدد الديني، خصوصا بعد أن تعرض إلى رجات عنيفة في منظومته القيمية بعد عام 2003، وكان من نتيجة ذلك أن دفع الآشوريون ثمنا باهظا، مثل غيرهم من العراقيين، فنالت منهم سياسات التهجير والملاحقة والابتزاز من قبل جماعات وميليشيات طائفية وجدت في زمن الاحتلال الأمريكي مناخا مناسبا للإعلان عن نفسها بقوة الترهيب والسلاح.
السرد بين التوثيق والتخييل
رواية «توأم البحر» الصادرة عام 2023 عن دار الشؤون الثقافية في بغداد، أعادت إلى الواجهة ما تم تغييبه من الذاكرة العراقية، عندما شاء المؤلف أن تكون معظم شخوص الرواية منتمية بهويتها الإثنية إلى المسيحيين الآشوريين، مع أنه في جميع رواياته التي سبق أن أصدرها، «أبناء الماء» 2016، «جسر التفاحة» 2019، «وردة الأنموروك» 2019، لم تغب عنها شخصيات تنتمي إلى الأقليات، راصدا من خلالها ما واجهته من تحديات وأهوال استهدفت وجودها الإنساني والإثني والاجتماعي.
وفي مسار جهده الإبداعي يتحرك عواد علي في إطار ما يمنحه الفن الروائي من مساحة مفتوحة للتخييل، وكان حذرا في جميع مدوناته السردية، من أن يسقط في فخ التوثيق على حساب الفن الروائي، وما يتيحه من حرية في اللعب الفني لتحقيق عناصر المتعة والدهشة في النص الأدبي، وهذا ما يتجلى في هذه الرواية.
تقويض المكان الواقعي
رغم أن مدينة كركوك تشكل المكان السردي الذي تجري فيه معظم أحداث الرواية إلاّ أن الكاتب أحال سردية الفضاء المكاني إلى منطقة لزجة غير ثابتة، تتحرك ما بين عالمين مختلفين: واقعي ومُتخيَّل، إذ يتفاجأ القارئ بأن كركوك تستريح عند ضفاف بحر آرابخا، مع أنه لا وجود له في الواقع، وإذا ما عاينا هذه الرؤية نجدها تنسجم مع مقولة غاستون باشلار حول تقويض المكان الواقعي:»أنا أتخيل، إذن أنا أبني العالم وأصنعه» وقد استمد الكاتب أداته الإجرائية هذه في تحقيق التفجير التخييلي لطاقات المكان من طبيعة الشخصية المحورية «نينوس» الذي يدرس في مرحلة الماجستير التاريخ الآشوري في قسم الآثار، ومن خلال هذا الانزياح للمكان الواقعي، تكشف الرواية عن فاعلية الخيال في البناء السردي باعتباره نتاجا للوجود المغيَّب. وابتدأ السرد من السطور الأولى يقودنا عبر صوت السارد إلى منطقة التخييل، التي طالما أتقن استثمارها في مجمل نتاجه الروائي عند تعامله مع الواقع، أو الأحداث التاريخية: «مع تباشير الخريف التي لاحت مبكرة هذا العام، تشهيت الخروج إلى بحر أرابخا، الذي لا وجود له على الخريطة، لم أهنأ بلقياه منذ منتصف الربيع، هاج شغفي به، وتحرقت شوقا لعناقه».
تهميش الشخصية بين الرواية والواقع
ارتكبت الأنظمة السياسية المتوالية خطايا كثيرة، وقع النصيب الأكبر منها على الجماعات الإثنية، وبسبب ذلك لم تعد تشعر بالأمان، فعاشت منزوية على هامش الحياة، سواء في الواقع الحقيقي أو في النتاج الروائي، الذي لم يمنحها ما تستحقه من حضور يليق بها وبتاريخها، ما عدا روايات تعد على أصابع اليد الواحدة، منها على سبيل المثال لا الحصر: «يا مريم» لسنان أنطون، «فرانكشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي، «فندق كويستان» لخضير فليح الزيدي. إذن كان القصور واضحا في رؤية الشخصية العراقية، التي تنتمي إلى الأقليات في الكتابات الروائية، وفي مقدمة ذلك الآشوريون، كما لو أن لا وجود لهم في الواقع، وهذه الرؤية تفتقر إلى الواقعية، لأنها اختزلت حضورهم التاريخي والاجتماعي العريق بصور نمطية ساذجة ومسيئة لهم. ولا شك في أن قراءة الأعمال الروائية العراقية التي تظهر فيها شخصيات مسيحية على قلتها، تكشف عن قصور واضح في الإلمام بجذورها التاريخية، وتنوعها الاجتماعي وطقوسها وعاداتها ولغتها، إلى جانب العجز عن فهم محنتها ودواخلها وتطلعاتها، إلاَّ أن عواد علي في روايته «توأم البحر» توغل بعيدا في عوالمها المقصية من ذاكرة السرد العراقي، عبر حبكة روائية اتسم خطابها بالنضج والتماسك الفني، والمتابع لنتاجه يجد أن مشروعه في الكتابة الروائية يذهب في اتجاه التحرر من التصورات المسبقة حول الأقليات، وفي المقدمة منهم المسيحيون .
كسر الصورة النمطية
النضج في فهم قضية الأقليات في مجمل روايات عواد علي، أسبابه تعود إلى أنه من حيث الولادة والنشأة ينتمي إلى مدينة كركوك، التي تتعايش فيها إثنيات وأديان وقوميات متنوعة منذ عشرات السنين، فكان أقرب إليهم من غيره، وإذا ما نظرنا إلى مركزية حضور الهوية الآشورية في خريطة شخصيات روايته الأخيرة، سنصل إلى أنها تندرج في إطار مشروعه الروائي المتمثل بإعادة الوعي إلى الذاكرة العراقية، وذلك بالعمل على أن تتخلى عن فكرة إقصاء هذه الشخصية، نظرا لما تحمله من أصالة في انتمائها لهذه الأرض، وما مرّ عليها من نكبات منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1921. والأمر لدى عواد علي لا يقتصر عند حدود الاستعادة والاستذكار، بقدر ما هي محاولة جادة على مستوى الكتابة الروائية لإعادة قراءة هذه الشخصية في سياق ما شهده التاريخ المعاصر من أحداث، ولا شك في أنه بروايته تمكن من كسر الصورة المختزلة والنمطية عن الشخصية المسيحية في النتاج الروائي العراقي على نحو خاص، ونجح في ملامسة أعماق شخصياته برؤية السارد الذي يسعى إلى الكشف عن ماهيتها وسبر حقيقتها ماضيا وحاضرا، كاشفا عبر لغة مرنة ما يدور في داخلها من تساؤلات حول هويتها القومية والإنسانية ووجودها التاريخي في المجتمع العراقي، فجاءت الرواية بمثابة رحلة اكتشاف لذواتنا مثلما هي محاولة لاكتشاف ذات الشخصية المسيحية الآشورية، باعتبارها كيانا إنسانيا يفيض بأواصر الانتماء للأرض والتاريخ والواقع.
كاتب عراقي