بضعة شجون عن الحدبة

2024-01-02

تجمع مئات الأشخاص وهم يحملون العلم الفلسطيني واللافتات أمام مدرسة باركلي الابتدائية في لوتون صباح يوم الخميس (أ ف ب)

باسم النبريص

لا شيءَ يدوم إلى الأبد سوى ذاكرة الفلسطينيّ.

الذاكرة، حدبةُ الفلسطينيّ يحملُها على ظهره أينما كان. وهي حدبةٌ لا مكان لإحداثيّات جميلة في سينوغرافيّتها، حتى لو هو تمنّى ذلك. لا يُوجد في العالَم فلسطينيٌّ مُعافىً من داء الذاكرة، لا تماماً ولا حتى لُماماً. الفلسطينيُّ يحيا بين الناس، مُخفيَاً حدبته عن أبصارهم، مُجالِداً ومُجدَّاً، ثم حينَ إخلادٍ إلى النوم، وحيداً أو في فراش ثُنائي، ترجع له حقيقته الأُولى: تلك الحدبة على الظهر.

مُصيبة الفلسطينيّ في ذاكرته، وهي في نفس الوقت، علامةُ تميُّزِه الأسيان عمّن يُحيطون به، في منفىً أو في بقايا وطن، فمن شابَه أهله وجيرانه، ما ظلم. الفلسطينيُّ يولد كالناس، لكنّه لا ينتهي مثلهم. النهاياتُ الفلسطينية حزينة بالمُطلق، ودوماً هي هكذا. الفلسطينيّون جميعاً أكَلَةُ حصرم، وجميعاً يضرسون، من الجدِّ للأب للابن للحفيد. وليس شائعاً أن يحيا الفلسطينيُّ طبيعياً تماماً، وأن يموت غير مريض وهاذٍ، حالُه كحالِ العالَم المُحيط به.

الوالدُ الذي لا أعرفه - رحمة الله عليه - ماتَ ناقص عُمر في الخمسينيات، وهو يهذي عن قريته المُلغاة بقلم الصهاينة. مات بعد ستّ عَشْرة سنة من النكبة، دون أن يفهم (الاستيعاب غير الفهم) أيّ تفصيل ممّا جرى. كاتب السطر، عاش أكثر منه بعشر سنوات حتى الآن، ورأى أكثر منه، وقرأ ما لم يقرأ الفلّاح الأمّي، وها هو اليوم، بعد خمس وسبعين سنة، من النزوح الأول، عكس الوالد، يستوعبُ ويفهم إنّما على ما هو أشدّ من المضَض: على صهارة الجَمر.

هذا الحُدوث الثاني الجاري حاليّاً من النكبة، بطبعتها المزيدة والمنقّحة، قابلٌ للاستيعاب والفهم والتألُّم المُضاعف. لكنّ ألَمَ الطَّبعة الأُولى، هو الرَّحم وهو الأصل، وكلّ ما نرى اليوم هو الغُصن من تلك الشجرة، أو المضاعفات من ذلك الدَّاء.

الفلسطينيُّ لو عاش في ماليزيا أو مدغشقر، أنتويرب، أو سانتو دومينغو، إلى المصبّ يعود، على عكس جميع الأنهار. تلك عادتُه مع روحه المُشظّاة. إن لم يسمح له نهارُه بها، ففي الليل متّسع. كلّهم إلى الأربعينيات من القرن الماضي يعودون. فمن رَحْم تلك الحقبة السوداء، وُلد ألمُهم الشاهق، اليوم.

لي مئات الأقارب تحت نايلون الخِيَام في رفح، الآن، تماماً كما كان لي أقلّ منهم، تحت أقمشة مُرتجلة، منصوبة في عراء سوافي خانيونس، قبل خمس وسبعين سنة. لي عشراتُ الشهداء منهم، الآن، لكنّ عام النكبة الأُولى، ارتقى شهيدان فقط، كانا قد نزحا إلى بيت حانون، وبعد أسبوع، عضّهم الجوع القاتل، فرجعا إلى نجد مُتسلِّلَين، بحثاً عن طعام، فلم يُطعما ولا عادا من الجائعين الأحياء للأبد.

زمان، كنت أُلاحظ نُدرة النوم عند الأمّ والجدّة. كنتُ صبيّاً ومُراهقاً، وكنتُ لا أشبع من النوم. أحياناً أنام ثماني عشْرة ساعة في دورة الأرض، بينما هما تنامان نومة الذئب. كنت أستغربُ كيف لا ينهار منهما الجسد. واليوم دخلتُ في طورهما ذاك، على وقع مقذوفات هذه المحرقة. ثلاث ساعات، أو أربع، إن حَسُن الحظّ، تكفي.

الفلسطينيُّ أرقُ نفسِهِ، وأرقُ العالَم. الحالة الأُولى تلبّسته غريزياً من تلقاء نفسها. أمّا الثانية فاحتاج إلى أعمار كي يصل إليها، على هذا المقام وهذه المرتبة العاليَين. ولسوف يحيا ويتطوّر، وهو مقذوف في اليأس الجذري، حتى يخطفَ الأمل من الجميع، تماماً مثل شركات الوقود الأحفوري.

شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي