علي حسن الفواز
تضعنا رواية «منازل العطراني» للكاتب جمال العتابي الصادرة عن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق/ بغداد 2023 أمام إشكالات توصيفية متعددة، يكون السرد بتقاناته المفتوحة هو الفيصل في تحديد هويتها، وفي تمثيل طبيعة علاقتها بثيمة الصراع والتأدلج الذي حفلت به الرواية، كاستعارة لما استغرق التاريخ العراقي الحديث، فالرواية ليست سوى رواية هذا الصراع عبر تمثلات الأشخاص والأفكار، بمستوياتها السياسية والاجتماعية والنفسية..
يقترب الروائي من التاريخ بوصفه المجال الجامع للأحداث والأفكار، من خلال تقصي عوالم شخصيته الرئيسية «محمد الخلف» إذ جعل توظيفها واستنطاقها كاشفا للمخفي في ذلك التاريخ، ولإحالاته الدالة على درامية الصراع، فوظّف الروائي تقانات سردية، تمثلت في سردية السيرة، وسردية «الأكشن» لاقتراح عوالم موازية تتبدى فيها حيوات شخصياته المضطربة، والقلقة، وعلى نحوٍ أعطى للرواية هويتها في أن تكون أكثر تمثيلا لـ»واقعية السيرة» أو لمدونة «السارد» الذي يجد في لعبة السرد مجالا لتصفية حسابه مع ذلك التاريخ..
العلاقة بين السرد والتاريخ ليست بريئة، فبقدر ما يؤدي «التخيل السردي» وظيفته في الحذف والإضافة، فإنه يتحول إلى أداة في التحفيز على توسيع مساحة قراءة مضادة للحدث، والتعريف بشخصياته، فإن التمثيل الواقعي وضعنا أمام إشكالية الصراع الذي عاشه «المُدون» إزاء تدويت يوميات الزمن السياسي العراقي، ليس من منطلق توصيفه الكرونولوجي، بل من طبيعة ما استغرق ذلك الزمن من صراعات وصدمات ومفارقات، دفعت لعبة السرد إلى المناورة والتورية، وإلى تحويل «البطل الشعبي» المتعلم والحالم من راوٍ متمرد، يكتب سيرته وعائلته إلى راوٍ يملك عين «المؤرخ» غير الحيادي..
شخصية «محمد خلف» اليساري العنيف، يعيش تداعيات انتمائه عبر وعي متطرف للانتماء، وعبر حلم اليوتوبي، له مزاج النزق الثوري، وكأنه يجد في ذلك الحلم والنزق والرفض والتمرد غواية في مواجهة الواقع، وفي التماهي مع شغفه لتجسيد براديغما البطل «التروتسكوي» المهووس بفكرة «الثورة الدائمة» حيث تتعالى سردية ذلك البطل عبر انحيازه الحلمي، وعبر رغبته في «الإشباع الرمزي» فيجد نفسه مطرودا من العمل كمعلم في مدرسة جنوبية، بعد أحداث 1958، ومطاردا بعد أحداث 1963 الدامية، وما بين الزمنين تتحول ثيمة المطاردة من لعبة سردية تتقصد تعرية للواقع، والتقاطع معه، لأن هذه الأحداث لم تترك سوى الدم والعنف، وقتل الحلم الثوري الذي شغف به «الخلف» بوصفه أنموذجا للبطل الرومانسي الثوري.. قد تبدو هذه الرواية وكأنها تحاكم التاريخ عبر السرد، وتعطي لبطلها وظيفة الشاهد والضحية، لكنها تكشف لنا عن موت «الحلم الوطني» الذي استغرقه من الطفولة، وحتى بدا وكأنه تمثيلٌ لتاريخه الشخصي، متلذذا باستعادات صنعها الحلم بالثورة والتغيير، مثلما صنعها الفقر والعزل وموت المكان الجنوبي، حيث بدت «الثورة» لديه تحريضا على تصعيد الحلم، وعلى استعادة فاعلية البطل المنقذ/ الطهراني، وأحسب أن اختياره لسردية «السيرة» جعله أكثر حرية في تدوين سيرة «الأب» عبر مستوى سردي آخر، تمثلته عين الابن الذي استغرقته مبكرا بعض عدوى وعصاب «التمرد الثوري» لكنه بدا أكثر واقعية في الشك، وفي لعنة التاريخ.
