
بيروت- جورج جحا- مجموعة سعدي يوسف الشعرية الاخيرة التي حملت عنوان "قصائد الحديقة العامة" جاءت في غالبها صورا نفاذة مؤثرة لموضوع يتكرر في وجوه مختلفة لكنها كلها تنبض بالآم الغربة والوحشة.
ولعل من اكثر ما في بعض هذه القصائد اثارة للأسى ما يصور منها الانسان رهين غربتين.. غربة فعلية اي البعد عن الوطن وأخرى اشد منها مضاضة اي شعوره بانه كان مغربا في وطنه الى درجة تحول معها الى شبيه لتلك العصافير التي ترفض الانطلاق عائدة الى غابتها التي تبدو لها رغم كل الذكريات ومشاعر الشوق انها لم تترفق بها.
والحديقة العامة خاصة "اللندنية" عالم يقدم الكثير.. فسحة ومتعة ولهوا ومكانا شاعريا لمن يبحث عن ذلك وموئلا للمتوحد وبعض عزاء وبديلا احيانا من بلده البعيد.
هل كانت كل ذلك او بعضه او اكثر منه بالنسبة الى الشاعر العراقي البارز؟ الجواب في عدد من هذه القصائد التي تحمل اجواء الغربة الى القارىء. ولعل من الاصح القول انها تحمله الى اجواء تلك الغربة اذ انها غربة ذات سمات وصفات وألوان خاصة بها.. فهي لا تبقى فى عالم عام مطلق.
اشتملت المجموعة على نحو 50 قصيدة توزعت على 94 صفحة متوسطة القطع وصدرت عن "منشورات الجمل- كولونيا "المانيا"- بغداد".
لابد من الاشارة الى ان "المرئيات" بصريا وحتى شعورا وتصورات في قصائد سعدي يوسف هي اقرب الى ان تكون اوروبية وأوروبية "باردة" اجمالا معظمها "لندني" حيث اقامة الشاعر وبعض منها في اماكن اوروبية اخرى لعل من ابرزها "شعريا" ما يحمل الينا مثلا رومانسية اجواء باريس من فيكتور هوجو الى جاك بريفير وإلى صوت "ايف مونتان" وقبله "نات كينج كول" واحتشاد المشاعر في اغنية "الاوراق الذابلة" او الأوراق الميتة او "اوراق الخريف". الا ان قصيدة سعدي يوسف هنا لها قراءة مختلفة.
نقرأ القصيدة التي تحمل عنوان "طبيعة". يقول الشاعر "في تشرين الاول في باريس/ الاشجار تغطي الارصفة المغبرة/ بالذهب/ الريح تخفف من وطأتها/ وتسيل مع الذهب/ الغابات رسائل/ ثم بريد جوي/ من ريف/ يعلن: اني المنسي/ اقيم هنا .. بيتي من ذهب/ وغبار."
في القصيدة الاولى "منزه الانهار الثلاثة" يبدو لنا ذلك الطائر القادم الى تلك الحديقة العامة في لندن غريبا في غير مكانه. اتراه يشبه احدا هنا؟ يقول الشاعر "اشرعة بيض/ بجع ابيض/ غيمات خريف بيض...
"الشمس تسخن في المرج مراياها/ والاشجار/ كأن ضحى الجنة يفتح بوابته/ هل ادخل؟/ نورس بحر من عدن/ ضل../ وها هو يهبط مرتبكا/ بين البجع الابيض/ والاشرعة البيض."
قصيدة "مقام عراقي مع اغنية وبسمة" حافلة بحنين الى امس والى تراث يتجسد في تقمص الاغنية الشعبية الحزينة وكذلك العودة الى نمط القصيدة التقليدي والربع المرتحل وأجواء شعراء خاصة من بني عذرة. يقول "فلم ندر اي الجنتين نزور/ كأن بليلى من شمائل دجلة/ تقلب حال والمياه تدور/ ونضرة وجه مترف وسرور...
"وصلنا اليوم بعد الهم دجلة../ وقال الربع:/ ماء الهم دجلة:/ سيوف الاجنبي .. دارت عليه."
ويختم بحزن ومرارة وشك بغناء شعبي موجع "وشلون عيني وشلون/ هذا الامل ينساهم/ راحوا وما ودعونا/ يوم النصر نلقاهم/ وشلون عيني وشلون!"
اما "قصيدة يائسة" فتختصر كل الحكاية بل المأساة او صلبها بايحاء نفاذ في هدوئه القتال. يقول "البلاد التي نحب انتهت من قبل ان تولد/ البلاد التي لم نحب استأثرت بما قد تبقى من دم في عروقنا/ نحن كنا اهلها ../ قل: بلى../ ولكن تولانا سعير من اول الخلق/ هل كنا نياما/ ام غافلين.../ لم يبق عندي من تراب اريد ان يتلاشى/ هابطا من اصابعي ..../ البلاد التي نحب انتهت."
في قصيدة "نحتفي بالرماد" صورة اخرى للفجيعة. يقول متسائلا "لم لم يسقط الثلج؟/ كنا على موعد معه منذ عام.../ وكنا نقول: لئن سقط الثلج قمنا لدفن موتى لنا/ فالجنود يكونون قد غادروا نحو ثكناتهم/ والغراب المحوم قد ضاق بالبرد والجوع/ كنا دفنا اولئك في لحمنا/ اين نذهب؟/ لم يسقط الثلج.../ هل ننتظر النار؟ ام نحتفي بالرماد؟"
في قصيدة "مقام المرء" قال الشاعر مختتما القصيدة "... يا مقيما هنا!/ لا سماء يخفق فيها جناحاك."
في "ليس من تلاعب" مرارة كالنار تعلن ما تزعم انه التخلي التام وان الكلمة هي العزاء الاخير بل الخلاص الوحيد المتبقي. ومما قال الشاعر فيها "لمن اكتب الآن؟/ لا شأن لي بالعراق ولا بالعواصم/ لا شأن لي بالصداقات فاترة/ او بالنساء اللواتي تخلين عني/ ولا شأن لي بالبنادق والطائرات المغيرة...
"لمن اكتب الان..؟/ اكتب كي لا اموت وحيدا !"
حياة البرد والضباب وشوقه الى الوطن تنعكس من خلال قصيدة "الشمس التي لا تأتي". يقول بما يشبه بكاء جفت فيه الدموع "في هذا الاحد المشدود الى سفح الجبل اشتقت الى بلدي/ حيث الصيف يطقطق منذ الآن/ وحيث الشمس تسلط بؤرتها حتى في الظل/ النخل بغير ظلال.../ في هذا الاحد الجهم اشتقت الى بلدي/ لكني لم ادرك الا الساعة/ حين مررت بمقبرة القرية../ اني المسكين بلا بلد."
في قصيدة "مطعم شبه امريكي" يقول "بعد الكأس الاولى لنبيذ اسباني مجهول/ بدأت نادية العزف على وتر منفرد:/ ما اجمل ان نسكن في الوطن!/ العائلة/ الشاي صباح العيد/ الفاكهة الاحلى/ طعم الماء/المطر المؤجل/ تلك الحشرات القاتلة.../ حقا قد عدت الى بيتي بالضاحية البيضاء/ ولكن البيت هنا لم يعد البيت../ البيت هناك حيث الاسلاف ينامون ........./ هل تعرف يا سعدي اني في لندن اختنق؟"