حُلم

2020-11-27

(صبري منصور)

محمد عبد الجواد

كان يجلس على كرسي بمواجهة البيت. بينما الباب مفتوح، انتشر الضوء الأزرق للغروب، فأمرني أن أشعل مصباح المدخل تجنبًا للعتمة المقبلة، سألته إذا كان يريد الدخول ومشاركتنا العشاء لكنه رفض، قال: (سأظل بمجلسي هذا حتى يُطلَّ القمرُ في عليائه)، انتظرت بالداخل قلقًا من الآتي، وبدأت أُفكّر في كل الحوادث التي جرت خلال يومين، بينما انهمكت خالتي بصلاة ركعتين، راجية أن تمرّ الليلة على خير.

اشتعلت القرية بالخلاف؛ لأن عريس آل (ف) قتل عروسه التي تنتمي لعائلة (أ) في ليلة العرس. تزوجا عن حب معزز بأواصر شراكات بين العائلتين تمتد لما قبل الزمان بزمان، قال العريس إنه رآها تطارح جنيًا الغرام، ووصفه بأن له أُذنان طويلتان بحلقين يلمعان بالظلام ويتدليان إلى الأرض، قال: (دخلت عليها بعد رقصتي الأخيرة مع ضيوفي، وجدته يعتليها، فاستبد بيَ الجنون).

أخذوه للوحدة الصحيّة بالقرية، ثم إلى قسم شرطة المدينة البعيدة، وانقطع خبره منذ ذلك الحين، غير أن العائلتين بدأتا بتبادل الاتهامات، وانفصمت الأواصر، وحلَّ العداءُ بكل ما يجلبه من مكائد. صارت القرية في حزن واضح، حتى أن الشوارع بدأت تخلو قبيل المغرب بساعة. علّقت خالتي ليلتها أن للقمر تأثيرًا على العقول وقت تمامه بثلاثة أيام من الشهر العربي، قالت: (لهذا أمرهم النبي بصيامهم)، وذكرت أن العرس كان بالثالث عشر من المحرم، لم يقتنع زوج خالتي، فقرر بعناد أن يقضي ليلته أمام البيت، منتظرًا عبور بعض رفاقه أو انشقاق القمر له.

عندما انتهت الليلة، دخل علينا بوجه غريب، طلب العشاء ولم يزد كلمةً حتى الصباح فقد أوى إلى النوم من فوره، وظللتُ جالسًا بالصالة أُغالب النوم، أرتجف لو أن كلام خالتي قد صدق فاستبد بزوجها الجنون بشرخ الليل، مرت الليلة بسلام، وأعلن خالي صباحًا أنه لم يشعر بأي شيء، غير أن إرهاقًا مفاجئًا أصابه أثناء جلسته وهو ما دفعه للدخول.

في الليلة التالية، جلستُ أتأملُ القمر فوق البيت، متابعًا انتشار الضوء الفضي فوق البيوت المتراكبة طبقًا عن طبق، حتى تصل إلى النيل، المرفأ حيث يطرح النهر الجثث والأخشاب وأحلام العابرين، ثم يغطي بمده عتبة أول بيت يطل عليه، ناشرًا الحر والهاموش. تذكرت جلستنا منذ أسبوع، قبيل العرس، وحديثنا الدافئ عن جمال الحياة العاطلة بلا عمل، قلت (هذا ما دفعني للعودة، لا يحل السلام سوى بالبعد عن المركز، أقضي الآن أيامًا من البطالة، لا أفعل غير المطلوب، وكنت بالماضي القريب ألوم نفسي لو لم أنهِ خمس مهام باليوم، حتي التريض مارسته كواجب)، ابتَسمَت وقالت: (المشكلات بكل مكان، إلا أنك جئت بعقلية رجل المدينة التي كان يحل بها علينا منذ نصف قرن، لم تعد هناك فوارق)، ثم قصّت ما رأته من قصص حب تنشأ، تنتهي أو تستمر، عند بيت (ح) الذي يؤجره للسياح المحليين والأجانب.

قالت: (كانت رحلة، وليلتها خرج شاب من الغرفة المخصصة للذكور، وأخذ يدخن السجائر إلى جوار غرفة الفتيات، بدأت أراقبه من مكان خفي، ظلَّ يلف ويدور حتى خرجت له إحداهن، ثم دعته للدخول فدخل). قلت وقد اعتراني الخجل: (وكم كان عدد الفتيات بالغرفة حينها؟)، فردت وهي تضحك (خمسا)، ثم أضافت، (لم يبق بالغرفة سوى ساعة، ثم خرج وهو ينظر حوله بارتباك قبل أن يعود لغرفة الذكور، باليوم التالي، غادرت مجموعة الفتيات بالكامل، ولم يبق سوى الشباب، وراقبته على مدار أيام، لا أملك إلا أن أقول أنه كان بمظهر مخذول)، حاولت سد فجوات القصة بالخيال فلم أستطع، لا حدود للتجربة كما رأيت بالسابق، والملل يدفع لكسر المحظور أو المعتاد، قالت وقد لمحت شرودي (كانت الفتاة ذاتها تتمشى مع شاب آخر، كل ليلة منذ بدء الرحلة، بعد الواحدة صباحًا، بل جلسا في موضعنا هذا وتبادلا القبلات)، نظرت لها بوجوم، وكانت تبتسم وقد اتسعت عيناها، قالت (بريء كقرية، بينما أنا مركبة كمدينة)، ثم ضحكت، فأدركت أنها تتلاعب بي، أو أنها ذكرت الحقيقة.

استوعبت حبها رغم أنني لم أستوعب ذاتي كثيرًا، وفهمت كيف أعشق فتاة بداية بإحصاء عاداتها اليومية حتى أكون مُلمًّا بما تفعل أو ما تحب، وانتهاءً بتنظيف مكان جلستها قبل حضورها قبيل الغروب، لم تكن تملك ميزة غير الجمال المبهر، والذي وصفه شاعر متحمس بالنادي الاجتماعي أنه اجتماع صلابة الصحراء مع عمق النيل ونعومته.

وقت العرس المشؤوم، همستُ بالطلب فوافَقَت، ثم قالت بمرح (سنحيا في المدينة، أريد تجربة الأمر، وسأنظم حياتك)، ثم ضحِكَت، وبدأت تحلل علاقات الظلّ بين المدعوين.

بعد الكارثة، وليلة بيات زوج خالتي خارج البيت تحديًا للقمر، تقابلنا بنفس الموضع، قالت وهي تتأمل القرص الشاحب المعلق بالسماء (حلمتُ أن القمر صار اثنين)، ثم ذكرت شيئًا عن كوكب المشتري بأقماره، رددت (عمتي تقول القمر شر بينما المشتري كوكب حظ، لا أؤمن بذلك)، ضحكتُ وأخبرتها بقصة خالي، ومع ارتفاع وانخفاض صدرها ما بين النفسِ والفِكر، تذكرتُ نهارًا بعيدًا وصدرًا عاريًا بنهدين نافرين، دعاني إليه فلم ألب، قلتُ لها: (لما لا نفض الخلاف ونجمع بعرسنا شتات الناس؟)، أفقت وهي تضحك، طَلبَتْ أن أتقدم إليها كما يفعلون بالأفلام، هبوطًا على الركبًة مصحوبًا بعرض الزواج بالإنكليزية، وكان القمر شاهدًا.

على الرغم من المصاعب والعادات، إلا أن للفرَحِ تدفقه القوي كالنهر، فغطَّى على مصيبة العرس السابق، واتفقت العائلتان سريعًا، وقررنا عقد العرس بساحة بيت السياح الخاص بـ(ح)، أمام النهر، جلبًا للبركة والفرحة. كان بالسماء قمر الرابع عشر، أصاب خالتي القلق فقرأت سورة البقرة ثلاثًا، ثم بخّرَت الغرفة التي سنقيم فيها ضمن الجزء الشمالي من البيت، وأغلقت كل الشبابيك وسدت المنافذ بما فيها جحور الفئران السوداء، وانتهت الليلة بعد الرقص وقيام مطرب بإعادة غناء أغانٍ شهيرة طربت لها القلوب. فرح الناس واستبشروا الخير، وعاد كل منهم إلى بيته، وغلفتني رائحتها التي تشبه رائحة عشبة مبللة.

دخَلَت الغرفة فتبعتها، وكان البيت خاليًا من أجل المناسبة، حيث باتت خالتي وزوجها في بيت شقيقه، وقفت بالمنتصف قرب الفراش، نظرتْ إليّ بتركيز، ثم قالت بمرح: (لنذهب عند بيت (ح)، نكسر التقليد، أشعرُ أن الكل يراقب البيت الآن أو أنني محاصرة)، لم يكن الأمر بالمتبع، وكانت هناك مخاطر كبيرة، غير أنني وافقت وقد أطاحَت بي الرغبة، أخذتها من يدها وخرجنا ناحية بيت السياح، وكانت الأرض هناك ما زالت تلملم فوضى العرس، قابلنا (ح) بوجه مضطرب، فطلبتُ منه استئجار إحدى الغرف لليلتين، تعجّب، ولكنه وافق وهو يشيح بوجهه عنها وقد تألقت بضوء القمر، قال: (يتبارك البيت).

بالداخل، بحث الجسدان عن بعضهما بألفة وبلا تردد، غير أن الشباك كان مفتوحًا، تهبُ منه رائحة طرح النيل، وفوجئت بما جرى حتى أنني حاولتُ ثلاث مرات بلا جدوى، نظرت إليّ باهتمام وشبه ابتسامةٍ خجلى، قلت: (سأخرج قليًلا، هو توتر ليس إلا)، ابتسمت وقلت: (لا تكن مثلهم، لا داعي للحرج).

وقفتُ بالخارج أتأملُ مركبًا رسى بالقرب، ثم وضعتُ قدمي حافيتين بالمياه طلبًا للسلام، تذكرتُ الليلة البعيدة وفكرت إنها لعنة، ثم سمعتُ صوتُ حركةً فرأيت (ح) وهو يمسك بهاتفه، يضيء بكشافه طريقا صاعدا بين بعض البيوت، لم أهتم باحتمالية أن يكون قد رآني، هدأتُ وعصفت بي رائحتها من داخل الغرفة وهي تحمل أثرًا من فراش معد لنا، وعدتُ وقد شعرت بأن شيئًا قد تغير بي.

فتحتُ الباب، وبالغرفة هالني الفشل مع تموجات الجسد الهادر بالدلال، تراجعت ناحية الباب شاعرًا بالكدر، ثم رأيتُ ما يحدثه ضوء القمر بعتمة غرفة يغادرها الحب خلسة كما دخلها خلسة، وتضخم فوق الجدار ظلًّا لجسد له رأس خوف بكر، ثم انتشر الضوء الفضي وكسا الموجودات، وعندما سمع أحد الساهرين الصرخة الحيّة تشق الصمت، قال بإيمان: (أعوذ بالله، كأن الصارخ قد رأى قمرين).

"تنتمي هذه القصة إلى مجموعة قصصية تصدر قريبًا عن الأحلام، ما رأيته وما لم أراه، يقظًة أو بالمنام، أو واقعًا يقارب الحُلم. واللوحة التي استعنت بها من أجل التأمل، وشعرت أنها تنتمي لجو الحلم أو القصة، هي لوحة للفنان المصري التجريدي صبري منصور"







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي