كائنات من الليل

2020-10-19

(يوجين بودين)

حسام عبد الباسط*

 

الحجـرات

عيناه الشمعيّتان كانتا تتيحان له القدرة على الرؤية في الظلام الدامس والدائم.

في كل ليلةٍ، وحينما يجثم الليل، وتهمد الحركة بالخارج، يمسك بيدها.. ينسلان من الجمع الساكن والصامت.. يصعدان لأعلى متشابكي الأيدي بخطواتٍ متصلّبةٍ حذرة.. يجوبان أرجاء المنزل.. يتفقّدان الحجرات المفتوحة.. يزيحان الأتربة وخيوط العناكب العالقة على الستائر والرفوف.. يحملقان في الصور المعوجّة ذات الأطر المتهالكة والزجاج المغبرّ المكسور المثبّتة على الجدران المتشقّقة.. أو يختلسان نظراتٍ إلى الطريق المظلم عبر فتحات النوافذ المغلقة منذ آلاف الأعوام.. يرمقان عبر الأمطار بروق أضواء السيارات التي تأتي من بعيد، لا تقترب أبدًا.. أو يتواجهان على طاولة العشاء، من دون هدفٍ محددٍ ربما.

ربما يتصنّعان حديثًا رومانسيًا على أضواء شموعٍ وجداها في أحد الصناديق الخشبية.. يتأمّل ملامحها المنحوتة ببراعة.. شعرها الذهبي الثائر.. عينيها بلون البحر والسماء.. للأسف وجهه الجامد لا يمكّنه مرة من الابتسام.

وبينما الطاولة بينهما خاوية، تتصاعد الأصوات من أسفل.. أصوات غناء، موسيقى، رقص، وفي بعض الأحيان يتحوّل إلى ضجيجٍ وصخب، فيعودان سوية لأسفل.. يفتح الباب الحديدي.. يدخل وحده في حذر.. يغوص في الظلام ويتفقّد التماثيل التي تقبع ساكنة ومتفرّقة في أجزاء القبو.. بعض العناكب والجرذان التي تتحرّك في طمأنينة، تدخل وتخرج عبر أكوامٍ من الكراكيب.. بعض الملابس الممزّقة، والصحف المصفرّة، والكتب المرصوصة في صناديقٍ كرتونيةٍ متآكلة، والأحذية العتيقة، والأثاث القديم الذي يتكوّم في غير انتظام وتغطيه طبقةٌ كثيفةٌ من الأتربة المتراكمة.. بينما سحابةٌ ضبابيةٌ مبهمةٌ تأتي عبر قضبان النافذة العلوية.

يظل يتفقّد الجميع.. أو ربما يقوم للحظاتٍ بدور جندي التفتيش ويقبض على أحد الهياكل المتهمة.. وعندما يتيقّن من سكون كل شيء، يغلق باب القبو.. يعودان لأعلى مجددًا.. يجلسان متواجهين على طاولة العشاء الخاوية كالعادة.. ينظر كل منهما عبر الظلام لوجه الآخر طويلًا.. ولأجلٍ غير مسمى.

في الحقيقة، أصوات الغناء والرقص المنبعثة من القبو في الأسفل لم تكن تسبب لهما الإزعاج.. ما كان يزعجهما حقًا حملاتُ التفتيشِ الدائمة التي كانت تقتحم باب المنزل المهجور.. يقتحمون الحجرات.. يُضاء النور الباهر الشرِهُ للانبعاث، فيغمر العيون الشمعية ويصيبها بالعمى المؤقّت.. يدخل الأفراد ذوو الملابس السوداء والأوجه الدائمة التقطيب.. يقصدونه أولًا.. ينقضّون في عنفٍ على جسده المتصلّب بإصرارِ الثائر.. يمسكونه في غلظة وعدم اكتراث.. يمسكه أحدهم من يده الوحيدة في وضعٍ رأسيٍ مهين.. يقلبونها أمامه في عنفٍ حتى تتعرّى ويلامس شعرها الأرض، فيشعر بالغضب والثورة.. لكنها ثورةٌ شمعيةٌ صامتة، لا تقوى على الخروج.

وكانت الأيدي القاسية تعيدهما دومًا لأسفل مع التماثيل الأخرى، بينما الأفواه تتساءل في دهشة.. من؟.. كيف؟.. ومتى؟.. لماذا في كل مرةٍ هذان التمثالان تحديدًا؟

الوجـه

تسارعت الخطوات الثقيلة عبر الممر الأسود الطويل.. حملت أدخنةٌ كثيفةٌ رائحة الكبريت المحترق، وتسللت عبر قضبان النافذة والفتحة الأفقية الضيقة أسفل الباب الحديدي المغلق.

تصلّب جسده.. لصق أذنه بالباب الحديدي، وأشار لهم بالصمت.. حينها، كفّ رفاقه عن الضجيج والدقّ وأصوات الاحتجاج.. كذلك كفّ الآخرون في الحجرات الأخرى.. لكنه أيقن أن الأقدام الثقيلة وأصوات تكسر العظام بالخارج ستختار حجرتهم من بين الحجرات المتواجهة في الممر المعتم الشبيه بمقبرةٍ لها آلاف الأفواه.

عادة يدخلون.. يضعون آخرين، ويتفقّدون القدامى.. لا يعرف أحدٌ على أي أساسٍ يتم الاختيار.. لكن من يخرج معهم لا يعود مجددًا.. ولا يترك من آثاره سوى بعض الملابس القديمة، والجلد المتساقط، وصدى صراخه البائس المنبعث من الطرقة بالخارج.. صوت تهشّم العظام.. ورائحة تشبه رائحة الكبريت المحترق.

لكنه أعدَّ خطته على نحوٍ مختلف.. ففيما انزوى رفقاؤه وتفرّقوا عبر الأركان وغاصوا في سواد الظلام، اختار هو بقعةً ضوئيةً باهتةً تتمزّق عبر القضبان الحديدية، وتسقط على الأرض المعتمة التي تمتلئ بالحفر، وبعض الملابس الممزّقة، وأوراق الصحف الممتزجة بنسيج عناكب، وبعض أوراق الأشجار اليابسة.. وبعض الكائنات الرمادية التي تتحرّك في فزع.. وكان هذا كافيًا.

حينما اقتربت الأقدام، ثبّت وجهه أسفل بقعة الضوء، وقبع ينتظر.. لما اقتحموا الباب الحديدي تفقّدوا الجميع.. انقضوا على أحدهم وسط صراخه اليائس.. أمسكوا آخَرَ مستسلمًا تمامًا، ثم توقّفوا عنده طويلًا.. تأمّلوا عبر الضوء الشحيح وجهه المليء بالبقع الجذاميّة المهترئة.. قطع اللحم الصغيرة التي تتساقط وتتفتّت أسفل أقدامهم.. ملامحه المتداخلة.. أنفه المتدلي المكسور.. رأسه التي تمتلىء بالقروح والديدان التي أفزعها الضوء فراحت تتلوّى في هستيريا.. عينه الوحيدة المطفأة التي امتزج بياضها بسوادها، ثم تركوه وخرجوا.

كرنفـال

هو لا يذكر متى بدأ ذلك تحديدًا.. ولا لماذا – في كل مرةٍ – كان يحدث.. يوم كانوا ينامون نهارًا ويستيقظون ليلًا.. الخيام في العراء، والأكواخ الصفيحية الصدئة، والبيت المهجور.. الأجساد الهزيلة ترتدي ملابس رثة.. توقد نارًا وتلتف حولها، ثم تبدأ الأغاني.. تخرج عبر الأفواه المرتعشة خائفة، وَجِلة وسط الأمطار والصقيع.. الريح القاسية تضرب الأجساد من الخلف.. ثمّة فراغ بين الأجساد.. أحدهم غير موجود.. ثمّة خائنٌ وَشَى بهم، خائنٌ يلوح من بعيد بصحبة الجنود وهو يرتدي ملابس جديدة.. يمشي خلف الأجساد المتماثلة الضخمة، ويرتجف.

يوم تظاهروا بالموت الجماعي في أماكنهم.. الوجوه البلاستيكية الجامدة تقترب من مجلسهم في إصرار.. الأيدي الملوّنة الغليظة والأقدام المدسوسة في الأحذية الجلدية تضرب الأجساد المسجّاة المتظاهرة بالموت في عنف، وتقذف بهم وسط إحدى المقابر الجماعية.

يوم استيقظ مفزوعًا بنصف ذاكرة.. التراب يغمر كل جسده.. الأيدي العظمية المصطكّة في رجفة الخائف تنبش التراب والطين والأحجار.. يوم وقفت الهياكل الهاربة العمياء تحت الأمطار، وبين العراءين، عراء الطبيعة القاسي الممتد، وعراء الجسد.. يوم سمع نشيج الولد الباكي على أحد القبور.. تحسّس الطريق إليه.. باغته.. قاسمه عينيه غصبًا، ورمى ملابسه الضيقة.. مشى هائمًا بين الأشجار والبيوت المهجورة.. يوم اصطدمت عينه؛ عين الطفل بظهر الجندي الضخم.. في البداية تراجع في فزع، ثم لاحت أمامه خيالات الانتقام.. أمسك حجرًا ضخمًا، واقترب من الجندي الذي كان يلوك سيجارة تصنع حوله أدخنةً زرقاء كثيفة، ويترنّح.. حين خلع الخوذة للحظات، انهال بالحجر فوق الرأس العاري، وهشّمه تمامًا.

يوم اندسّ في الملابس الواسعة المغمورة بالدماء بعدما مزّق قطعًا من لحم الجندي ولصق في جسده الهزيل.. ارتدى الخوذة، وأمسك البندقية الصدئة، ومشى مختالًا فرحًا، وفي رأسه كانت تتكوّن أفكارٌ جديدة.

ها هو الآن، وسط الريح القاسية والبرد بصحبة أحد الواشين.. يضع قناعًا بلاستيكيًا فوق وجهه وعينه الوحيدة.. يمشي جسده الضخم المدسوس في حذاءٍ جلديٍّ لامع.. ويقترب من أصوات غناء وموسيقى تنبعث خائفة وَجِلَةً من إحدى الخيام المنصوبة قرب البيت المهجور.

أدخنة زرقاء كثيفة

أخبره حارس المقابر أن يبتعد.. أخبره الحارس أن المبنى المواجه للمقابر التي يحرسها مسكون.

قال الحارس إنه في كل ليلة تنبعث أصواتٌ غريبة.. موسيقى، ورقص، وغناء، وهتافاتٌ محتجّة، وأصواتٌ كعواء الذئاب.. تتبعها أضواءٌ غامضة، وسبابٌ غاضب.. قال الحارس إنهم جثث بعض المعتقلين القدامى الذين لم يفهموا بعد أنهم ماتوا.. قال الحارس إن أشباحًا أخرى تطوف حول سور المبنى وتدخله كل ليلة.. وإن صوته القوي يُفزعهم.. قال الحارس إنهم يتنكّرون في أجرامٍ بشرية، وإنه يعرفهم من عيونهم الزرقاء المتأجّجة المشقوقة بالطول، وروائحهم التابوتية.. وإنهم يخافون من بارود بندقيته وحده.

سأله الحارس ماذا يفعل ولدٌ مثله في مثل هذه الساعة المتأخّرة من الليل؟ وملابسه القليلة؟.. والأمطار؟.. والقضيب الحديدي والأحجار في يده؟.. والدماء المتساقطة من رأسه؟.. والفجوة السوداء التي تملأ إحدى عينيه؟.. تململ الولد.. تراجع الحارس قليلًا، وشرع بندقيته.. قذف الولد سبابًا غاضبًا وأعطى للبندقية ظهره وانطلق يجري.. من خلفه تابعه الحارس يتجه ناحية البناية.. من بقعةٍ معتمةٍ تجثم جوار السور خرج أولادٌ بعيونٍ مفقوءة كانوا ينتظرونه.. راح الولد يشير لهم بالقضيب الحديدي تجاه البناية، ويحدثهم في حماس.

أخبرهم الولد أنه ذات المبنى.. أخبرهم الولد أن الجنود بالداخل جبناء.. قال الولد إن عيونهم المفقوءة تفزعهم.. قال الولد إن الأدخنة الزرقاء فقط هي ما تنفخ ملابس الجنود، وترفع خوذاتهم، وتشكّل ملامحهم.. وإنهم يخافون من حجارتهم الصغيرة وحدها.

 

  • قاص وناقد مصري.

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي