
موسى إبراهيم أبو رياش*
رواية «الطرموخ» لمحمود أبو فروة الرجبي، عمل سردي يوثق مرحلة مفصلية من التاريخ الفلسطيني، شملت نهايات الحكم العثماني، والاحتلال الإنكليزي وما واكبه من مؤامرات صهيونية مهدت لاغتصاب الأرض واقتلاع الشعب، حيث استحضر الرجبي تفاصيل الحياة اليومية، وصراع الإنسان الفلسطيني بين أحلامه البسيطة وحتمية المقاومة. ولم تكتفِ الرواية بتسجيل الوقائع، بل قدمت وعيا نقديا بالواقع وتحوّلاته، ووضعت القارئ أمام شبكة من الشخصيات والأحداث التي تتقاطع في همّ واحد؛ الدفاع عن فلسطين وحماية هويتها، مقابل محاولات الطمس والتزييف.
كشفت الرواية وجه الاحتلال الإنكليزي البشع الذي لعب دور «العرّاب» في مشروع تأسيس الدولة الصهيونية، من خلال التسهيلات الممنوحة للمهاجرين والمستوطنين وتسليحهم، وتضييق الخناق على الفلسطينيين، ومطاردة المقاومة، ونشر الجواسيس والعملاء؛ فالانتداب كان متواطئا وقوة تنفيذية للمخطط الصهيوني. وقد رسمت الرواية لوحة دقيقة للظروف الاجتماعية من فقر وظلم وفساد للسلطات الحاكمة، وعلاقات عائلية متوترة أحيانا، وقيم دينية وأخلاقية وتقاليد تحكم سلوك الناس، إلى جانب وعي متنامٍ بخطر الاستيطان والهجرة اليهودية وحكم الإنكليز، وأظهر السرد كيف كان المجتمع يعيش بين الانشغال بالمعيشة اليومية والوعي الجمعي بخطر أكبر يتهدد الوجود.
لعبت الأحلام في الرواية دورا كبيرا ومؤثرا بوجود (الحاجة رضا) التي اشتهرت بأحلامها التي تتحقق، وقدرتها على تفسير الأحلام. وأيًا كانت الأحلام فهي إشارات ودلالات تعكس وعي الناس الباطني؛ تضيء المخاوف وتكشف الطموحات، وتمثل نافذة على الروح الفلسطينية التي تحاول استبصار المستقبل وسط المجهول. وقد كانت الأحلام عنصرا فاعلا في تشكيل قرارات بعض الشخصيات الروائية، خاصة (الحاجة رضا) التي اعتمدت مواقفها من أفراد أسرتها على الأحلام التي رأتها، وبالذات تجاه ابنها نسيم وزوجته شمس وحفيدها الطرموخ. حفلت الرواية بكثير من الشخصيات الإشكالية التي لعبت أدوارا مهمة ومفصلية في الرواية، ولكن تكتفي هذه المقالة بشخصيتين رمزيتين هما (الطرموخ) والخواجة (ألجوزي).
الطرموخ
الطرموخ هو الشخصية المركزية في الرواية، بصفته ابن البيئة الفلسطينية الشعبية. ارتبط اسمه بالبسطاء الذين يعيشون من عرق أيديهم، لكنه في العمق يتجاوز فرديته ليصبح رمزا لجيل بأكمله عاش زمن الانتداب الإنكليزي، وما تلاه من أزمات، ووجوده في السرد أشبه بمرآة تعكس تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين بكل تناقضاتها. الطرموخ نموذج للشاب الفلسطيني، الذي تتقاطع أحلامه الصغيرة مع قضايا كبرى تفرضها المرحلة، يشبه عامة الناس الذين تحولت حياتهم العادية إلى مواجهة وجودية، وتحوّل إلى رمز للمقاومة الشعبية الفلسطينية، ومن خلاله يريد الكاتب أن يقول، إنّ البطولة يصنعها الناس العاديون حين يفرض التاريخ عليهم أدواره الثقيلة. يمثل الطرموخ الرواية الشعبية الفلسطينية في مواجهة الرواية الاستعمارية، ويثبت وجوده أنّ الفلسطيني ليس ضحية صامتة، بل فاعل في التاريخ مهما بدا بسيطاً، ومن خلاله يُعيد الكاتب إحياء تفاصيل الذاكرة، وأسماء الأماكن، وملامح البيوت، والعادات اليومية، وحتى الأحلام. إنّه شاهد على زمن وفاعل فيه في آن معاً. الطرموخ شخصية مركبة تجمع بين العادي والبطولي، بين الفردي والجمعي، بين الحاضر والرمز. هو صورة الفلسطيني الذي يبدأ من همومه اليومية الصغيرة، لينتهي بطلا يقاوم الاحتلال ويحفظ هوية وطنه. ومن خلاله تؤكد الرواية أنّ المقاومة قدر الناس البسطاء الذين يجدون في ارتباطهم بالأرض أعظم سلاح للبقاء.
الخواجة ألجوزي
تُظهر الرواية كيف استُخدمت الجاسوسية كأداة أساسية في المشروع الصهيوني؛ لتصفية المقاومة، وتزوير السردية التاريخية، وسرقة الرواية الفلسطينية؛ فهم يقتحمون الحياة اليومية، ويستدرجون الناس، ويزرعون الشكوك، وخطورتهم لا تقل عن الحرب العسكرية بالأسلحة والنيران. ومن أمثلة الجواسيس في الرواية الخواجة ألجوزي، وشقيقه الحاج زكريا.
تحمل شخصية الخواجة ألجوزي بعدا رمزيا يتجاوز حضورها الفردي لتجسد طبيعة الدور الاستعماري المزدوج؛ القمع من جهة والخداع من جهة أخرى. فالخواجة يظهر كوجه استعماري ـ اقتصادي يغلّف أطماعه بلبوس المدنية والبحث عن الآثار والكنوز. وهو تاجر أجنبي، ذو سلطة ومال، يقدَّم في السرد باعتباره رجلا قادرا على استغلال حاجة الناس، والسيطرة على مفاصل حياتهم عبر المال أو النفوذ، لكنه في العمق أداة وظيفية مرتبطة بالمشروع الاستعماري البريطاني ـ الصهيوني.
ومن خلال الرواية، يظهر ألجوزي شخصية متقلّبة، يجمع بين اللين الظاهري والبطش الخفي؛ يقدّم نفسه بصورة إنسان متفهم ومتحضر، لكنه في المواقف المفصلية يكشف عن وجهه الاستغلالي القذر، ويستغل جهل البسطاء، أو حاجتهم، ويمارس دورا وظيفيا في الخداع والنفاق؛ لتمرير السياسات الكبرى من خلال التفاصيل الصغيرة لحياة الناس، حيث توظفه الرواية كصورة للمستعمر المتخفي في ثياب الخواجة، الذي يحاول أن يبدو صديقا، لكنه في الحقيقة جزء من آلة نهب الأرض وتزييف الوعي. يؤكد وجوده أنّ المشروع الصهيوني لم يقم بالسلاح فقط، بل أيضا عبر واجهات اقتصادية وتجارية وثقافية استغلت البسطاء ومهّدت للاغتصاب الأكبر.
إنّ الخواجة ألجوزي تجسيد للبعد الخفي في المؤامرة على فلسطين؛ من خلال الوجوه الأجنبية التي دخلت البيوت والأسواق، وتظاهرت بالصداقة والحياد أو التجارة، بينما كانت تزرع بذور الاستيطان والهيمنة.
الخليل والكرك
برزت العلاقة بين مدينتي الخليل والكرك بشكل جلي في الرواية، من خلال التجارة والعلاقات الاجتماعية والتزاور واللجوء وطلب الحماية وغيرها، ولهذا الارتباط دلالات كبيرة وعميقة لا تخفى على أحد، فالخليل والكرك ارتبطتا تاريخيا بروابط الدم والمصاهرة والهجرة المتبادلة وتتبادل المنافع والخيرات، وكثير من العائلات في الخليل لها جذور في الكرك، والعكس صحيح. هذا الامتداد يبيّن أنّ الحدود السياسية الحديثة ليست سوى خطوط مصطنعة، بينما الواقع الشعبي والعائلي واحد، يُشكّل نسيجا اجتماعيا متداخلا.
كما أنّ الموقع الجغرافي جعل من المدينتين خطّ دفاع متبادل؛ فالكرك كقلعة شامخة في شرق الأردن، والخليل كبؤرة مقاومة في فلسطين، تمثلان معا جسرا استراتيجيا يربط بين شرق الأردن وغربه. وفي الوعي الجمعي، كان الدفاع عن فلسطين مسؤولية مشتركة، وكذلك الدفاع عن الأردن في وجه الغزاة. وكل من الخليل والكرك تحملان رمزية المقاومة والصمود؛ فالخليل مدينة الأنبياء، وفيها الحرم الإبراهيمي، وهي مركز ديني وروحي يرمز للجذور الإيمانية. والكرك قلعة تاريخية قاومت الصليبيين والمماليك والعثمانيين، وتحولت إلى رمز للصمود والشجاعة. إنّ الربط بينهما يخلق صورة وجدانية عن وحدة الروح والمصير، وكأنّ الرواية تقول: ما يحدث في الخليل ينعكس في الكرك، وما يحدث في الكرك يجد صداه في الخليل.
في زمن الانتداب البريطاني وتنامي المشروع الصهيوني، كان إبراز هذه العلاقة نوعا من التذكير بأنّ فلسطين ليست وحدها، وأنّ امتدادها الطبيعي هو الأردن وسائر بلاد الشام. فهي وحدة جغرافية وبشرية تتجاوز التقسيمات الاستعمارية.
إنّ العلاقة القوية بين الخليل والكرك في الرواية تحمل دلالة رمزية على وحدة الأرض والشعب والمصير، وتكشف أنّ فلسطين ليست جزيرة معزولة، بل جزء من فضاء عربي وإسلامي واسع متداخل اجتماعيا وثقافيا وتاريخيا. ومن هنا، فإنّ حضور هذه العلاقة في السردية الفلسطينية بمثابة تأكيد على أنّ القضية الفلسطينية شأنٌ عربي إسلامي إنساني، وليست محصورة بجغرافيا ضيقة.
وبعد؛ إنّ رواية «الطرموخ» للروائي الأردني محمود أبو فروة الرجبي، عمل يوثق ويُدين في آن معا، وهي شهادة فنية على مرحلة تاريخية، وصوت يرفض النسيان. والأهم أنّها تجعل من الشخصيات العادية أبطالًا، ومن التفاصيل اليومية مادة للتاريخ الحي، مؤكدة أنّ السردية الفلسطينية باقية ما دام هناك مَنْ يرويها. ومن خلال شخصياتها وأحداثها، تسهم الرواية في حفظ الذاكرة الفلسطينية، عبر السرد الإبداعي الذي يقاوم التزييف. إنها تحفر في الوعي الجمعي صورة عن الفلسطيني كإنسان له أحلام وآمال، وليس مجرد رقم أو هامش لا قيمة له.
*كاتب أردني