الروائي والشاعر والصحفي اليمني " علي المقري " أديب إشكالي حرفه دائما يمس قضايا جديدة يتم التطرق اليها إبداعيا في اليمن لأول مرة .. ومع كل إصدار جديد له تشتعل هالة من الاهتمام والانتقاد في الأوساط الأدبية اليمنية والعربية من كل فئات القراء و النقاد ..
وقد تعرضت نصوصه الشعرية والبحثية من قبل لهجوم من رجال الدين في اليمن ومن نقاد سلفيين خاصة قصيدته " تدليك ".. فمن وجهة نظر المبدع عبر هذه القصيدة هو يريد أن يحرر الحب من القيود الاجتماعية والعادات والتقاليد بينها نجد الطرف الآخر لا يتفهم بوح الشاعر ويعتبر القصيدة محاولة لخدش الحياء العام وشروعا في تفكيك منظومة الأخلاق في المجتمع اليمني السعيد .
كذلك للأديب علي المقري كتاب عن الخمر والنبيذ في الإسلام تعرض لكثير من الهجمات والانتقادات وتوقفت دار نشر رياض الريس المنفتحة جدا عن إصداره عام 1997 م ليصدر فيما بعد أي قبل سنتين فقط محققا مبيعات جيدة، والكتاب عبارة عن بحث في موضوع الخمر والنبيذ قبل الإسلام وبعده حيث اعتبر منتقدو الكتاب أنه محاولة للتشكيك في تحريم الخمر .
والأديب علي المقري من العناصر الثقافية الفاعلة في اليمن فهو يعمل في الصحافة منذ منتصف الثمانينيات وله مجلة ثقافية يرأس تحريرها ومشارك نشط في كل المحافل الثقافية العربية واليمنية ومن أوائل الشعراء الذين انتهجوا الحداثة في اليمن وكتبوا قصيدة النثر مستغلين لإثرائها ثقافتهم العالية وقراءتهم المتنوعة للروايات الحديثة المترجمة كروايات ميلان كونديرا .
آخر إصدارات علي المقري جاء هذه المرة روائيا عبر رواية " طعم أسود .. رائحة سوداء .. " وهذه الرواية لم تحدث سجالا مع رجال الدين ومؤيديهم إنما أحدثت سجالا مع المثقفين حيث أنها تتحدث عن الهوية وتتناول فئة من فئات المجتمع اليمني وهي فئة الخدام " العبيد " حيث تصور بوضوح معاناتهم من العنصرية والتهميش وفي الوقت نفسه تبرز تاريخهم وعاداتهم و تقاليدهم وأغانيهم وأحاسيسهم وبانوراما شاملة عن حياتهم .. وقد اشتغل المقري على هذه الرواية منذ سنوات ولم يصدرها إلا العام الماضي لأسباب خاصة به، كذلك لديه روايتين أخريين لم تصدرا بعد .
والرواية تحكي عن قصة "أمبو" الذي هرب إثر علاقة حميمة مع فتاة من فئة المزينين المهمشين تدعى "الدغلو"، الى حي الخدام. وهناك حيث الحب يتجاوز حدود التفرقة كافة، تتكشف العلاقات، لتثار عشرات الأسئلة عن الوطن والهوية والتاريخ. لماذا لا يجد رباش سوى الخيانة، خيانة كل شيء: الدين والوطن والتاريخ؟
فيما سرور، الذي يرفض الدمج في المجتمع، ظل يهمّش "الخدام" طويلاً، ويقترح أن يحنطوا نموذجاً منهم، ويضعوه في زجاج في المتحف، ثم يتركوا من تبقى منهم ينقرضون؟
وتدور أحداث الرواية بين عامي 1970 و1982، زمن تقسيم اليمن وقبل وحدته، في مدينة "تعز" قرب مستنقع "عصيفرة" حيث حي من مجمعات عشش الخدام المبنية من الكارتون والصفيح. يتعرف الراوي إلى الأخدام ليعرفنا بما تختزنه حياتهم من مرارة.
يقول الراوي بلسان الشخصية الرئيسة "أمبو": "ابن شموس مات بعد أن بقي يبوّل دماً لمدة أسبوعين، وكان في الثامنة من عمره تقريباً. كاذية بنت المسفوح في العشة المجاورة لعشة شموس كانت أكبر، ربما في العاشرة، ماتت بعد سعال دام لأشهر وقالوا إنه السل. بدأت سنة حزينة كان الشتاء كعادته مليئاً بأخبار موت الأطفال المفزعة. الصيف جاء أيضاً ومعه البلهارسيا والملاريا."
"لم يكونوا في العش يرهبون الموت حين يعلمون موت رجل أو امرأة بلغا الثلاثين أو أقل من ذلك ببضع سنوات. يعتقدون أنها كافية لعمر الخادم وأفضل له من بقائه وهو يتعذب من الأمراض التي تهاجمه طوال عمره، وتصبح صعبة الاحتمال بعد الخامسة والعشرين وأصعب بعد الثلاثين."
والجدير بالذكر أن معاناة الخدام قد تم استغلالها سياسيا من قبل الأحزاب فيذكر المقري في أحد أقسام الرواية كيف أن بعض الناشطين في الأحزاب يأتون إلى محوى " حي " الخدام يهربون من الشرطة أو يدعونهم إلى معتقداتهم ودائما تأتي الشرطة تمشط المحوى وترهبهم وفي النهاية هؤلاء الخدام يفقدون الأرض التي بها عششهم عبر زحف الأسمنت حيث يصور الروائي المشهد كالتالي :
"زحف البيوت الإسمنتية نحو العشش يزيد من قلقنا. جرافات كثيرة سبقتها. لم يكونوا يستأذنون أحداً من الخدام في هدم عششهم ومسح الأرض لتكون صالحة للبناء. قالوا إن تجاراً كباراً اشتروا الأرض من أصحابها الذين لم يعرفهم أحد..."
وعندما سأل أحد الصحفيين الروائي علي المقري هل قرأ الخدام روايتك أجاب :
"نعم البعض قرأ الرواية، خصوصاً الشباب. الخدام جميعهم من الشباب فهم لا يعمّرون كثيراً لأن الأمراض تفتك بهم وتميتهم قبل أن يصلوا إلى الثلاثين. الخدام يعرفون أنني صديقهم.
إذا كنت سأنسى الكثير من ذكريات حياتي، فلن أنسى أبداً، ذلك العناق الحميم الذي تلقيته من بعضهم قبل 16 عاماً، حين اطلع على الرواية في مسودتها الأولى، لقد شعر أنني جزء منهم، أمّا أنا فلم أشعر أبداً في يوم ما أنني بعيد عنهم."
طعم أسود .. رائحة سوداء .. رواية جميلة .. تتناول موضوع الهوية ..وتسلط الضوء على ممارسات وعلاقات ظالمة ما ينبغي أن تتواجد الآن في نهاية القرن العشرين .. تشيد لنا الحب الحقيقي .. بين الإنسان والإنسان بغض النظر عن اللون أو العرق أوالدين .. وتفضح الممارسات التي يمارسها أرباب السلطة الدينية والاجتماعية والسياسية في مجتمع من مجتمعات هذه الأرض التي مازالت تعيش الجاهلية رغم عصر النت والفضائيات والعولمة والحداثة .
هذه الرواية تحاول أن تجعل الناس سواسية كأسنان المشط ..تناصر المنبوذين في الهند والعبيد في أفريقيا وآسيا والطبقات الكادحة المستغلة ..هي رواية قريبة جدا من أفكار الكتاب الأخضر الذي يرى الناس بغض النظر عن دينهم أو جنسهم أو ملتهم متساوين في السيادة داخل المؤتمر الشعبي وكل فرد منهم له الحق نفسه في التعبير والتقرير الذي يمتلكه الآخر .
من مشاهد الرواية الطريفة أن أحد الخدام بعد أن زارهم رجل دين في الحي ووعظهم ذهب هذا المنتمي لفئة الخدام المتأثر بوعظ المساواة والتآخي للصلاة في المسجد في المدينة ..وعندما تأخر الإمام عن الحضور تقدم ليؤم الصلاة فجذبه أحد المصلين الآخرين بعنف إلى الوراء معترضا بشدة ومعتبرا ذلك أن يصلي بهم خادم من العار .. فقال لهم هذا الخادم ألم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى .
ومن المشاهد المؤثرة في الرواية حديث عن صحن أكل حيث يقول أحد الشخصيات إن لغا الكلب فاغسل وإن مسه الخادم فأكسر .
عموما الحياة مساواة وحيث وجدت التفرقة وجد الباطل ودائما الباطل سيكون زهوقا وهذه الرواية منذ قراءتي لروايات المرحوم الطيب صالح خاصة روايته عرس الزين لم أقرأ رواية ممتعة كهذه الرواية "طعم أسود .. رائحة سوداء" حيث صورت لي مجتمعا جديدا ونقلته لي بصورة حميمية لتغرسه في مزارع وجداني بكلماته الجميلة وفكاهاته الطريفة وأغانيه الشعبية الشجية وموسيقاه الآسرة ولذته المغموسة في الدم والعرق والدموع .
* العرب أونلاين