أزرق لون الحزن...

2020-12-11

(لؤي كيالي )

نهى محمود *

لا يمكنني الصمود لوقت طويل داخل إطار الصورة.. يبدو كل شيء مثاليا... من الخارج أبدو معلقة على الحائط في وضع جيد، ابتسامة عريضة وتشبث بيد حبيب أو طفلة أو كتاب.

من الداخل يُدمي ظهري ذلك التشبث، وخز الخشب والمسامير، صوت الخيط المُعلقة منه.

طرف يلتف على مسمار الحائط، وطرف غير مرئي يلتف حول عنقي.

رقبتي الحساسة جدا بطبيعتها لأي شيء يلتف حولها، فلا يمكنني تحمل سلسلة ضيقة أو وشاحًا وبالطبع لن تصمد كثيرا أمام مشنقة الكادر الثابت..

لا يمكنني الصمود، داخل تفاصيل الأيام المتشابهة، ألمح طوال الوقت الضوء الأحمر الذي يشير لعطب ما، كسيارة مستعدة للعطب في أي لحظة، لكني لا أهتم ابدا.

أحمل في يدي طفلة وحبيبا وكتابا، وفوق ظهري عملا وقلقا ومسؤوليات وفي جعبتي الكثير من المواعيد والأمور المؤجلة، وقائمة بالأحبة والأصدقاء حتى لا أنسى!

الضوء الأحمر لا يزعجني أبدا، لكن الأزرق يفعل..

طالما أشعرني اللون الأزرق بالصقيع، رغم أنه علميا يحمل درجة ساخنة جدا للنار، ورغم حبي لفيلم "أزرق" في ثلاثية ألوان المخرج كريستوف كيشلوفيسكي، وما يحمله وجه بطلته جولييت بينوش من حرارة الفقد والمأساة.

ورغم تعلقي الشديد بفيلم "الأزرق أدفأ الألوان" للمخرج عبد اللطيف كشيش، ووهج موضوعه الشائك ومشاهده الساخنة.

لكن الأزرق يبقى عندي هو لون البرد، الكوابيس التي تبتلعني كلها زرقاء.. تماما كآثار الحب على جسدي، وآثار الكدمات على جسد نساء أخريات.. كلها علامات زرقاء وباردة ومخيفة.

مثل كوابيس باردة طالما مشيت داخلها في بيوت نصفها دافئ ومألوف، قبل أن يظهر نصفها الآخر فجأة.. خلف ستار أو باب أو سلالم .. لحظتها يجتاحني خوف، شعور مقبض.

خلفية زرقاء باهتة، وخوف هو كل ما يبقى في قلبي. لكني مؤخرا دخلت حجرة في حلمي وقابلت المسوخ وجها لوجه، لأول مرة منذ لازمني الكابوس يظهر لي الشيء جليا وقاسيا.

يعبرون من أمامي بعدما يرمقونني بنظرات قاسية، يحاولون أخذ طفلتي، لكني أسحبها بهدوء من وسطهم، فيعبرون الحجرة ويتجهون للجانب المظلم من المكان ويغادرون.

أفكر الآن في أي نقطة من روحي تختبئ الوحوش، في أي جانب من صورتي المعلقة على الحائط بابتسامة تبدو حقيقية، وتشبث يبدو دافئا بأحبة..

صور مٌعلقة بفوضى وعشوائية مختلط فيها الموتى بالأحياء، باللحظات السعيدة الظاهرة، والكوابيس والوحوش المختفية التي تُحكم الخيط حول عنقي الذي لا يحتمل أي ضغط.

ربما أفقد الوعي، وأنتقل للخلفية الزرقاء الباردة.. ربما ألملم حضوري ورموزا أكتبها على لوح أبيض وضعه لي حبيبي على مدخل المطبخ لأدون عليه ذاكرتي.. تختلط هناك أفكار الكتابة ووصفات الطعام والأمور التي عليّ تذكرها، والغضب الذي عليّ تجاوزه.

ووعاء مكعبات الثلج الذي أسكبه كاملًا في كوب زجاجي شفاف وأقضي الليالي في جرشه بأسناني. تاركة الطعام على النار، والتلفاز مفتوحا على مسلسل سخيف أبطاله لا يشبهون أحدًا نعرفه، ولا يشغلهم ما نفكر فيه لكنه يمنحني "ونس" يمنع الوحوش من مهاجمتي.

الحنين لوعاء الثلج، ولوح أبيض مثبت بالشمع الساخن في مدخل المطبخ هو كل ما يؤرقني كلما تلاشيت من هنا.. ربما الكوب الفخار الأبيض، ومكاني على الأريكة الرمادية الذي صنع لي تجويفا يحتضنني كلما اقتربت منه.. هناك حيث أقضي الساعات أحدق في القهوة الباردة وأتحسس الخيط وهو يُحكم ضغطه على عنقي.

يفكر رجل أحبه أنه لا يستطيع أن يأمن جانبي ولا يطمئن على قلبه الذي أعطاه لي ذات ليلة لأحتفظ به وسط أشيائي.. أظن أنه مُحق فأنا بالكاد أتعايش مع تعاستي، وكوابيسي..

بالكاد أتنفس، وأمضي وسط ضباب الكتابة ولعنة الفقد وأزرق الخوف وبرودة الوحشة..

بالكاد أعرف ملامح وجهي بينما تتسلل الخصلات البيضاء لشعري، ويقابلني أبي بإبتسامة دهشة ممزوجة بألم كبير قبل أن يخبرني عن ملامح أمي التي اختلطت بوجهي، فغيرت ملامحي.

أبتسم ولا أخبره عن الرعب الذي أشعر به كلما فكرت في ملامحي القديمة، كيف فقدتها وسط الكوابيس والبرودة والأيام.. بينما استقرت ملامحها هي هنا.. فلم أعد في حاجة لأن أحدق في صورها القليلة المبعثرة في أدراج البيت.

أنا تائهة، وتعيسة، ولا أعرف الطريق، وأظنني أضعت القلب وسط فوضى مقتنياتي، هنا حيث تختلط الحقيقة بالخيال، والكوابيس بالأحلام، والحب بالغضب، ورغبتي في التشبت بأمنياتي أن أتحرر وأغادر.. هنا حيث أحب الأزرق لون البحر والسماء، وأتألم من الأزرق البارد المخيف حيث كوابيس الوحوش والتيه.

 

  • (مصر)

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي