الجزائر… كل هذا الحب

2024-03-07

رامي أبو شهاب

كان البردُ شديداً عند الوصول إلى مدينة الجلفة الجزائرية، التي توصف غالباً بأنها بوابة الصحراء، كما حدثني الروائي القادم من عمق الصحراء، في الجنوب الجزائري، الصّديق حاج أحمد، الذي كان في استقبالي لنرتحل معاً من مطار هواري بومدين إلى الجلفة… تحدثنا طوال 4 ساعات عن أدب الشتات، والمنفى، وشعب الطوارق.. لقد بددت حرارة الاستقبال برودة الطقس، التي حلّ مكانها دفء الضيافة، الذي ميّز مدينة الجلفة، التي استضافت على مدار ثلاثة أيام 20-22 فبراير 2024 الملتقى الجزائري الدولي للرواية بعنوان «الرواية وتشكلات الفضاء: الذاكرة، المدينة، المنفى».

لقد بدت الجزائر جزءاً من مُتخيل غير متعيّن أو محدود، ينهض في تكوينه الأساسي عبر النظر إلى هذا البلد من واجهة تاريخ مقاومته للاستعمار، فانبثقت في الذاكرة صورة الأمير عبد القادر الجزائري، علاوة على مشاهد من الفيلم الشهير «معركة الجزائر» للمخرج الإيطالي «جيلو بونتيكورفو» وسيناريو الكاتب الجزائري «ياسف السعدي» مع ما يكمن في الذاكرة من محبة الجزائريين للشعب الفلسطيني، ومساندة قضيته، فضلا عن ذلك فإن خبرتي بالجزائر لا تتجاوز ما قرأت، علاوة على صداقات عبر الفضاء الرقمي مع عدد من المثقفين والأكاديميين، والأهم من ذلك قراءاتي في الأدب الجزائري، التي اكتشفت أنها عاجزة عن الإحاطة الحقيقية بما يكمن في هذا البلد من تجارب، وخبرات، وأسماء، تحتاج إلى وقت طويل للإحاطة بها.

تكمن قيمة هذا الملتقى في فكرته، التي جسّدتها وزارة الثقافة الجزائرية، حين اختارت أن تكسر أنماط المركزيات، التي تعوق انتشار الثقافة خارج مركز العاصمة، فجعلت الثقافة حاضرة في كل المناطق والولايات. ولعل هذا التصور، الذي دعمته الوزارة حمل معه الكثير من الإشارات الإيجابية، التي ينبغي التوقف عندها في ما يتعلق بتوقيت الملتقى، وعنوانه، في وقت تعاني فيه غزة من إبادة جماعية، وتجويع، مع محاولة تهجير الشعب الفلسطيني. ففضاء الارتحال، والنفي أو الشتات يعدّ واقعاً شديد التعقيد، وقد استغرق قدراً كبير من وعي المثقفين، الذين اختاروا الارتحال طوعاً أو قسراً. ومع ذلك، فإن وقائع كتاباتهم بدت الأكثر نضجاً وحساسية تجاه العالم المتشظي. وفي هذا السياق أستحضر نصاً شديد الحساسية للروائي ديفيد معلوف بعنوان «أوفيد في المنفى».

ولا يفوتني أن أستذكر مقاربات الروائيين: ميلان كونديرا وجويف كونراد، وقد اختبرا الخروج من الوطن، والكتابة بلغة غير لغتهم. كما أستحضر أيضاً من الجزائريين كاتب ياسين ومحمد ديب، عبر نموذج خطابي مقاوم اعتمد لغة الآخر. في حين أنّ إدوارد سعيد اختزل قلق وجود الأنا، التي تكمن خارج المكان. وفي السياق عينه تذكرت عمل الكاتبة الجزائرية آسيا جبار «لا مكان لي في بيت أبي» كي تكتمل قيمة الإحالة إلى فاعلية النفي، وقيم الاغتراب، التي تسكن المثقف. غير أنني في الجزائر لم أشعر إلا بأنني في وطني الثاني، لا قولاً يحتمل المجاملة، إنما على الحقيقة، نظراً لفائق الحب أو كل هذا الحب قياساً على مسلسل شاهدته مؤخراً حمل عنوان «كل هذا الضوء الذي لا نستطيع رؤيته» ويحكي قصة حب بين فتاة فرنسية عمياء وجندي ألماني، خلال الحرب العالمية الثانية، جمعهما قاسم مشترك، يتمثل في الاستماع لمحطات الراديو، ولعل الضوء هنا يعني أفقاً مجازياً للإيمان بالحياة والحرية. لكني شعرت بالحزن لأن الثقافات التي تقاوم وتحب كانت قادرة على أن تمارس الفعل عينه من الاحتلال والقتل، ومساندة الجلاد، وهنا تكمن المفارقة.

انحاز الملتقى في تكوينه وعنوانه وزمنه إلى الطارئين، الذين يعانون من الإقصاء، بالإضافة إلى أهمية أن نعي تقويض المركزيات، حين يتاح للكل أن يكون جزءاً من المشهد الثقافي، وهذا ما لمسته من حضور مثل تكويناً مثيراً للإعجاب من قبل الطلاب والأكاديميين، بالإضافة إلى الروائيين: عرباً وجزائريين، لكن الحضور الأجمل كان لقراء عاديين بسطاء، اقتطعوا شيئاً من قوتهم ووقتهم ليشتروا كتباً من المعرض، ويشهدوا وقائع الملتقى. غير أنّ اهتمام الجزائريين بالأدب شكّل مصدر دهشة لي، فبين ثنايا اللقاءات والحوارات بدا الحضور الجزائري لافتاً، فمن النادر أن تجد هذه الإحاطة في ملتقى، وأن تجد هذا الشغف تجاه المعرفة، والأدب، والكتاب، والمثقف.

ولعل هذا ما لمسته على صعيد شخصي، مع حرص المنظمين على تقديم كل التسهيلات للضيوف، وعلى رأسهم مهندس الملتقى الروائي والمثقف «إسماعيل يبرير» مستشار وزيرة الثقافة، بالإضافة إلى الصديق الدكتور وحيد بن بوعزيز رئيس اللجنة العلمية، الذي حضر مع جمع من طلابه في الدراسات العليا. وقد حملت المناقشات والندوات وجهات نظر متعددة، في قراءتها لواقع المنفى، وفضاء المدينة، وواقع الرواية الجزائرية والعربية، كما قيم الواقع والمتخيل والتاريخ، وبدت الأفكار جزءاً من وعي قلق تجاه ما يكمن في فضاء الرواية من إشكاليات وجودية وبنيوية، ولا سيما جدل تمثيل الرواية الفلسطينية، الذي شكل جزءاً من مداخلتي.

إن اللقاءات الثقافية أو العلمية تتجاوز ما يُلقى على المنصة… فثمة حكايات تطفو على الهامش، وتتعلق بما لا تراه، أو بما يكمن في المكان من سمات ثقافية وتاريخية اضطلع بسردها العديد من الأصدقاء، وأشخاص تلتقيهم لأول مرة، غير أنهم يحملون الكثير من الحب والترحاب، بالتوازي مع الرغبة في أن يجعلوا منك جزءاً من ثقافتهم وسرديتهم، التي يدون مفتونين بها؛ لأنها تعني جزءاً من هويتهم، وتاريخهم.

ففي الطريق إلى المسرح الجهوي اختصر لي الصديق الدكتور عبد الرحمن وغليسي جزءاً من سيرة الأمير عبد القادر الجزائري، في حين ضمن الصديق الدكتور وحيد بن بوعزيز محطات كثيرة؛ أهمها رحلة العودة، التي جمعتنا من الجلفة إلى العاصمة الجزائر، مع حرص وطني على أن ينهض بمهمة تعريفي بالعاصمة، في ساعتين تسبقان رحلة الطائرة، إذ كنت مضطراً للمغادرة، لظروف خاصة، على الرغم من وجود برنامج للضيوف يشمل زيارة العاصمة، غير أن الدكتور وحيد بن بوعزيز سعى إلى تقديم صورة تكمل شغفي بوقائع الجزائر وثورتها، حين شرع يحدثني في الرحلة الطويلة من الجلفة إلى الجزائر، فكان كل هذا الوقت فسحة للحديث عن الجزائر، والثقافة، والأدب، ولا سيما شغفنا التخصصي تجاه الدراسات الثقافية وخطاب ما بعد الكولونيالية… شغف نتقاسمه، ربما لأننا ننتمي إلى واقع يكاد يتشابه في التجربة والتاريخ لبلدين عانيا من الاستعمار.

في الطريق مررنا بمدن جميلة تميزت بطبيعتها الفاتنة، ومن ثم وصلنا للعاصمة، ومنها منطقة القصبة، وبعض المواقع التي ظهرت في فيلم معركة الجزائر، كما شاهدت جامع الجزائر، أو المسجد الأعظم، ثالث أكبر مسجد في العالم، بالإضافة إلى مسجد عثماني، وبعض الأسواق، وقد تميزت بعض المباني بالطابع الكولونيالي الفرنسي، فشكلت شيئاً من ملامح المدينة الساحلية، التي جمعت بين ثقافات متعددة: عربية، وغربية، وموريسكية، وعثمانية، والأهم محلية جزائرية … وكان لابد من التوقف أمام مقام الشهيد، في حين كان الختام بزيارة مغارة «ميغيل سرفانتس» تلك المغارة التي بدأ فيها الروائي الإسباني كتابة روايته الشهيرة «دون كيشوت» عندما كان مختبئاً في المغارة لأربع سنوات.

بدت لي الجزائر روحاً وواقعاً مزيجاً من الحب والحياة والتضحية والألم والشغف، كما عكستها الأغاني الشعبية المحلية، ومنها أناشيد المديح النبوي، وموسيقى القناوي والنايلي وغيرها. الجزائر المتعددة والمتنوعة.. يكمن خلف مبانيها وأسواقها حكايات، حين حملت شوارعها وساحاتها أسماء الشهداء، لتصنع تاريخها الخاص، الذي انبثق من حلم البحث عن الحرية، وتحقق بعد تضحية قل نظيرها في التاريخ، وهذا ما دفعني إلى التفاؤل بأن طريق الحرية قد يبدو طويلاً وشاقاً ومؤلماً، لكن في نهايته يكمن التحرر والكرامة… وبينما تقلع الطائرة إذ خطرت لي أبيات الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري حين غادر مدينة يافا في فلسطين، فقال مودّعاً:

لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً به، واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب

فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ وعنْ وطَني إلى وطني إياب

كاتب أردني فلسطيني







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي