رواية " طعم أسود .. رائحة سوداء": رقص على وتر المساواة - محمد الأصفر*

خدمة شبكة الأمة برس الإخبارية
2009-06-01

الروائي والشاعر والصحفي اليمني " علي المقري " أديب إشكالي حرفه دائما يمس قضايا جديدة يتم التطرق ‏اليها إبداعيا في اليمن لأول مرة .. ومع كل إصدار جديد له تشتعل هالة من الاهتمام والانتقاد في الأوساط ‏الأدبية اليمنية والعربية من كل فئات القراء و النقاد ..

وقد تعرضت نصوصه الشعرية والبحثية من قبل ‏لهجوم من رجال الدين في اليمن ومن نقاد سلفيين خاصة قصيدته " تدليك ".. فمن وجهة نظر المبدع عبر ‏هذه القصيدة هو يريد أن يحرر الحب من القيود الاجتماعية والعادات والتقاليد بينها نجد الطرف الآخر لا ‏يتفهم بوح الشاعر ويعتبر القصيدة محاولة لخدش الحياء العام وشروعا في تفكيك منظومة الأخلاق في ‏المجتمع اليمني السعيد‎ .‎

كذلك للأديب علي المقري كتاب عن الخمر والنبيذ في الإسلام تعرض لكثير من الهجمات والانتقادات ‏وتوقفت دار نشر رياض الريس المنفتحة جدا عن إصداره عام 1997 م ليصدر فيما بعد أي قبل سنتين فقط ‏محققا مبيعات جيدة، والكتاب عبارة عن بحث في موضوع الخمر والنبيذ قبل الإسلام وبعده حيث اعتبر ‏منتقدو الكتاب أنه محاولة للتشكيك في تحريم الخمر‏‎ .‎

والأديب علي المقري من العناصر الثقافية الفاعلة في اليمن فهو يعمل في الصحافة منذ منتصف الثمانينيات ‏وله مجلة ثقافية يرأس تحريرها ومشارك نشط في كل المحافل الثقافية العربية واليمنية ومن أوائل الشعراء ‏الذين انتهجوا الحداثة في اليمن وكتبوا قصيدة النثر مستغلين لإثرائها ثقافتهم العالية وقراءتهم المتنوعة ‏للروايات الحديثة المترجمة كروايات ميلان كونديرا‏‎ .‎

آخر إصدارات علي المقري جاء هذه المرة روائيا عبر رواية " طعم أسود .. رائحة سوداء .. " وهذه ‏الرواية لم تحدث سجالا مع رجال الدين ومؤيديهم إنما أحدثت سجالا مع المثقفين حيث أنها تتحدث عن ‏الهوية وتتناول فئة من فئات المجتمع اليمني وهي فئة الخدام " العبيد " حيث تصور بوضوح معاناتهم من ‏العنصرية والتهميش وفي الوقت نفسه تبرز تاريخهم وعاداتهم و تقاليدهم وأغانيهم وأحاسيسهم وبانوراما ‏شاملة عن حياتهم .. وقد اشتغل المقري على هذه الرواية منذ سنوات ولم يصدرها إلا العام الماضي لأسباب ‏خاصة به، كذلك لديه روايتين أخريين لم تصدرا بعد‏‎ .‎

والرواية تحكي عن قصة "أمبو" الذي هرب إثر علاقة حميمة مع فتاة من فئة المزينين المهمشين تدعى ‏‏"الدغلو"، الى حي الخدام. وهناك حيث الحب يتجاوز حدود التفرقة كافة، تتكشف العلاقات، لتثار عشرات ‏الأسئلة عن الوطن والهوية والتاريخ. لماذا لا يجد رباش سوى الخيانة، خيانة كل شيء: الدين والوطن ‏والتاريخ؟

فيما سرور، الذي يرفض الدمج في المجتمع، ظل يهمّش "الخدام" طويلاً، ويقترح أن يحنطوا ‏نموذجاً منهم، ويضعوه في زجاج في المتحف، ثم يتركوا من تبقى منهم ينقرضون؟‎ ‎

وتدور أحداث الرواية بين عامي 1970 و1982، زمن تقسيم اليمن وقبل وحدته، في مدينة "تعز" قرب ‏مستنقع "عصيفرة" حيث حي من مجمعات عشش الخدام المبنية من الكارتون والصفيح. يتعرف الراوي إلى ‏الأخدام ليعرفنا بما تختزنه حياتهم من مرارة.

يقول الراوي بلسان الشخصية الرئيسة "أمبو": "ابن شموس ‏مات بعد أن بقي يبوّل دماً لمدة أسبوعين، وكان في الثامنة من عمره تقريباً. كاذية بنت المسفوح في العشة ‏المجاورة لعشة شموس كانت أكبر، ربما في العاشرة، ماتت بعد سعال دام لأشهر وقالوا إنه السل. بدأت سنة ‏حزينة كان الشتاء كعادته مليئاً بأخبار موت الأطفال المفزعة. الصيف جاء أيضاً ومعه البلهارسيا والملاريا."‏‎ ‎

‏"لم يكونوا في العش يرهبون الموت حين يعلمون موت رجل أو امرأة بلغا الثلاثين أو أقل من ذلك ببضع ‏سنوات. يعتقدون أنها كافية لعمر الخادم وأفضل له من بقائه وهو يتعذب من الأمراض التي تهاجمه طوال ‏عمره، وتصبح صعبة الاحتمال بعد الخامسة والعشرين وأصعب بعد الثلاثين."‏

والجدير بالذكر أن معاناة الخدام قد تم استغلالها سياسيا من قبل الأحزاب فيذكر المقري في أحد أقسام ‏الرواية كيف أن بعض الناشطين في الأحزاب يأتون إلى محوى " حي " الخدام يهربون من الشرطة أو ‏يدعونهم إلى معتقداتهم ودائما تأتي الشرطة تمشط المحوى وترهبهم وفي النهاية هؤلاء الخدام يفقدون ‏الأرض التي بها عششهم عبر زحف الأسمنت حيث يصور الروائي المشهد كالتالي‎ :‎
‏"زحف البيوت الإسمنتية نحو العشش يزيد من قلقنا. جرافات كثيرة سبقتها. لم يكونوا يستأذنون أحداً من ‏الخدام في هدم عششهم ومسح الأرض لتكون صالحة للبناء. قالوا إن تجاراً كباراً اشتروا الأرض من ‏أصحابها الذين لم يعرفهم أحد‎...‎‏"‏

وعندما سأل أحد الصحفيين الروائي علي المقري هل قرأ الخدام روايتك أجاب‏‎ :‎
‏"نعم البعض قرأ الرواية، خصوصاً الشباب. الخدام جميعهم من الشباب فهم لا يعمّرون كثيراً لأن الأمراض ‏تفتك بهم وتميتهم قبل أن يصلوا إلى الثلاثين. الخدام يعرفون أنني صديقهم.

إذا كنت سأنسى الكثير من ‏ذكريات حياتي، فلن أنسى أبداً، ذلك العناق الحميم الذي تلقيته من بعضهم قبل 16 عاماً، حين اطلع على ‏الرواية في مسودتها الأولى، لقد شعر أنني جزء منهم، أمّا أنا فلم أشعر أبداً في يوم ما أنني بعيد عنهم."‏

طعم أسود .. رائحة سوداء .. رواية جميلة .. تتناول موضوع الهوية ..وتسلط الضوء على ممارسات ‏وعلاقات ظالمة ما ينبغي أن تتواجد الآن في نهاية القرن العشرين .. تشيد لنا الحب الحقيقي .. بين الإنسان ‏والإنسان بغض النظر عن اللون أو العرق أوالدين .. وتفضح الممارسات التي يمارسها أرباب السلطة الدينية ‏والاجتماعية والسياسية في مجتمع من مجتمعات هذه الأرض التي مازالت تعيش الجاهلية رغم عصر النت ‏والفضائيات والعولمة والحداثة‎ .‎

هذه الرواية تحاول أن تجعل الناس سواسية كأسنان المشط ..تناصر المنبوذين في الهند والعبيد في أفريقيا ‏وآسيا والطبقات الكادحة المستغلة ..هي رواية قريبة جدا من أفكار الكتاب الأخضر الذي يرى الناس بغض ‏النظر عن دينهم أو جنسهم أو ملتهم متساوين في السيادة داخل المؤتمر الشعبي وكل فرد منهم له الحق نفسه ‏في التعبير والتقرير الذي يمتلكه الآخر‎ .‎

من مشاهد الرواية الطريفة أن أحد الخدام بعد أن زارهم رجل دين في الحي ووعظهم ذهب هذا المنتمي ‏لفئة الخدام المتأثر بوعظ المساواة والتآخي للصلاة في المسجد في المدينة ..وعندما تأخر الإمام عن ‏الحضور تقدم ليؤم الصلاة فجذبه أحد المصلين الآخرين بعنف إلى الوراء معترضا بشدة ومعتبرا ذلك أن ‏يصلي بهم خادم من العار .. فقال لهم هذا الخادم ألم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :لا فرق بين ‏عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى‎ .‎

ومن المشاهد المؤثرة في الرواية حديث عن صحن أكل حيث يقول أحد الشخصيات إن لغا الكلب فاغسل ‏وإن مسه الخادم فأكسر‎ .‎

عموما الحياة مساواة وحيث وجدت التفرقة وجد الباطل ودائما الباطل سيكون زهوقا وهذه الرواية منذ ‏قراءتي لروايات المرحوم الطيب صالح خاصة روايته عرس الزين لم أقرأ رواية ممتعة كهذه الرواية "طعم ‏أسود .. رائحة سوداء" حيث صورت لي مجتمعا جديدا ونقلته لي بصورة حميمية لتغرسه في مزارع ‏وجداني بكلماته الجميلة وفكاهاته الطريفة وأغانيه الشعبية الشجية وموسيقاه الآسرة ولذته المغموسة في الدم ‏والعرق والدموع‎ .‎
* العرب أونلاين
 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي