قطعة نقد

2020-12-29

لوحة للرسام الفرنسي كلود مونيه (1840ـ 1926)

ندى قطان

إلى أين أتجه؟ وفي أي ركن أستقر؟ شارع الحمراء مُنار، والدمى تستوقفني في واجهات المتاجر مشيرةً بأصابعها البلاستيكية، النحيلة، المرهفة، إلى اتجاهاتٍ مختلفة... مما يثير حيرتي وارتباكي... جميعُها متطابقةٌ تقريبًا.. جميعها متطابقة وتمتلك نفس تعابير الوجه المصقول.. جميعها تحادثني، لأنني لا أستطيع التحدث فيما أنوي القيام به لأحد؛ فماذا لو علمتْ عائلتي بما أنوي القيام به؟

كلّ الدمى تملك قدرة سحرية على جذب السيدات من المارة. تثير في داخلهنَّ شيئًا ما.. شيئًا أجهلهُ، شيئًا ضروريًا وجوديًا بالنسبة لهنْ - ولي اليوم - ولا أقدرُ على فهم ذلك الجذبْ، أو محاكاته. السيدات يتمهلنَ بخطاهنّ، ويقفنَ لدقيقة ربما وهنَّ يتفحصنَ الدمى التي تبادرُ للصمت المفاجئ، ثم يتجهنَ إلى داخل المحال بسرعة، لشراء قطع الثياب المختلفة المعروضة بمقاس مُصغّر. ما الذي عليّ أن أحظى به كي أتمكنَ من جذبِ المارة في هذا المساء البارد؟ ماذا أفعلُ، وأنا حريصة على أن لا يتعرف على هويتي أحد... أريد التواري في العتمةْ، ولكنني أحتاجُ أن أطفو في الضوء أيضًا، حول تلك المتاجر، فالناس أكثر تجمعًا هنا..

السيداتُ يُخرجنَ أوراقهنَّ المالية الزرقاء الجميلة (فئة الأوراق الأكثر قيمة هنا)؛ أفكرُ أنني أريدُ هذا المال. يقمن بِعدِّ الأوراق بسرعةٍ واعتياد، ويسلمنَّ المال لصاحب البضاعة دون مساومة كبيرة. هل أستطيع أن أستوقف الناسَ بهذه البساطة؟ بذاك السؤال؟ بذاك الرجاء؟! هل أجرؤ على ذلك؟ هل من مساومة؟! شيءٌ أثيريٌ وناعمٌ يلف أجساد الدمى المصقولة... هل أستطيع أن أكون دمية لو أردت؟

تقول إحدى الدمى (وكأنها تساعدني وتدلّني على الطريق):

- ببساطة، حركي جسدكِ كأنه مُشظّى، مُركبٌ من ألف قطعة.

تقولُ الأخريات:

- مفاصلكُ كثيرة جدًا. لا تتحركي هكذا بانسيابيةٍ، كأن شيئًا لم يحدث.

- احنِ ظهركِ قليلًا كأنه يحملُ المدينة..

- ولكن المدينة كبيرةٌ ثقيلة. فاحن إذًا ظهرك كثيرًا - وليس قليلًا.

- ثم مُدّي ذراعكِ بكفٍ مقعر، كأنّه يتلقى قطرة مطر، أو قطعة نقد.

- أو اجلسي فقط. سيعرف المارة ما عليهم فعله...

- اجلسي وكفى.

- هنا.

-  نعم...

 تخطيط خاص 

كانت عيونهنَّ خضراء، أو بنيّة، أو سوداء ساحرة، تذكرني بما تبقى من حبات الزيتون على طاولة المطبخ - ولا شيء غير ذلك. ستتدحرجُ تلك الحبات إلى العدم الذي يشبه جوف ثلاجتي - لا بد أن حبات الزيتون اختفت الآن. فهل أستطيع لوم أحد ما على ذلك؟ لكنه أمر لطيف أن تقول تلك الدمية أن ترددي سيسهل مهمتي..

- هكذا يبدون

- حقًا!

نظرتُ إلى عيون الدمى مرة أخرى، لكنهنَّ صمتنَ فجأة مع ظهور صوت آدمي يبعد عني عدة خطوات. سألني صاحب المحل الذي أتسمرُ أمامه:

-  بماذا أخدمك يا سيدة؟!

لم تنبس الدمى، كأنها لا تكشف السر.... تراءى لي أنها تحولت لجمادات من البلاستيك الملون بلون جلدنا، أو أنها صور ثلاثية الأبعاد فقط خلف الزجاج.. للزبائن فقط. هل أنا زبونة في هذه المدينة!

"بماذا أخدمك يا سيدة؟!"

أبتسمُ بدهشة كأنني لا أصدق ما يقول. لست متسولة مترددة.. لا يستطيع أحد أن يرى محتويات حقيبتي من الأكياس الفارغة، لا أحد يعرف العدد المتبقي لحبات الزيتون الملونة التي تعجبني في عيون الدمى.

(دمشق – كانون الأول/ ديسمبر 2020)







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي