باب الطراء

2021-01-08

شادية الاتاسي*


هكذا كان اسمه، اسم غريب ومراوغ، منذ فتحت عينيّ على الدنيا كان اسمه باب الطراء، باب خشبي عتيق، ثقيل وعريض، يُحدث صريرا كلما هزته الريح.
هذا الباب، هذا الصرير، هذه التكتكة المستفزة، هذا الاسم الغريب المراوغ ، هو المكان الذي شكل وعيي الأول، ذائقتي وحكاياتي وإشراقة خيالي، وأنا أقطع بخطى سريعة ومرتبكة، المسافة التي حسبتها طويلة، لأغدو في عالم الكبار. تركت طفولتي ورائي، ترقد في حرز غمام غائم، ارحل إلى أمكنة بلا أبواب موصدة، مريحة ومضيئة، يداهمني الذعر ألا أُمنح مكانا فيها، بأبعاد كاملة.
كنت وأنا أسرع الخطى نحو فضائي الواسع، أنتمي وأنحاز بقوة للحياة، لكن لم أستطع أبدًا أن أتخلص من طغيان المكان الأول، فعلى ضفة القلب، تربع سحره الخاص، علامات فارقة الإيقاع، التحدي الأول، الخطر البريء، الضحك والنحيب، الخطى الهامسة المترددة، الأخيالات المبهمة، صوت الليل، حفيف الريح، الكائنات النورانية، الذكريات التي دفنت بدون أن تموت.
كثيرا ما وقعت تحت تأثير نوستالجيا غامضة، عصف مباغت، انجذاب كلي لإلفة المكان الأول، حلم طويل، أتوغل في تلك الأمكنة الخبيئة، مطوقة بما يشبه اللحن أو الشعر أو الحلم، تضج من خلاله الوجوه الأليفة، طرية ومشاغبة، تمنح الكثير من الحقيقة، لخيالات عاطفية تشكلت على مهل، وأنا منخرطة في هناءة طفولة لامبالية، أنصت بدهشة لذاك الصرير الذي يصدره باب خشبي عتيق، يُفتح على الداخل والخارج، أدفعه قليلا، أواجه جنينة خلفية واسعة، محمية بسياح من شجر كثيف، تسمق ذؤاباته عاليا في الفضاء، تحدث حفيفا مموسقا كلما تمايلت مع النسيم، تسرح وتمرح في وسطها، أشجار الرمان والإجاص والتين والجوز، وخمائل العنب، وكثير من الخوف أجل الخوف، ففي ليالي الشتاء المقمرة، وحين كان صوت الريح يزمجر غاضبا، يتناهى إلى سمعي في مرقدي الدافئ، صوت باب الطراء، يصرّ وئيداً وئيداً، إلى الأمام والخلف، بإيقاع رتيب، يأتني صوت أخي هامساً، في اذني محذرا، الجن غاضبون، يعزفون نشيدهم الخاص، يرقصون رقصة الليل. كنت أرتعد خوفا، أغطي وجهي باللحاف الثقيل، وأحاول أن أغمض عينيّ لأنام، ولم أكن أنام.
وفي ليالي الصيف، حين يسكن صوت الريح، يتناهى لي صوت باب الطراء، يصرّ خافتاً، غامضاً، متوتراً، أضع رأسي على وسادتي، تتراءى لي حكايات معجونة بأنفاس الساحرات، كائنات نورانية، تسرح وتمرح في أرجاء الجنينة الواسعة، من خلف جذوع الشجر، حكايا يحيكها عقلي الصغير بلغة التحدي والخوف
نعم تحد! إيه يا لتلك الحكايات. تورطت مرة في تحد مخيف، استفزتني سخرية ابناء العمومة، في أن أعبر الجنينة في منتصف الليل، كنت في نوسان مدهش ما بين الخوف المشحون بالتوتر والقلق، والرغبة في ولوج بوابة التجربة، والتورط في مغامرة عجيبة مع أشباح الليل، وفي ليل أسود الجناحين، فتحت باب الطراء، على تأن، صرّ خافتا ومحذرا، الليل ساكن، والشجر سامق في الفضاء، انطلقت أعدو مغمضة العينين، حافية القدمين، لا ألوي على شيء، تستوقفني أشباح وخيالات، ترمقني عيون الجنيات الراعشة من ثنايا جذوع الشجر، تلامسني أذرعها الطويلة، يشهق في أذني نحيبها المفجع، أقطع مساحة الجنينة الكبيرة في دقائق بدت طويلة كدهر، أتعثر وأقع وأقف، أتجاهل خدوشي ودموعي، وضحكات اخوتي وأبناء عمي، وغضب أمي، أنتشي بمغامرتي، كانت انتصاري الأول.
هل من الممكن تحييد هذه الصور، منحها صفة اللامبالاة؟ سيبدو هذا على التأكيد، ناقصاً وغير مكتمل، حين تجتاح هذا المشهد الهني، صور كابوسية، وجوه حيادية، وأكثر الأحيان عدائية، في مكان جديد وبعيد، معاد وغاضب، أنت فيه مخذول ومنفي وغريب، يسيطر عليك شعور مستمر وعميق، أنك وحيد ومدان بذنب لم تقترفه، يتوجب عليك أن تقدم صك براءتك دائما. مشهد يصدمك بقدرته على معاكستك على الدوام، يستلب منك لذة الاستجابة لذاك الدفء العصي، أن يمنح نفسه بسخاء، لاستعادة حلاوة الاستماع الى موسيقى، يعزفها باب طراء عتيق، ينفتح على الأمام والخلف، بصرير مجروح بالتخيلات، كان يصفق في سماء ليل حر.

٭ كاتبة سورية







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي