الرسالة

2021-02-27

عبدالناصر مجلي *

يقضم أظافره، يهصر نفسه، يزفر كل شيء أمامه، والوقت يمر بطيئاً كجرذ يحتضر ويمطر طاعونه في سموات الأرصفة بعد أن دهسته سيارة مجنونة أول القرن، السنة ، اليوم، الساعة، الناس, "قال بأنه سيرسلها في أقرب فرصة فلماذا تأخر".
الوقت يمر، يوم، يومان، شهر، سنتان، وأظافره تنبت وراء أسنانه كالمسامير، وعيناه تزدادان نقاء وحشياً كعيني شخص يلد الغيب داخله اللاجدوى.
كل ما حوله كان يضايقه، زوجته هو ليس متزوجا,ً عشيقته، عشيقاته كثر, شرابه وطعامه، منذ عرف نفسه وهو يمارس طقوسهما بملل فاضح إلى درجة أصبح فيها يشك في هذه القضية, هل يأكل لأن لديه أسنان أو لأن الذئاب تأكله فيضطر للأكل؟
يصلي كثيراً، لا لزوم للصلاة، بل هناك لزوم لمالا يلزم ولما يلزم, "جميل أن يكون للإنسان رب يطبطب على كتفيه إذا ما انفجر الحزن داخله"!
كان وحده إلا من أسرة تعدادها عشرون، أقل، أكثر، لا يدري، أمه، أبوه، أخوته، أخواته, "لكن أمي توفت قبل أن أراها لماذا؟,‍دون لماذ فلو رأتني لماتت قهراً عليّ ليتني مت بدلاً عنها مسكينة عانت كثيراً".
لم يكن يعرفها فقط سمع بها قيل بأنها كانت جميلة أبوه أخوته، أخواته، يحبهم يكرههم لا شيء يهم, "الكره حرام والحب ليس له ملامح".
شقيقاته متزوجات..مطلقات، فقط يحب أطفالهن يشبهون الملائكة، أحياناً، وأحياناً أخرى..‍‍,إخوته لأبيه يكرهونه، كلا بل هو الذي يكرههم بل.. بل!!.
"مساكين أخوتي كم أحبهم في كرهي، وكم يكرهوني بحبهم".
والده أرمل بعد دزينة نساء، والدته كانت الأولى مسكينة ماتت شابة، عذبها الكلب كثيراً.
لأبيه قريب بعيد أسمه ... نسي أسمه لكنه شاب طيب يحب الإحسان.
"نعم طيب جداً وقد يحسن إليّ ".
مهاجر منذ صباه الأول الذي نسي تاريخه، عن الوطن/ الخصم, "كم أحبك يا وطني يا أنا ".
يحبه، يبغضه، لا يهم مَنْ يحب مَنْ.
"لكنني أشتاق لحليب حنانك أيها المحتل أرضية القلب بالقوة والبلطجة" كان يلبس نظارة, ضعيف البصر، لا يرى أمامه ولا يستطيع الالتفاف إلى الخلف، متكبر، لكنه قوي الأمل.
"ما الأمل؟ هل هو حذاء إيطالي الصنع؟".
متوسط القامة، وسيم الملامح له لون التراب بعد المطر ينفر من أمواس الحلاقة, "إن حد شفراتها يفقد الوجه أعشاب الدهشة التي ترتسم عليه قبل الولوج في دائرتها المغلقة ثم إن النساء أيضاً يشذبن بها مروجهن المعشوشبة في كل الفصول".
الفتيات يلاحقنه ويسحرهن حديثه وجنونه.
"كم يثرن شفقتي وسخطي بإبتساماتهن الحمقاء، يبحثن عن الغيث تحت كل بارق ويدعين بعد ذلك الإرتواء، هل يشبع الليل من قطرات النجوم؟؟".
"أحب النساء وأكره أمي، أعني أحب أمي وأكره الـ......؟؟"
عنيت ..؟
قريب والده وعده في منفاه خلف الشمس، القمر لا يهم، وعده بفيزة دخول إلى منفاه الإختياري."عمي عطوف سينقذني، كم أحبه وأكره نفسي والعالم بل وهو أيضاً, فقط أحب الله يستحق ذلك قلبه كبير كثير العطف".
له خطيبة جميلة يحبها..
"كلا هي ليست خطيبتي، مجرد عشيقة، كلبة، عاهرة، كلنا عاهرون." عمر عمه سبعة وثلاثون عاماً قضى نصفها في المهجر، في بلاد التمثال الذي تطعن يمناه بطن السماء, ويملكها شخص ينادونه بالمستر "سام"..
"لا..المستر سام نوع من الخمرة الرديئة التي تضر بشاربيها وبمشاهديهم على حد سواء.. وأنا أكرههم وأكره أكراشهم المنتفخة كبطون الحوامل، تحت فساتينهم الفضفاضة, فهم يذكروني ببغايا وشواذ الـ(42 street), ليسوا مهمين لهذه الحياة، حيوانات قارضة، مجرد قمامة في مزبلة منسية وراء ضلفة التاريخ".
عمه وعده بمساعدته، لكن الوقت يمر، عقد، قرن، سنة، كلهم تبخروا ولم يبقى إلا رائحة أظافره وراء أسنانه.
كان وسيماً, لعبته المفضلة ممارسة العواء مع أي امرأة يصطادها, عمه الوسيم أيضاً كان يعب حتى الثمالة من خمرة سام الرديئة.
أخيراً أرسل له رسالة بينما كان يتوسده المرض ويغازله الموت، لم يستطع الذهاب للبحث عن رسالته، قيل له بأن أحد أصدقائه قد تسلمها نيابة عنه، لكنه لم يسلمها له حتى الآن، الوقت ينتحر وراء شفتيه المثيرتين، وأظافره قد صارت داخل فمه كلاباً تعوي، وهو يكره عواءها تذكره بداء الكلب, الرسالة وصلت وصديقه لم يسلمها له بعد، أسبوع مر ولم يجده.
" أين ذهب؟؟"
دورة قضم الأظافر تعصف به، كم مَرّْ من الزمن؟ لا يدري!!
أخيراً وصله أن صديقه قد مات، فرمته سيارة مسرعة أخبره بعض شهود الحادث، بأن المسكين كان يبحث عنه عندما فاجأته السيارة الساقطة وشطرته شطرين, قبل أن ينتهي من مشروع ابتسامة مقتضبة أراد أن ينفحها لطفل صغير كان يسابق ظله، وقد لونت كما حدثه بعض شهود الحادث دماء صديقه, أفكار بعض المارة الذين تصادف مرورهم أثناء السحر بالقرب منه، كذلك لونت وجوه كل الطرق المسافرة من هناك إلى مختلف البقاع، ومع أن المتواجدين وقت المذبحة كُثر إلا أن أحدهم لم يحاول منع السيارة من الفرار, أو حتى يدّون رقم لوحتها وكأن الموت المدوّي فوق الجثة المشطورة قد شلهم.
أضطر بعدها إلى الذهاب إلى المستشفى لإلقاء النظرة الأخيرة على صديقه التعس.
"مطلقاً، كنت فقط مهتماً بالرسالة، صديقي محظوظ مات شهيداً، كلنا نموت شهداء، نموت مثل الكلاب الضالة تحت إطارات المركبات المجهولة الهوية، ومع ذلك نسمي قتلانا في الطرقات شهداء، نوع من المجاملات فلن نخسر شيئاً، فعلاً لن نخسر غير قليل من كرامة، قيل بأنها قد نفذت من الأسواق وكثرة الصفعات تعلم البلادة (الكرامة نوع من المقبلات المعتقة يستحسن تناولها قبل الذهاب إلى النوم بعد رج الزجاجة، لكنها للأسف تعفنت وفقدت خاصيتها على أرفف البقالات طعمها كريه بعد أن مر وقت طويل على انتهاء مدة صلاحيتها)."
دخل المستشفى، كان من الداخل يشبه المسلخ كل رواده يعاقرون الصراخ وكأنهم سيذبحون، وفي مكتب الاستعلامات استلم الرسالة ووقع الاستلام مبتسماً.
كانت داخل مظروف أبيض ملطخ بالدماء.
"كم أشعر بالتقزز لدى رؤيتي للدم، ثم هل من الضروري لكي يموت الإنسان عليه أولاً أن ينزف دمه على قارعة الطريق؟".
فض المظروف فلم يجد أية رسالة، سوى ورقة صغيرة مكتوب في أعلاها بخط أحمر منمق: "أنت التالي", فلم يدر ما يجب عليه فعله، إلا أنه أنفجر ضاحكاً حتى تبول على نفسه، هو لا يدري هل كان تبوله رعباً أم غير ذلك , وحينما التفت إلى الوراء تسبقه رائحة بوله، كان ثمة فأس ضخمة تهوي على رأسه يسبقها صفير حاد حطم كل نوافذ المستشفى الذي يشبه مسلخاً حيوانياً مهجوراً لا عنوان له.

صنعاء - شتاء 1989
..................................................................
*قاص وشاعر وروائي يمني أمريكي
*من مجموعة ( ذات راقصة ..ذات مساء) أول مجموعة قصصية تطبع في جيل التسعينات








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي