
ان اكملت قراءة الرواية الجديدة للمبدعة الدكتورة نادية الكوكباني وجدتني أمسك بالقلم لأكتب انطباعاتي السريعة عنها قبل أن تبددها مشاغل الحياة اليومية والانصراف إلى قراءات وكتابات أخرى.
وفي البدء لا أخفي اعجابي بما تتمتع به الدكتورة نادية من موهبة عالية ومن قدرة على فك الاشتباك بين ماهو علمي وماهو أدبي، بين الهندسة والابداع، وان كان هناك رابط وثيق بين الاتجاهين يتمثل في الموهبة القادرة على التحكم الدقيق في ذلك التضاد، والذي ربما بفضله وعبره تنشأ حالة الفاعلية الجدلية المنتجة لدى هذه المبدعة وأمثالها ممن يشتغلون في حقل العلوم بنجاح باهر ويمارسون الكتابة الأدبية باقتدار، وهم كثر في العالم عامة وفي أقطارنا العربية خاصة، ولهم وجودهم العلمي وأثرهم في أكثر من اتجاه أو نوع أدبي.
«عقيلات» هو العنوان الذي اختارته نادية ليكون عتبة الدخول إلى روايتها الثانية، وهو عنوان لا تخفى دلالته المزودجة، ف«عقيلات» بمعنى متزوجات أو معتقلات، ولا فرق كبير بين المعنيين القريب والبعيد، الواقعي والرمزي، وخاصة في العالم الثالث حيث المرأة سجينة بيتها أو ظرفها.
ومنذ العنوان تبدأ الإدانة الرمزية -اذا صح انها كذلك- لتتصاعد اكثر فأكثر كلما توغل القارئ في الولوج إلى عالم الرواية، والقارئ في بلادنا يعرف أن نادية دخلت الرواية من باب القصة القصيرة بعد أن اثبتت فيها وجوداً حقيقياً ومتميزاً، وبعد أن خاضت معها مغامرة ابداعية أسهمت في ترسيخ هذا الفن السردي وتجذيره في تربتنا المحلية بمجموعاتها القصصية «زفرة ياسمين 2001»، «دحرجات2002»، «تقشر غيم 2004»، «نصف أنف شفة واحدة 2004».
ودخول نادية إلى عالم الرواية مغامرة شجاعة لا ينقصها الاستعداد ولا امتلاك الشروط الكافية لكتابة هذا الفن، الذي مازال بالنسبة إلينا جديداً رغم البداية الرائدة، ولنادية من تجربتها في دنيا القصة القصيرة ما يؤهلها لكتابة الرواية في أحدث تقنياتها، فهي تمتلك قدرة فائقة على التقاط أحدث التجارب الروائية في الوطن العربي والعالم واستيعاب الجديد والأجد في ايقاع هذا الفن ومتغيراته، كما يتضح ذلك جلياً من خلال روايتها الجديدة، وما توسلته من أساليب هي الأحدث كما سنشير إلى ذلك في السطور الآتية من هذه الانطباعات التي أرجو أن تكون بمثابة الخطوط العريضة لدراسة موسعة.
الفارق كبير بل وشاسع بين رواية نادية الأولى «حب ليس إلا» وهذه الرواية، ولا يكمن الفارق في أسلوب التناول والرؤية الفنية فحسب، وانما في شكل البناء الفني وتكسير معالم الرتابة المألوفة في الرواية التقليدية وارتياد آفاق ابداعية جديدة تقوم على تهشيم كل القواعد المتعارف عليها، واتباع ما يسمى في الكتابة السردية الجديدة ب«التشظي وخلخلة البنية الزمكانية»، والخروج من زمن إلى آخر، ومن مكان إلى مكان جديد، في بناء تجريبي يجمع بين الواقع والتخييل، ويرسم من خلال هذه الخلخلة الفنية سلسلة من الوقائع والأحداث، ونماذج من «العقيلات» أو السيدات اللاتي يتشابهن ويتناقضن في آدائهن الحياتي وفي تعبيرهن الواعي أو اللاواعي عن شؤون الحياة في اطار من المفارقات العجيبة والمثيرة للدهشة والألم.
ربما يقول البعض إن نادية افادت في عملها الروائي هذا من تجربة الروائي صنع الله ابراهيم في المزج بين الحقيقة والخيال، وفي تشخيص مكونات الواقع عبر ما يفرزه من الحكايات اليومية وما يصدر عنه من نصوص ابداعية وبيانات سياسية وصحفية، وهو قول -من وجهة نظري- غير صحيح، ولا يخضع للمقارنة، كما لا يكشف الخصوصية والاختلاف التام في اساليب المعالجة الفنية وطرح الاشكاليات، فقد يكون هناك قدر من التشابه في الجزء الأخير من هذه الرواية، وهو الجزء الذي ضم مجموعة من البيانات والتقارير التي لا قيمة لها فنياً ولا تدخل في صميم العمل الروائي أو تضيف اليه جديداً كما يفعل صنع الله، كما قد يكون هناك ما قد يعتبر تشابهاً وهو ليس كذلك كالتركيز على اللغة الاحتجاجية والتحريضية وهو قاسم مشترك بين معظم الروائيين العرب.
يضاف إلى ذلك أن صنع الله الروائي الكبير والشهير التزم منذ أعماله الروائية الأولى وحتى أحدثها في الصدور مبدأ المباشرة والتقريرية الفنية، وهو لا يعطي كبير اهتمام للجانب الجمالي في كل أعماله العظيمة، وعلى العكس من ذلك نادية الكوكباني التي تؤسس أعمالها سواءً منها القصصية أو الروائية على قدر كبير من التخييل وجمالية التعبير.
وما كنت لأتعرض لهذا الموضوع الجانبي لولا أنني سمعت احدهم يتباهى بأنه اكتشف أن نادية تمضي على طريق صنع الله إبراهيم، مدللاً على ذلك بما ورد في الجزء الأخير من الرواية من بيانات سياسية مباشرة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالنص الروائي، وهو جزء مقحم لا يغني موضوع الرواية ولا يدخل في صميم رؤيتها كما يفعل صنع الله في اقتباساته الموظفة فنياً توظيفاً جيداً.
«عقيلات» رواية أو مجموعة روايات في رواية واحدة يجمعها خيط متين من تجليات معاناة المرأة، بل من عذابها المنقطع النظير، ومن أشواقها المستقبلية الغائمة إلى حياة جديدة تنعم خلالها وتمارس وجودها كإنسانة لها ما لبقية النساء في العالم من حقوق، وعليها ما عليهن من واجبات.
وليس صحيحاً ما حاولت نادية أن توهمنا به على لسان الرواية من أن عملها الروائي الجميل هذا ليس إلا رصداً سردياً لمآسي بعض العقيلات وتسجيلاً لمكايدتهن أو كما تقول : «ما عليَّ إلا أن اجتهد وأبحث عن اسلوبي الخاص في سرد حكايا هؤلاء العقيلات ما دام اسمي سيظهر على غلاف الرواية..!».. مرور صورة كهذه في مخيلتي للرواية مزينة باسمي كروائية جعلتني اشعر بنشوة حلقت بي في عالم جديد، مثير ومحفز في استخراج ما في اعماق نساء الكون من اسرار وخبايا.
تذكرت ابنتي سارة وأسلوبها المميز في الكتابة ورفضها الدائم لنشر ما تكتبه حتى ولو باسم مستعار تفادياً لاي مشاكل قد تحدث، فيما لو عرف والدها انها تكتب قصصاً وتنشرها أيضاً.. والدها الذي كان يتحدث معي عن النساء العاملات معه في شركاته كأنهن «بغايا» وكأن خروجهن للعمل بهدف تحريض الرجال على ملاطفتهن أو الزواج منهن، أو انشاء علاقة حب معهن..».
أخيراً لست بحاجة إلى تضمين قراءتي القصيرة هذه دعوة إلى صاحبة هذا العمل الابداعي الجميل والعميق، أن تواظب على كتابة هذا الجنس الأدبي، أعني الرواية، بعد أن قطعت شوطاً طويلاً مع القصة القصيرة، وصار عليها أن تشق هذا الدرب الوعر بكل ما اكتسبته عبر السنوات الماضية من خبرة ومهارة وحب للابداع والمغامرة.
* عن صحيفة 26 سبتمبر