محاولة في سردنة المكان
ثيمة الهروب من السجن هي مفتتح الحركة في الرواية، أو عتبتها للتوغل في سرديات الهجرة والعزل والمطاردة، ما أعطى لبطلها سانحة للكشف عن حمولات شخصيته القلقة، المرتابة، إذ لم يجد في المدينة سوى صورة «المدينة المُطارِدة» الدوستوبية، ولم يعثر على خيار إلا الهروب منها إلى الريف، حيث الانحياز إلى لا وعيه الغائر، وإلى علاقاته القرابية التي توهبه بما يشبه اليوتوبيا، والحماية الرمزية، فينسج الروائي لفكرة المطاردة واللجوء فضاء سرديا، تتمثله انتقالات ليست بعيدة عن «رواية الحركة» ولا عن شخصياتها القلقة، الذين تساكنهم هواجس المطارد/ الملاحق الخائف من عيون رجالات الحكومة و«البصاصين».
سردنة المكان لا تعني كتابة رواية مضادة للمدينة، وشخصيات تعيش عقدتها وحسب، بل إن لجوءه لـ«المكان الريفي» يعني تمثيلا لصراع داخلي، ولجوءا للصفاء، ولطهرانية المكان الأليف، فضلا عن كونه تمثيلا لـ«بروتوكول» كتابة نص عن محطات سيرة البطل، ومواجهته لفوبيا «الاغتراب» والوعي به، وللاستغراق في أسئلته، وللبحث عن جدوى وجوده في النسق الثوري، وفي علاقته بـ«المدينة الدستوبية» وحتى المكان المعادي الآخر «السجن» لم يكن بعيدا عن مركزية تلك المدينة، إذ جعلت أغلب شخصياتها تعيش رهاب ذلك الاغتراب، مأزومة بتداعيات علاقة شخصية البطل بالسجن وبالمدينة، وبـ«الهروب» إذ اكتسبت هذه الثيمة بعدها الرمزي والوظائفي، عبر التصعيد الدرامي للصراع والملاحقة، وعبر صناعة مشهد، تبدو فيه سيرة البطل، وكأنها سيرة ملحمية، يتقصى من خلالها الروائي حركة البطل، في هروبه، وفي لجوئه، وفي صراعه الخارجي والداخلي، وفي استدعاءات بعض الشخصيات لتؤدي وظائف تسند سردية السيرة، وبهذا فإن التركيب «البروبي» للرواية بدا فاعلا، متسقا من خلال ضبط إيقاع حركة الشخصيات، للوظائف التي نفذتها في السياق الروائي، وفي التحفيز على كشف أدوارها في فضح بعض «المسكوت عنه» في التاريخ العراقي، من خلال توظيف ثنائية «السيرة- السرد» كفاعلية إجرائية تقوم على متابعة الشخصية وتحولاتها على حساب التحوّل في الواقع الذي ظل رهينا بما تصنعه الشخصيات..
الشخصية.. الوجود والتحوّل
حساسية الهروب واللجوء قد تكون عنصر ضغط على توصيف الشخصية، وعلى تحوّلها فالهروب من السجن، والملاحقة من «رجال الأمن» تجعل تلك الشخصية أكثر اضطرابا وشكّا، وأكثر إفراطا في قلقه من الآخرين، وأكثر بحثا عن ذاته التي لا يفصلها عن تمثيل الوعي الثوري، وعن تمثيل ذاته في إشباعاتها النفسية والجنسية وحتى الثقافية، فالخوف يدفع البطل إلى البحث عن التعويض، وإلى استدعاء الأم/ الحبيبة والأولاد الذين يمثلون وجوده الغائب، حيث يجد في شخصية الابن «خالد» الذي يلبس قناعه الروائي/ المدون الرئيس للسيرة، نوعا من الوجود المُستعاد، مثلما يجد في تفاصيل العطوانية الصغيرة والهامشية – الراديو الذي جلبه ابن عمه، والصحف- نزوعا لترميم المكان الاستعادي/ الصياني، ولشخصية الثوري والمعلم..
التحوّل في الشخصية الروائية لا يكتفي بما يحدث في وجودها الواقعي، وفي الصراع السياسي، بل يصنع لها الروائي وظيفة نقدية، تُجسد رفض الواقع، والتمرد عليه، فيكشف لنا الروائي عن تاريخ مجاور، يتبدى فيه «المخفي» من الصراعات السياسية الداخلية في «الحزب الشيوعي العراقي» وتصاعد خيارات العنف الثوري لبعض جماعاته، فضلا عن التحوّل الذي تعرّضت له شخصيات رأت في نقد مواقف «الحزب» تعبيرا عن نقدها للتاريخ السياسي العراقي، ولطبيعة تحولاته وصراعاته، ولعل طرد «البطل» من وظيفته بعد أحداث 1958 وهي مرحلة للرومانسية الثورية، تعبير عن أزمة موقفها من التحول، ومن نظرتها إلى الأحداث التي جرت بعد عام 1961، وبعد انقلاب 1963، وأحداث العنف المسلح التي قادتها جماعة «القيادة المركزية» في معركة «هور الغموكة» التي راحت ضحيتها عناصر مهمة من التنظيم السياسي أبرزهم الشاعر خالد احمد زكي.. هذه التحولات جعلت البطل يعيش هاجس المطاردة السياسية ككناية عن المطاردة التاريخية من مركزيات الاستبداد والسلطة والخيانة، وكتمثيل للشخصية التي تعيش أزمتها السياسية بوصفها، أزمة وجودية مسكونة بقلق البحث عن ذاتها، وعن تمثلها لإرهاصات اسمها الجديد «محمد العطراني» وهو جزء من لعبة التحول، في علاقاته الساخرة والقلقة مع الآخرين، وفي إثارة أسئلة الوعي الجديد، الوعي النقدي الذي عاش أسئلته «محمد الخلف» لكنه بدا أكثر وضوحا في شخصية الابن خالد الخلف، النازع إلى الواقعية في النظر إلى علاقته بالتحول والانتماء، وإلى ضبط إيقاع الاندفاع نحو فكرة «الثورة الدائمة».
السجن الذي تعرّض له «الابن» جعله يكشف حجم الرعب الذي يحوطه، وحجم خطيئة «التاريخ» الذي صنعه الآباء، مثلما جعله مهووسا بإثارة أسئلة وجودية، تخصّ علاقته بالتاريخ والهوية والمكان والأب والسياسة والسلطة والأيديولوجيا، وهي علاقات جعلته أكثر توترا، لاسيما بعد استشهاد شقيقه «عامر» إذ تحولت الفاجعة إلى مراجعة، والوعي الثوري إلى وعي نكوصي، والرومانسية الثورية إلى حساسية واقعية «كانت التجربة قاسية تركت ندوباً موجعة في نفسه، حشروه بين أرباب السوابق والقتلة والمجرمين والمنحرفين لمدة أسبوع).
هذه المغايرة في كسر إيقاع «النرجسية الثورية» تحولت إلى مغايرة في السرد ذاته، فالابن «خالد» أضحى هو السرد المناوب، كاشفا عن محنته إزاء التاريخ، وإزاء سيرة الأب، فالعودة من السجن جعلته مكشوفا أمام الآخرين، فالتغيّر في الملامح هو كناية عن التغيّر في المواقف «دُهش أخوتي الصغار لمنظري وأنا أحمل فراشي على كتفي، صرة ثيابي، تحت إبطي، غريبا عليهم، نسوا هيأتي وقد كبرت، تغيرت ملامحي».
العطراني وسردية التحوّل
تغيّر مستوى السرد، يكشف عن التغيّر في الواقع، كما أن فقدان «الملامح العائلية» للابن «خالد» بعد السجن يكشف أيضا عن استدعاء تشكيل ملامح جديدة للبطل الواقعي، وللنظرة إلى الواقع وللعلاقة من الآخرين، كما أن استشهاد الأخ كان جزءا من سردية التحوّل، إذ جعلت الأب يفقد كثيرا من مركزيته، ليبدو مفجوعا، مخذولا، يعيش الوجع بوصفه لحظة إنسانية، تجعل من الفقد قناعا للفقد الوجودي. كما أن التغيّر في كيان العائلة يكشف ـ ايضا- عن التغيّر في الواقع، وفي العلاقة مع المكان، إذ يحمل فقدان الأب حلمه الثوري، ومركزيته الرومانسية، دافعا لتشظية النظام العائلي، ليبدو التغيّر فاعلا في عالم نساء العائلة اكثر من غيره، فهو تغير لا يكشف عن المفارقة في «الصراع الاجتماعي» أو في قناعه السياسي فقط، بل يكشف عن التشظي في سيرة الحلم الثوري، وصعود سردية «الابن الواقعي» في نظرته لوعي التحوّل، فتذهب الأم للعمل كعاملة في معمل للنسيج، والأختان «هدية ومحسنة» تذهبان لتعلّم مهنة الخياطة، للمشاركة في صياغة نظام إشباعي للعائلة الجديدة، بعد تقوّض النظام القديم الذي انكشف على سلسلة من «التقوضات» بدءا من تقوّض وظيفة الأب والحلم الثوري، وانتهاء باستشهاد الابن الذي كشف عن تقوّض روحي عميق.
كاتب عراقي