"كتاب الضحيّة" لرامي أبو شهاب.. اكتناهٌ نقديّ لآداب الصَّدمة

2024-03-08

أنس الأسعد

"الصَّدمة" مفهوم راح يتردّد كثيراً في واقعنا العربي، على الأقلّ خلال العقد الماضي، وها هو اليوم مع العدوان الإبادي على غزّة يبلغ ذروةً غير معقولة من التوحُّش. لكن ما انعكاسُه على الأدب؟ وهل المجتمعات العربية تعيش حالة صدمة مُستمرّة؟ وكيف نَعبُر بهذا المفهوم من حقله النفسي العِيادي إلى آخَر سوسيولوجي وفنّي؟ هذا ما يحاولُه الناقد والشاعر الفلسطيني رامي أبو شهاب (1974) في كتابه "كتاب الضحيّة: آداب الصّدمة (التروما) الصيغة، الأثر، الامتداد"، الصادر حديثاً عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر"، والذي يتأمّل فيه الكاتب هذا المجال المعرفي وتمظهُراته النصِّيَّة من خلال أربعة نماذج: مجموعة "أثر الفراشة" للشاعر محمود درويش، وروايتَي "الخائفون" لديمة ونّوس و"فرانكشتاين في بغداد" لأحمد سعداوي، وجوانب من تجربة محمد الماغوط الشعرية.

ورغم أنّ الواقع العربي يُفصح عن كثير من "الصّدمة" في النصوص التي كُتبت على خلفيّات تجارب الحرب والتهجير والاقتلاع والإبادة، وهذا لا يُمكن إغفال "الأثر والامتداد" فيه، سواء عن وعيٍ أم من دونه، لم يكشف الدَّرس النقدي العربي  بعدُ عن جهدٍ مُوازٍ في تتبُّع هذا الأثر، وهُنا تبدو فرصة الكاتب ليقول كلمته المرجعيّة على المستوى النقدي، بل التنبيه أيضاً، لمن يكتب نصوصاً تحت وقع الصدمة، على خصائص ما يكتبه؛ بمعنى أنّ النقد يشقُّ طريقاً قَبليّاً للنصّ أو لمثاله إن صحّ التعبير، ولا ينتظر تمثُّله.

تاريخُ "دراسات الصَّدمة" (Trauma Studies) في الحقل الأكاديمي الغربي ليس قديماً، كما يُنبّه أبو شهاب، الذي يُحيل على كتاب المُنظِّرة والناقدة الأميركية كاثي كاروث "تجربة غير مرغوب فيها: الصدمة والسرد والتاريخ" (1996)؛ قبل أن يَشيع لاحقاً استخدام مصطلح "اضطراب ما بعد الصدمة". ويُحدّد الباحث موقع هذا النوع من الدراسات باعتباره حقلاً "بَينيّاً"، حيث يجتمع المنطلق النفسي ("عُصاب الصدمة") كما شخّصه فرويد في كتابه "ما فوق مبدأ اللذة"، ومفهوم الذاكرة، إلى جانب الدّراسات الثقافية والنظرية النسوية وخطاب ما بعد الكولونيالية. يكتب: "التعالُق السردي مع الصّدمة يتحوّل إلى تشكيل خطابي يرغب في أن يُمارس دوراً يتجاوز عملية نقل التجربة".

أخذ الهولوكوست موقعاً معيارياً مُهيمناً في "دراسات الصّدمة"، قبل أن يتمّ استلحاق القنبلتين النوويّتين اللتين أُلقيتا على هيروشيما وناكازاكي، وحرب فيتنام، وغيرهما، فهل تمّ "استبعاد النكبة الفلسطينية من دراسات نوع الصدمة"؟ كما عنونت الباحثة روز ماري صايغ مقالاً لها حول هذا الموضوع ونُشر في مجلّة "الدراسات الفلسطينية" عام 2014. للإجابة عن هذا السؤال، يكتنه الناقد ثلاث تجارب أدبيّة: فلسطينية وعراقيّة وسوريّة، ويُميّزها بقدرتها "على عكس قيم الصدمة والخوف وفائض الألم... سواء عبر الاحتلال، أو الحرب أو أثر السلطة في خلق عطبٍ يطال الذات".

"لم أُدرِك سوى في مرحلة مُتقدّمة من حياتي أنّ الفلسطينيّين يسعون جاهدين لأن ينسوا عندما يجدر بهم أن يتذكّروا. بينما يسعى الإسرائيليّون جاهدين لأن يتذكّروا عندما يجدر بهم أن ينسوا. وفي حين يرفض الفلسطينيّون أن يكونوا ضحايا يُصرّ الإسرائيليّون على أن يظلّوا الضحايا الوحيدين". بهذه العبارات للروائية والمعمارية الفلسطينية سعاد العامري يفتتح المؤلّف الفصل الثاني من كتابه المُخصَّص لـ"التجربة الفلسطينية"، التي تنبع إشكاليّتها من كونها "تتجاوز الرؤية التي تنهض على فقدان الإنسان نتيجة الموت أو الفقد، كون الفلسطينيّين يتعرّضون لمحاولة إفناء، أو محو على أكثر من مستوى بدءاً من التصفية الجسدية، وانتهاء بالتصفية الثقافية والحضارية".

وفي هذا الفصل يقرأ الناقد مجموعة "أثر الفراشة" (2009) مُحدِّداً ملامح الصَّدمة، حيث يفتتح محمود درويش عمله بالحديث عن البنت التي قصفت طائرات الاحتلال عائلتها على شاطئ غزّة: "على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهلٌ/ وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتان وباب/ وفي البحر بارجة تتسلّى/ بصيد المُشاة على شاطئ البحر/ أربعة، خمسة، سبعة/ يسقطون على الرَّمل، والبنتُ تنجو قليلاً/ لأن يداً من ضباب/ يداً ما إلهية أسعفتها، فنادت: أبي/ يا أبي! قُم لنرجع فالبحر ليس لأمثالنا". النجاة هُنا، كما يبيّن الباحث، مفردةٌ شديدة الاتصال بكتابة الصدمة، كما أنّ "النجاة لا تبدو حقيقية، أو أمراً إيجابياً، وإنما هي ألَمٌ مُستعادٌ من حياة تخلّلتها ذكريات أليمة؛ ولهذا نعَتها الشاعر بأنها نجاة (قليلاً)".

كذلك تعدّ الأحلام من أبرز علامات الصدمة، فالضحيّة تُعاني معاودة الحلم والكوابيس نتيجة حدث كمَن في اللّاوعي: "المشهد هو هو. صيفٌ وعرق، وخيال/ يعجزُ عن رؤية ما وراء الأفق. واليوم/ أفضلُ من الغد. لكنّ القتلى هُم الذين/ يتجدّدون، يُولدون كلّ يوم. وحين يحاولون/ النوم يأخذهم القتل من نُعاسِهم إلى نوم/ بلا أحلام. لا قيمة للعدد. ولا أحد".

ولمّا كانت ثنائية الضحيّة والجلّاد من سمات أدب الصَّدمة، نجد درويش يُقيم "حواريّة تأمّلية" طرفاها الضحيّة والجلّاد، بهدف وَضْع الألم كـ"تجربة مشتركة تتقاسمها ذاكرتان": "من حقّ الضحيّة أن تُدافع عن حقّها في/ الصراخ. يعلو الأذان صاعداً من وقت/ الصلاة إلى جنازات متشابهة: توابيت/ مرفوعة على عجل، تدفن على عجل... إذ لا/ وقت لإكمال الطقوس، فإن قتلى آخرين/ قادمون مسرعين، من غارات أُخرى". ويعقّب الباحث على هذا المقطع: "مع أن درويش يُعيد رسم حدث ما، ونعني قصف الطائرات الإسرائيلية للعائلات الفلسطينية على شاطئ غزّة، غير أنّ وعيه يمتح أيضاً من مُخلّفات الذكرى التي صنعت الضحيّة التي تُطالَب بالصمت منذ أن بدأت المأساة".

"الصدمة ونواتج الفعل الكولونيالي: التجربة العراقية" عنوان الفصل الثالث، حيث يقرأ صاحب "الرسيس والمُخاتلة: خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المُعاصر" (2013) رواية "فرانكشتاين في بغداد" للرّوائي العراقي أحمد سعداوي، بوصفها عملاً مركزياً في سياق التعبير عن حقبة كولونيالية إمبريالية جديدة في القرن الحادي والعشرين، نشأت عنها صدمة بتداعيات شديدة التعقيد. وينظر أبو شهاب إلى الرِّواية على أنها "نصٌّ يقع ضمن طيف نصوص أو آداب ما بعد الكولونيالية كونه يستند إلى تجربة احتلال كلاسيكي مباشر". وينطلق في قراءته من تحديد روبرت يونغ لـ"الكولونيالية الجديدة"، كونها "أسوأ شكل من الإمبريالية، فهي عند أولئك الذين يُمارسونها تعني القوّة بلا مسؤولية، وللذين يُعانونها تعني الاستغلال بلا تعويض" (روبرت يونغ، "ما بعد الكولونيالية"، ترجمة: عدنان حسين).

تقوم الرواية على فكرة "ابتكار المسخ"، في محاولة من سعداوي، "خلق مُواجهة طِباقية مع النُّظم الثقافية الغربية... حيث أفاد سعداوي من نصّ شديد التعمّق في الثقافة الغربية ("فرانكشتاين، أو بروميثيوس الجديد" لـ ميري شيلي)". بمعنى آخر، لقد "أَنتجَ هذا الغزو الشرّ أو كتلاً من الذوات المشوّهة، أو التي لا تقبل التعريف" ومنها المسخ المعروف بـ"الشسمه"، أو الذي لا اسم له. ويُمكن ملاحظة تمثيلات الصدمة في هذا العمل من خلال عدّة مظاهر؛ كالجنون، والاضطراب النفسي، وإنكار الواقع ورفض الاعتراف بالموت، وهذا ما تمثّل بشخصية "أم دانيال" التي تعاملت مع "الشسمه" على أنه ابنها الذي فقدته خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ولا يقلّ عنها تشوّهاً "هادي العتّاك" ولا "فرج الدلّال".

في الفصل الأخير من الكتاب "متلازمة الخوف: التجربة السورية" ينطلق الناقد من رواية "الخائفون" لديمة ونّوس، حيث يتحدّد وعي الصدّمة منذ العنوان مباشرة الذي جاء بصيغة الجمع، ويتكثّف بشخصيّتَي "نسيم" و"سلمى"؛ الأولى التي تُمارس نوعاً من التقية في خطابها، والثانية التي تنصّ على أنّ "مأساة الخوف تكمنُ في انتظاره الذي يعدُّ أكثر ضرراً من الخوف عينه". في حين أن منشأ الخوف في العمل يصدر عن "سلسلة متتالية من الصدمات التي تتصل بإحداثية زمنية تظهر على شكل استرجاع لأحداث حماة، وتقاطعها مع الثيمات التي تتصل بزمن الربيع العربي".

وبهذا يبدو الخوف في الرواية سلوكاً تطوّر عبر الزمن، بل "سكن الحيوات تبعاً لأنظمة وأنساق (النسق السردي للرواية نفسها) أسهمت فيها دولة بوليسية تُتقن توليد الخوف كي يكون إحدى أدوات السيطرة والهيمنة". تتأسّس "الخائفون"، وفقاً للناقد "على تداخُل السياسي بالذاتي النفسي"، وهذا ما يخلق "نسيجاً سردياً لا يحفل بتتبّع تمثّلات الصدمة عبر المصطلحات النفسية التي تتصل بـ"العيادة"، وتداولها على مستوى الخطاب السردي، إنما ينشغل في تحليل الأبعاد الثقافية التي تؤسس لظاهرة الخوف، وامتدادها في السردية العربية المعاصرة".

"جرِّبوا الحرّية يوماً لتروا كم هي شعوبكم كبيرة، وكم هي إسرائيل صغيرة"، بهذا الاقتباس لمحمد الماغوط يُنهي الشاعر والناقد رامي أبو شهاب كتابه، بفصل أخير يتناول فيه تجربة الشاعر السوري (1934 - 2006). ففي مجموعة "الفرح ليس مهنتي" إلحاحٌ على مداولة البحث عن الحرّية، الذي يُفضي بدوره إلى مواجهة حضور السلطة بتمظهراتها المتعدّدة كالقمع والترهيب والاضطهاد. وثنائية الحرية - الخوف، فيها شيءٌ من ثنائية الضحية - الجلّاد، يكتب: "كان فراشي مليئاً بالأصداف وزعانف السمك/ ولكن عندما حلمتُ بالحرية/ كانت الحراب/ تطوّق عنقي كهالة المصباح".

يُعقّب أبو شهاب على هذا المقطع: "غالباً ما تقترن الحرية بالحلم في الوعي المقهور على المستوى النفسي، من منطلق أنّ الحلم يتمظهر في بُعدين: ارتداد يتصل بتجربة تقود إلى العجز، أو نموذج يتمثّل باختلاق الدرع لتجاوُز خاصية الألم والصدمة". قبل أن يرتدّ الماغوط نحو الأمّ هارباً من قمع السلطة والخوف والسجن، ويلجأ إلى بناء سياسة لغوية مضادّة لسياسة السلطة القمعية: "أمي/ أسرعي لنجدتي/ تعالي وخبّئيني في جيبك الريفي العميق/ مع الإبر والخيطان والأزرار/ فالموت يحيق بي من كلّ جانب/ السماء تظلم".

بطاقة

شاعر وناقد وأكاديمي فلسطيني من مواليد عام 1974. حاصل على دكتواره من "معهد البحوث والدراسات العربية" بالقاهرة عام 2012. صدرت له في الشعر مجموعة بعنوان "أمّا أنا فلستُـ(من) ـطين" (2019)، ومن مؤلّفاته النقدية: "الرسيس والمخاتلة خطاب ما بعد الكولونيالية في النقد العربي المعاصر؛ النظرية والتطبيق" (2013)، و"في الممرّ الأخير: سردية الشتات الفلسطيني" (2017)، و"الأنوات المشوَّهة: مقاربات في التنوير والمعرفة واللغة" (2019)، و"خطاب الوعي المؤسلب في الرواية العربية" (2021)، و"كتاب الضحيّة: آداب الصّدمة (التروما) الصيغة، الأثر، الامتداد" الذي صدر هذا العام.







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي