صدف غير سعيدة

2020-11-22

مصطفى النفيسي*

جاء أناس كثيرون لتعزيتنا، وانهمرت دموع كثيرة لم يكن بوسعنا تحاشيها. تقافز أطفال بأحذية رياضية غير نظيفة فرحين بقطع «المسمن» التي نالوها. في الليل سمعنا نباحًا متقطعًا يأتي من مناطق قَصِيّة لكلاب يبدو أنها تعاني الوحدة.

أفرغت مثانتي أكثر من مرة، وأحسست أن بطني كأنه سينفجر من فرط الغازات المتجمعة بداخله. في الصباح قمت مبكرًا على غير عادتي لأجد أبي يحكي حكايات حزينة تختصر تجاربه السيئة في الماضي، وعمي يجاريه كتلميذ مرغم على حضور حصص دراسية لا يحتملها. قالت أختي على مائدة الإفطار مرة أخرى: «لن أرى بشرى أبدًا» بكى الجميع إلَّاي.

كان بكائي يتم في أقصى زاوية من قلبي، ولم نفعل طيلة اليوم سوى استقبال نساء ورجال يأتون للتعزية.

في مثل هاته اللحظة تمامًا، علمت أن أبي -كان ذلك عبر الهاتف- قد تشاجر مع ذلك الرجل المستأسد الذي بذل قصارى جهده ليثبت أنه شخص وقح. قال أبي: كان السيل قد بلغ الزبى، ولم يكن بوسعنا أن نفعل شيئًا آخر غير الشجار.

أجبته: «الكلام كثير والصمت أحسن». وكان أبي فعلًا قد أعلن في أكثر من مرة أن الرجل قد تمادى، وأنه يريد شيئًا بعينه. هكذا قال: «إنه يريد شيئًا ما! إنه يريد شيئًا ما!».

ولم نَدْرِ نحن كُنْهَ هذا الشيء. اعتقدنا أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد ضغينة قديمة تطفو من حين لآخر فوق سطح حياتنا، فالأمور قد ساءت كثيرًا مؤخرًا. أصبح الناس أكثر ميلًا إلى افتعال الأسباب للدخول في خصومات حقيقية، كثيرًا ما تنتهي بتبادل شتائم لاذعة تبقي الأجواء متوترة لزمن طويل، ولكن هذه المرة حدث الأسوأ.

حينما وصلت إلى منزلنا، كان الصهد المقيت قد حول الأزقة إلى أمكنة مقفرة، ولم تعد ترى سوى قلة من الأطفال الجسورين، الذين ينهون ألعابهم ببطء شديد والإعياء بادٍ بشكل سافر على وجوههم. قالت أمي: «لقد فعلها الوقح».

كانت أمي تمخر عباب التفاصيل، وهي تحرك يدها يَمْنةً ويَسْرةً، مستعملة منديلًا أبيضَ كمروحة تحاول تلطيف حرارة المكان وربما طرد الذباب، وأبي متمدد في ذلك السرير القديم وجبينه قد تفصد بالعرق، وهو يحاول الكلام لكنه لا يستطيع، وحينما تكلم فعل ذلك بصعوبة كأنه يخرج سفافيد حديدية من فمه، ولم أستطع أن أحدد بالضبط لماذا كان يجد صعوبة في الكلام، هل من شدة الحَنَقِ عليَّ لأنني تأخرت في الوصول؟ أم لشدة الغيض من خصمه الوقح؟ أم هو مجرد عياء ما بعد القيلولة؟

في هذه اللحظة -عبر الهاتف طبعًا- أيضًا علمت أنني طردت من العمل.

قيل لي: «لقد اضطررنا للتخلي عن خدماتك لظروف قاهرة. سنحتفظ بسجلك كاملًا حتى نستطيع الاستعانة بك لاحقًا».

تذكرت كيف توسط لي قريبي، الذي تُوُفِّيَ الآن بعد أن داسته سيارة مسرعة، عرفنا فيما بعد أن سائقها كان مخمورًا. توسط لي إذن كي أحصل على تلك الوظيفة التي لم تكن لتبدو مغرية لأحد. فراتبها الشهري لا يكفي لإعالة أسرة.

لكنني كنت قد انقطعت عن الدراسة دون أن أحصل على مؤهل علمي حقيقي، فعلمت أن فرصي في الحياة ستكون قليلة بل لربما معدومة، لذلك استنجدت بقريبي هذا الذي تجاهلني في البداية، ثم بعد استعطافات أمي، استطعت أن أظفر بتلك الوظيفة، وأصبحت محظوظًا بنظر الجميع لأنني تحولت إلى موظف! قبل أن يخبروني طبعًا بعد سنتين –عبر الهاتف مرة أخرى- أنني قد فصلت مع المفصولين.

كل هذه الأحداث حدثت بشكل متوازٍ مثل تلك المستقيمات المتوازية التي كنا نرسمها في المدرسة الابتدائية.

 

  • قاص مغربي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي