قصة قصيرة.. الفستان الأبيض

2021-08-09

لوحة لـ فريدريك ويليام إيلويل   https://www.alqabas.com/article/5859189 :إقرأ المزيد

أسماء سعيد الإبراهيم 

تقلّب الفستان الأبيض الصغير بين يديها، تنظر إليه تارة، وإلى طفلتها سارة تارة، ترفعه أمام عيني صغيرتها، تبتسم بحماسة محاولة إثارة حماسة ابنتها: سارة! أتريدين ارتداء هذا الفستان في عرس خالك؟ تبتسم سارة وتهز رأسها بوهن.

تحمل الفستان إليها وتضعه فوق قطعة القماش البيضاء التي تغطيها كما لو أنها تلبسها إياه، «انظري ما أجمله!»، رأت أن سارة تهم للقفز من عريشتها المحاطة بالورد والعصافير التي لا تتوقف عن التغريد كي تجرب تمدد الفستان حولها وهي تدور، لكنها تفهمت قلقها من إيقاظ سيقان الورد النائمة على أطرافها، فأجلت الدوران لقفزة لهفة أخرى.

تتأمل الفستان الملقى عليها وهي تراها في عالم آخر ترتديه وتقفز وتدور به. تمسح على رأسها بحنان والدموع تغالبها: «يارب أشوفك بالأبيض».

سكتت برهة، وراحت تتأمل الأبيض الآخر الذي يغطيها، الستائر البيضاء التي تحجبها عن جيرانها، المارون بها المرتدون لبياض كانت تدعو لها أيضاً أن تكبر لترتديه مثلهم، غير أن البياض الذي تحقق ارتداؤها له لم يكن من ضمن دعواتها!

تحاول جاهدة أن تغالب السواد الذي يلتهم رأسها محاولاً تلطيخ صورة اللون الأبيض في خيالها، لكنها كانت في كل مرة تهز رأسها وكأنها تنفض السواد عنه وعن عينيها كي لا تهتز ثقتها بالبياض..

تفتش في حقيبتها ثم تسحب عود شوكولاة مغلفة، تفتح سارة عينيها باهتمام وتبتسم ابتسامة عريضة، تضحكت لها أمها: أتريدين تذوقها؟ تنطق سارة بعد صمت دام دهراً: أجل! تفز أمها من مقعدها لتجلس إلى جانبها تنتزع سارة عود قصب سكر رقيق من أنفها منذ أن قالوا لها قبل عام أنها لن تحتاج فمها للأكل، تلتهم الشوكولاة بشراهة، فتضحك أمها.

تجلس أم سارة بجانب ابنتها واضعة اصبع الشوكولاة الذي لم يُمَس بجانبها وراحت تمسح بقع الشوكولاة الوهمية حول فم سارة، تمسح على شفتيها الزرقاوين برفق بإبهامها وكأنها ترسم بأحمر الشفاة عليهما، فتحمران كاحمرار عينيها المكتظتان بالدموع..

تدخل سيدة ترتدي بنطالاً وقميصاً أبيض، تغطي أنفها وفمها وتكشف عن شعرها، توقفت بضع ثوانٍ تتفقد الأزهار المحيطة بسارة، تهدئ العصافير التي تبالغ في الزقزقة، ثم قبل أن تغادر، تضغط زراً على صندوق أسودَ وتبتسم لأم سارة وتغادر.

ما إن غادرت السيدة، حتى بدأ الصندوق يصدر أصواتاً غريبة! أشباح سوداء تتسرب من كل جوانبه، زجاج يتطاير في الهواء كبذور لقاح خصبت ذاكرتها السوداء.. صوت شقيقتها وهي تصرخ على الهاتف، التلفاز المحطم فوق رأس سارة، رنين الإسعاف، طنين جهاز ضربات القلب حين توقف عند نبرة واحدة ثابتة، رجال يرتدون الأخضر يضغطون صدر سارة، رجل ينفخ الهواء في فمها، صوت الجهاز المتقطع، الطبيب الذي قال إنها لن تعود كمان كانت!

صورة سارة وهي تتقافز أمام عينيها مرتدية الفستان الأبيض راحت تتلاشى أمام عينيها ليأكل قلبها منظر سارة التي تحولت إلى خرقة مغطاة بالأبيض دون أن يسلم شبر من جسدها الصغير من أيادي تمدها ببعض الحياة التي لا حياة فيها..

صوته المعدني البارد يتردد في رأسها «لن تعود كما كانت أبداً»، كمن يلقي بحثالة سيجاره على بنزين ويمضي غير آبه بالحريق الذي لا ينطفئ.

حاولت إسكات تلك الأصوات العالقة في رأسها، أخذت نفساً عميقاً دون أن ينفذ الهواء إلى رئتيها المحشوتان بالألم، عاد الصوت يقرع رأسها ولم يتوقف حتى اطمأن إلى تحطيم قلبها إلى فتات يائس: «لن تعود.. لن تعود.. لن تعود..».

«يكفي!!!» صرخت أم سارة فانتفضت العصافير وراحت تزقزق باضطراب! جرت صوب الصندوق، قطعت عنه شريان الحياة، التفتت إلى سارة بجدية والدموع الهاربة من حريق قلبها تسلخ وجنتيها: سنخرج من هنا الآن! أنت بخير! أتسمعين؟ أنت بخير؟

نظرت إليها سارة باستبشار، ثم انفجرت ضاحكة،

تسارعت ضربات قلبها، تباطأت زقزقة العصافير، تسارعت أنفاسها، تباطأت النسمات في صدرها. اقتربت من سارة وعيناها تلتمعان أملاً يائساً: هيا! سنغادر فوراً. ابتسمت سارة، راحت تقهقه، رفعت يديها، تساقطت بتلات زهور حمراء، وقفت على قدميها، تساقطت سيقان الورد النائمة، هبطت من عريشتها بخفة فراشة، أمسكت يد أمها، صرخت العصافير بصوت واحد ثابت كي تثني سارة عن الذهاب عبثاً. خرجت أم سارة من الغرفة ممسكة بيد ابنتها وهي تضحك.

تهرع الممرضة إلى الغرفة، جهاز ضربات القلب يرن بصوت واحد لا ينقطع، تضغط على الرمز الأزرق! نداء بوجود حالة طارئة! يجري صوبها الأطباء وتبدأ عملية إنعاش القلب فوراً! ترتفع سارة لأعلى، ترى أيدي الأطباء وهي تضغط على صدرها، ترتفع أكثر، تراهم عبر السقف وقد صغرت أحجامهم وهم يحيطون بجسدها المنهك، تبتسم وترفع عينيها لأعلى وتطير عالياً، بعيداً.. يشحب جسدها الصغير. يرفع الأطباء أيديهم عنها. ينظر الطبيب إلى الممرضة مشيراً بعينيه إلى الورقة بين يديها وبصوت بارد يمليها: ساعة الوفاة الثالثة والربع عصراً.

العصافير الصامتة تعود أجهزةً تقيس مدى التمسك بالحياة. عود قصب السكر الرقيق يعود أنبوب تغذية عبر الأنف، سيقان الورد تظهر على هيئتها أسلاك فحصٍ وأوعية تغذية دوائية تغزو جسدها الصغير من كل صوب.

جسد سارة وحيد على السرير مكفن بالأبيض.. سارة في الأعلى تنظر إلى جسدها بالأبيض الوحيد الذي لم تدعُ أمها بأن تراها به. أم سارة خارج المستشفى ممسكة بالفستان الأبيض، ترى سارة تدور أمامها فتطير أطراف الفستان من حولها، وتضحك.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي