هتافات على أبواب القصبة

2021-01-25

 

صلاح بوزيان*

انتضى نصلُ الصباح.. الساحة فسيحة بائسة موغلة في البؤس.. سيارات تجوب الطريق.. أرملة مرضعة أثقلها الإملاق.. حواجز حديدية وبقايا آمال وأصوات مبحوحة منثورة هنا وهناك. لا أعلم كيف قضيت ليلتي مرابطا هنا، والأصوات تهتفُ ليل نهار «التشغيل حق مُش مزية» ولا أدري كيف تركني العسسُ في حالي، خرقَ سمعي صوتٌ ألفته سنواتٍ خلت.. خطوب كثيرة مضت وما خلـتني.. وضعتُ الحقيبة الأولى تحت جدار يريدُ أن ينقض.. وتركت حقائب وحقائب في جِيدي.. شرعتُ أعالج الجدار، مضى وقت وأنا غارقٌ في الطين والماء وأعواد العرعر.. أقمتُ الجدار.. نفضتُ ثوبي.. أذهلني الجدار بحلته الجديدة، لا شقوق ولا تخريب ولا تمائم.. ما كنتُ أحسبُ أنني أفعلُ فيه ما فعلتُ.

بدأت العيون تتلصصُ «ولكن كم من جدار سأرمم ؟» بسرعة حملت حقيبتي ودخلت المقهى.. جاء شرطي بادنٌ في أثري ومكث غير بعيد يتأمل.. غانية تتفقد مكياجها قبل أن تترجل وتتلمس وجهها وحاجبيها وشفتيها، وتطيلُ النظر في مرآة السيارة الداخلية. أحداق متناثرةٌ وأقداح متوارية وأحقاد موءودة.

هب نسيم على القصبة.. وبدأت الأصوات ترتفعُ شيئًا فشيئًا بعد أن خفتت فجأة بالأمس متأثرة بوعدٍ وزاري كاذبٍ.. الشارع مهيبٌ ممتد يمر بوزارات.. الدينية والمالية والتربية والمحكمة ودكانين ومكاتب، وناس هناك تحت الأشجار..على اليمين رجال ونساء يشتركون في أكل دجاجات مشوية، وأرغفة ساخنة، وموز وتفاح وعلب عصير المانجا.. يأكلون ويضحكون في راحة وانشراح.. وغير بعيد عنهم شاب يلتهم قطعة كيك. ارتفعتِ الشمسُ.. المكان ظليل، محامٍ تحلق من حوله كهولٌ وهو يشرحُ المسألة.. نقاط الضعف ومواطن التقصير.. فجأة انقص سلك الهاتف وسقط على الطريق.. التفتُ فرأيت نملة ضعيفة لطيفة تخرجُ من تحت السور وتهزمُ عساكر.. هالني المنظرُ، وبقيتُ منهدشا أمام قدرة الله، كيف ذلتْ وقلتْ عساكرُ السوء.

السيارات كثيرة فاخرةٌ.. والأحذية لماعة تُطقطقُ.. كتائب ومواكبٌ ومقانبٌ في ساحة القصبة.. وجميلات يعبرن إلى الأسواق.. جلس بالقرب مني رجلٌ ملولٌ كأنما تحته مساميرٌ أو جمرةٌ ملتهبةٌ.. الذكريات تكاد تخرج من صدره، فقد سيطرته على الوضع، الفقر أمامه وفلوس الكراء والماء والكهرباء والنفقات اليومية وراءهُ.. شيءٌ لا يُطاق.. الرجل الملول يكاد يتمرغُ على الأرض.. ولكنه يخشى البوح.. ولمن سيبوح بعذابه، من سيصغي إليه؟ شبرٌ واحد يفصله عن الوزراء وعن رئيس الحكومة.. من المقهى مباشرة يراهم والمرافقون يحرسونهم.. لا فائدة تُرجى من القرب منهم أو البعد عنهم.. عيونهم نائمة عن الرجل الملول وغيره.. لطم وجهه وصرخ بصوت خافت: يا ربي متى الفرج؟ لم يدخل مخي هذا البكاء.. بكاء كثيرٌ وصراخ.. أودية بكاء وصراخ وعراك فاضت في المدينة. شربتُ ثلاثة فناجين قهوة وطلبتُ رابعة.. فقال لي النادل وهو يضعُ المطلوب أمامي:

نحن لا نقدر على واحدة وأنت تعبثُ بأربعة.. أتسمحُ لي أن آخذ مقروضة.. أخشى ما أخشاه يا صاحب الحقائب أن يعجبك أبا نفة.. فقلتُ: تفضل خذْ المقروضة.. لا أمد الله في مدة أبي نفة ابن زبيبة.. ما طقتُ النوم ولا رقَد لي جفنٌ منذ 2011.. أبونفة صار يحكم الأسواق.. يولي ويعزلُ.. غَـرقَ في أمواج الدهاء.. أمسك السوق المركزية بقبضة من حديد.. وضانكَ الناس ثم جمع ثروات كثيرة.. شارك في القوافل وعيّن لصوصا في كل مسرب وركز عُيونا في كل مسلك وسبيل.. وامترس بتُجار البحر المتوسط وأوروبا وآسيا وصعاليك.. تأتيه مراكب المواشي من بلدان.. امتلأت دكاكينه بالسلع والبخور والحفاظات والعطور والأواني الفاسدة والنقود والوعود والعهود.. وصار يبدل الكسوات ويضعُ العطور الفاخرة تحت أذنيه تأسيًا بسادته أرباب الأسواق هناك.. ويتردد على الميناء ويتودد إلى الصيادين وأصحاب المراكب والعربات.. اشترى بغلة واكترى غلاما لخدمته..

موضوع يهمك : فنلندية تفوز بجائزة "أرتيميزيا" للقصص المصورة النسائية

يحاول أن يجعل من نفسه تاجرا بين تُجار المدينة.. ولكنه لا يقدرُ على أفريقيا.. عَيابٌ، تافهٌ، فظ غليظ القلب، يخطئ العد ويحسب أنه تاجرٌ شاطرٌ، ويُنفق ساعات الليل الطويلة في إتقان لعبة الوجه والقفا إلا أنه يتعثر في كل مرة يلتقي فيها بقدماء السوق وثعالب المسارب.. خرقَ مراكب الصيادين وخيام الحالمين.. ستمسكه الأيام في رُكنٍ قَصي ولن يجدَ نصيرًا.. ساعتها لا ملجأ من الفرار إلا إليه.. ليست بيني وبينه أي خلافات ولا شراكة في السوق.. ما جاء بي لا يعلمه.. وما يُدريكَ يا سائلي لعل الأيام تعبث بالأسواق.. فلا نتسرع إلى الخلاص قبل الميقات، فما ضُربَ عبدٌ بعقوبة أعظم من قسوة القلب.. امتعض صاحب المقهى وصرخ: «كفى من الحديث يا الهاني واذهب إلى المخزن واجلب أكياس القهوة والسكر ولا تنس الماء المعدني، اجعلها في العربة أفضل لك».. مضى النادل حيث وجهه الباطرون من غير إبطاءٍ وهو يدفعُ العربة بيدٍ ويخفي سرواله الممزق بالأخرى.. وبقيتُ في مكاني أتأمل الطواويس والإبل والغنم والدجاج والفراريج، وارتفع الرغاء.. وفجأة أبصرتُ أبا نفة تخلل الأجداء والعماريس.. وعلى حين غفلة برزت ضبية، خرجت من بطن شجرة ساج.. اقتربتْ من أبي نفة، وصكتهُ صكة ذهبت بوجهه إلى أقصى المدينة.. فسقط وما قام من علته.. عم الهتاف ورفرفت الأعلام وتهشمت أكواخ.. حلقت صقور ونسور وخطافات عاليًا.. وتنفسنا الصعداء.

 

*كاتب تونسي








كاريكاتير

إستطلاعات الرأي