فصول

تمارا محمد:
2020-11-30

فصل (1)

ليلة شتاء واحدة مُنتظرة كانت كفيلة بأن تُغيّر مجريات الأحداث، حيث بدأت تشعر أمل بأن كل شيء حولها يُشير إلى اقتراب النهاية هي التي لطالما حاولت مقاومة كل شيء والتمسّك بالضوء البعيد الذي سمعت دائماً أنه ينتظرها في آخر النفق المُظلم.

كل شيء حولها بدأ يوحي بضرورة مغادرة أرض الوطن، ابتداءً من صوت مذيع الأخبار المتقطّع وهو يقرأ أخبار نشرة الليلة، ونهايةً بالشوارع التي أصبحت تخلو من كل شيء منحها الحياة، هي التي وقفت بكل ما تملكه من قوة لمقاومة الرحيل الحتمي، رغم كل ما يُشاع حولها ويحذرها بضرورة مغادرة المكان.

تبدأ أمل بطريقة عشوائية بتحضير حقائبها ووضع ما استطاعت تذكّره، وترك ما استطاعت تركه، حيث ما زال الأمل يسكنه ويبعث في داخلها صوت (العودة) – «حتماً سأعود لن تطول فترة الرحيل» – تُخاطب أمل نفسها بصوت منكسر، لعلّ ما تركته خلفها يمنحها شيئا من الأمان، الأمان في العودة.

تستقل أمل سيارة الأُجرة للتوجه نحو الحدود، بدون أن تنسى إغلاق باب المنزل بإحكام خلفها، ومن شباك السيارة تنظر نحو الضوء المتوجه من شرفة منزلها، تبتعد شيئاً فشيئاً ويبدأ الضوء بالتلاشي. تصل الحدود تبدأ بالسير ممسكة بيديها حقائبها وقبل أن تصل الحافلة التي وقفت تنتظرها هي وغيرها ممن أجبروا على مغاردة البلاد، تنظر إلى السماء التي أصبحت الغيوم تغطيها بشكل كبير وفي تلك اللحظة يباغتها المطر بالهطول بشكل غزير وهي لا تزال مُحاولة الوقوف مكانها، صوت من بعيد يناديها ويصرخ «أنتِ هيا أسرعي الحافلة ستتحرّك الجميع في انتظارك». تستقل الحافلة تجلس على المقعد الذي أصابه البلل، بدون أن تنسى إخراج تلك المفكرة الصغيرة من جيبها مُمسكة القلم مُدوّنة تاريخ اليوم ووقت الانطلاق، تتحرّك الحافلة ولم يزل القلم بيدها والورقة التي أصابها شيء من البلل أيضاً تنتظر تدوين تاريخ العودة أيّاً كانت ساعته!

فصل (2)

أشعة الشمس المنبعثة من خلف ستائر الغرفة تُبشّر بدخول فصل الصيف، يستيقظ أحمد ممسكاً بقوة بحافة السرير محاولاً الوقوف وبخطوات بطيئة تكاد قليلاً تلامس سطح الأرض يمشي في اتجاه النافذة، يجلس على المقعد المُحاذي لها بعد شعوره ببعض التعب، ممسكاً بطرف الستارة بحذر محاولاً استراق النظر نحو ما يجري في الخارج. تمر ساعات قليلة وأحمد ما زال يجلس في مكانه، ينظر خلسة نحو الخارج من النافذة، صوت أقدام تسير بخطوات منظّمة متقدمة نحو الغرفة، يُدرك أحمد ضرورة العودة بأقصى سرعة الى السرير قبل وصول من هو في الخارج يصل السرير يضع رأسه على الوسادة وينام. يُطرق الباب ثلاثاً يَستأذن الطبيب الدخول ينتظر خارجاً لعدد من الثواني علّه يحظى بإجابة تؤكد له إمكانية السماح بالدخول، رغم يقينه الذي يؤكد له دائماً بأنّ الانتظار سينتهي كما ابتدأ منذ أشهر عدّة، ومحاولات عديدة بدون سماع أي إجابة، يبتسم الطبيب ابتسامة الخيبة المعتادة ويهم بفتح الباب للدخول.

«صباح الخير أحمد» بصوت متمسّك بقوته وصلابته وعزيمته متوجهاً نحو النافذة يخاطب الطبيب أحمد، يستكمل حديثه، بدون انتظار رد الصباح المتوقع وكأنه اعتاد أن يكون صاحب السؤال والإجابة في كل مرّة خطّت قدماه هذا المكان مستكملاً حديثه قائلاً «لطالما شعرت بأن هذه الستائر لا تنتظر قدومي فحسب لإزاحتها عن نافذتها، إلا أن الشمس في هذا اليوم تحديداً تناديني بعد مرور أيام شتاء طويلة حالت دون وصولها».

يجلس الطبيب على المقعد الذي غادره أحمد قبل دقائق قليلة يسود الصمت المكان، وبصوت فَرِح يقول الطبيب، «أتدري يا أحمد رغم يقيني الدائم في كل مرّة أتوجه بها نحو الغرفة بأن زيارتي ستنتهي كما اعتدت دائماً، إلا أنّ هناك صوتا في داخلي يمنعني دون قطع الرجاء بأن الأمور لا تبقى على حالها وحتماً ستتبدّل».

ينظر الطبيب نحو السرير الذي لا يرى منه سوى جزء بسيط من رأس أحمد، يقف بهدوء فاتحاّ شباك النافذة تاركاً خلفه الستائر كما هي، متوجهاّ نحو الباب وقبل أن يضع يده على مقبض الباب. يباغته صوت بكلمات مرتبكة متقطعة «ما استطعت أن أنسى! كيف يستيقظ من لا يملك شيئاً ينتظره؟ حتى أن من انتظروه باتوا في عداد الموتى ولم يبقّ منهم إلا هو». يتراجع الطبيب عن فتح الباب مستديراً نحو أحمد الذي جلس على سريره ناظراً نحو الأرض وكأنه لا يشعر بوجود أحد في المكان يجدر به النظر إليه.

يعود الطبيب إلى حيث كان بعينين اختار هو أيضاّ من خلالهما الهرب من النظر إلى أحمد، واقفاً هذه المرة بجانب الكرسي موجهاً نظراته نحو الخارج بالقدر الذي سمحت له النافذة المفتوحة أن يرى. قائلاً «كم أنا سعيد الآن بسماع صوتك يا أحمد، أتذكر اليوم الذي وصلت به إلى المستشفى؟ كان يوماّ خريفياً تساقطت فيه أوراق هذه الشجرة التي تراها، كان يوماً يُنذرها بأن وقت التخلّي عن أوراقها قد حان، ورغم أنّها تُدرك ماذا يعني أن تتخلّى شجرة عن أوراقها، وكم ستضربها زخات الأمطار المتتالية الآتية لا محالة في فصل الشتاء، وكم سيلزمها من قوة لمواجهة الرياح، إّلا أنها لم تجد أمامها أي خيار آخر يحول دون اختيارها قرار التخلّي». يصمت الطبيب قليلاً مكملاً كلامه «واليوم وبعد مرور أشهر طويلة من الصمت أقف الآن أمام الشجرة ذاتها التي فقدت وتخلّت وأزهرت وتخطت ربيعها بنجاح وباتت أوراقها خضراء في فصل الصيف!». شيئاً فشيئاً يبدأ أحمد بالنظر نحو الطبيب يمشي نحو المقعد المحاذي له يجلس وكأنه يرى الشجرة هذه لأول مرة. يغادر الطبيب المكان وقبل أن يُغلق الباب خلفه يخاطب أحمد بصوت حازم « الخيار خيارك يا أحمد، إما أن تكون أنت هذه الشجرة، أو أن تكون الشجرة التي هزمها ما واجهته واختارت أن تبقى مكانها عاجزة أغصانها عن حمل أوراق جديدة متمسكة بجذورها لكن بدون حياة».

“فصول” قصة قصيرة جداً قد يلمس القارئ بين سطورها تعاقب الفصول فيشعر بالبرد تارةً وبالدفء تارةً أُخرى، وبين فصول السنة الأربعة تبقى هنالك فصول في دواخلنا قد تتلاقى مع تلك الفصول أو تتفاداها في أحيان أُخرى. أيّاً كان فصلك تذكّر، وإن كان لتعاقب الفصول في دواخلنا أمر لا مفرّ منه، بأنّك قد تكُون أنت تِلك الشجرة التي اختارت أن تُزهر طيلة أيام السنة الواحدة رغماً عن كل شيء وأي شيء وكل شيء.

 

٭ كاتب من الأردن







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي