
طغى اتفاق غزة على ما عداه من عناوين أزمات وتحركات دولية، وعلى مدى الأيام الماضية برز اسم الرئيس الأميركي دونالد ترمب كشخصية مركزية في إعداد الاتفاق وفرض السير في تنفيذه، خطوة خطوة، ضمن أفق يلاقي في خواتيمه الرغبة العربية والدولية في وضع حد نهائي للصراع على قاعدة "حل الدولتين".
راقب العالم وسيبقى مراقباً للاختراق الذي سجله ترمب في مسار مجزرة كان يمكن أن تستمر، ووجد نفسه ملتحقاً ومشجعاً ومصفقاً لإنجاز الرئيس الأميركي الطامح إلى مكافأته بـ"جائزة نوبل للسلام"، ومع أن الجائزة ذهبت لمارينا ماتشادو الفنزويلية المعارضة المعجبة بترمب الذي اتصل بها مهنئاً، فإن الغصة والاستياء لم يفارقا البيت الأبيض، واللجنة النرويجية صاحبة قرار الجائزة بدت وكأنها تقول له "أكمل ما بدأت به، حقق السلام، وإلى اللقاء في العام المقبل".
واحتاج ترمب إلى دعم معنوي وتعاطف وفرهما له الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي سارع إلى انتقاد اللجنة "التي أضرت بهيبة الجائزة"، والتعاطف الروسي لم يقف عند هذا الحد، فأرجأ بوتين القمة العربية - الروسية الأولى التي كانت مقررة الأربعاء المقبل، إفساحاً في المجال أمام ترمب ليستكمل احتفالاته بإنجاز غزة، واعتبر الرئيس الروسي، من موقع الشريك، أن "ترمب يعمل على حل قضايا السلام والشرق الأوسط، وإذا تمكنا من إكمال ما بدأناه في غزة فسيكون حدثاً تاريخياً".
وكانت موسكو استعدت للقاء العربي- الروسي الأول من نوعه منذ مدة طويلة، ووجهت الدعوات إلى 22 من القادة، إضافة إلى الأمين العام لجامعة الدول العربية، وجاءت التحضيرات للقمة في ظروف تميزت بانعدام الوضوح في مآلات الأمور على مختلف المستويات، فالحرب في غزة مستمرة من دون أفق، ولا تقدم في عملية التسوية الأوكرانية- الروسية، وإنما مزيد من التأزم واشتداد تبادل الضربات، رافقهما تصعيد في اللهجة الأميركية ضد روسيا، واتجاه الإدارة في البيت الأبيض إلى تقديم مزيد من الدعم للحكومة الأوكرانية، بما في ذلك تزويدها بصواريخ "توماهوك"، مما أثار قلق روسيا وغضبها.
وكانت القمة لتسدّ فراغاً في المشهد القائم، إذ يحتاج إليها الموقف العربي الساعي إلى تحصين دولي لموقعه وإلى تسويات عادلة وضمان أمنه القومي في عالم ممزق، وتحتاج إليها روسيا المهددة بمزيد من العقوبات وبتحركات على حدودها يقودها حلف الأطلسي بإدارة أميركية صريحة.
وإذا كان اللقاء الروسي- العربي فرصة لتأكيد السعي العربي إلى تنويع الحلفاء وتوسيع دائرة الدعم، فإنه فرصة لروسيا في مواجهة التحديات الآنفة الذكر، وللتأكد من كسر عزلة تحاصرها وتثبيت التزامات نفطية عربية ضمن اتفاقات "أوبك+"، ومنع تحول التهديد الأميركي الاقتصادي إلى تدابير توقف صادرات النفط والغاز الروسيين إلى أسواقهما في الاتحاد الأوروبي والهند والصين.
وكانت القمة ستؤكد على ضرورة وقف الحرب في غزة، وتعلن مواقف متقاربة من أزمات تعصف بأنحاء العالم العربي، من اليمن إلى السودان وليبيا، وستؤكد هوية جزر الإمارات الثلاث، فتغضب إيران التي ستغضب أيضاً بسبب دعم القمة المرتقب للموقف اللبناني الرسمي حول حصر السلاح بيد الدولة، خصوصاً بسبب ضيف القمة الخاص الرئيس السوري أحمد الشرع.
وجاء اتفاق غزة عشية اجتماع موسكو ليعطي بوتين فرصة لتخطي الإحراج الإيراني، هو الذي حرص قبل أيام على تأكيد متانة العلاقات الروسية- الإيرانية، وليقدم نفسه داعماً قوياً، بل شريكاً لترمب في مساعيه من أجل السلام العالمي.
وهكذا سارع الرئيس الروسي إلى تأجيل القمة "بمبادرة شخصية" منه و"لضرورة عدم عرقلة التسوية في الشرق الأوسط" كما قال، فهل إن القمة كانت من مهماتها عرقلة هذه التسوية؟ بالتأكيد لا، لكن شيئاً آخر جعل بوتين يلجأ إلى هذا الإخراج.
إنه يحاول احتواء غضب ترمب من سياسته الأوكرانية، وما يمكن أن يترتب على هذا الغضب من تدابير، في لحظة حقق خلالها الرئيس الأميركي اختراقاً فعلياً في الشرق الأوسط، حيال قضية هي الشاغل المشترك الأبرز لضيوف بوتين العرب في قمة مقررة مسبقاً.
وفي المناسبة ذهب بوتين إلى أبعد من إشادة محدودة بالإنجاز الرئاسي الأميركي، لقد تحدث عن قمة ألاسكا التي جمعته وترمب، وللمرة الأولى يكشف، ومعه مسؤولون روس آخرون، عن "اتفاقات ألاسكا" كـ"أساس لحل المشكلات" وأن التسوية في أوكرانيا "تستند" إلى ما اتفق عليه بين الرئيسين في هذه الولاية الأميركية، ولم يتضح ما إذا كانت تلك "الاتفاقات" تشمل الشرق الأوسط، مع أن مواقف بوتين الداعمة لترمب تشير إلى ذلك.
في هذا السياق لم يكن تأجيل القمة العربية- الروسية مفاجئاً، ولو لم يعلن بوتين إرجاءها، لكان طلب الإرجاء ربما صدر عن الجانب العربي الذي أسهم بقوة في إنضاج خطة ترمب في سياق اجتماعات نيويورك، إذ من الطبيعي أن ينشغل القادة العرب بمواكبة تنفيذ الخطة، بما في ذلك لقاء بعضهم مع الرئيس الأميركي لدى وصوله إلى مصر مطلع هذا الأسبوع.
ومن البديهي أن تكون أولويات اللحظة حصول الخطة التي تبناها الجانب العربي وسعى من أجل تطبيقها، على أوسع دعم ورعاية دوليين، وهذا ما فعله بوتين الذي أيدها بشدة وجعلها فرصة لإعادة التواصل الودي مع ترمب، في لحظة توتر أميركي- صيني عالي المستوى، موحياً بأنه ينتظر منه ما "اتفقا" على صنعه في أوكرانيا، وفي الواقع ربما تكون التسوية الأوكرانية عنواناً أميركياً خلال المرحلة المقبلة.
*هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن موقع الأمة برس- الاندبندنت عربية