رِطلُ تطبيع

2020-09-25

رضا نازه*

جرّ الأستاذ كرسِي الخوص الصغير واقتعده بباب الدكان كعادته حين يأتي من حين لحين يجالس صديقه البقال، في انتظار أذان المغرب. مدّ بصرَه في رواق الدكاكين الممتد المسقوف بخشب عتيق منقوش متآكل وقال بصوت عالٍ:

  • متى تصلحون هذا السقف، يوما ما سَيسقط فوق الرؤوس..

لا جواب، كأن المحلَّ فارغ. نادى مستغربا:

  • السِّي عْرُّوبْ كيف الحال؟ أنت هنا؟ قل لي.. هل قُضيت حاجتك؟

الصمت سِّيد الدكان ما زال، والبقال في ظله يقلِّبُ كفيه الفارغتين وراء المنضدة. بماذا سيجيب. منذ أيام كان قد استشارَ صديقَه الأستاذ في نيته اقتراضَ مبلغٍ كبيرٍ من المال ليجدد دكانه ويوسِّعَه. بعضُهم أشار عليه أن يقصد شمعون الطوبي لأجل ذلك؛ الطوبي مطويٌّ على كنز، وهو يُقرضُ ويُنظِرُ. لكن الأستاذ نهى يومَها صديقه.

. قال له: «الأوْلى أن تُنْظِر أنت َنفسَك وتماطلَ رغبتها وتداريها.. ولا أرى حاجة لتوسعة دكانك الأصيل الجميل.. أنت مستور الحال وتجارتك فيها بركة، وخيرُ الرزقُ أدوَمُه وإنْ قلَّ.. بدل ذلك أرى أن تتفق مع أصحاب الدكاكين لتصلحوا سقفَ الرواق ليعود إلى سابقِ جماله..»، مَن يسمع؟ نزوةُ القرض نشِبتْ في ذهن البقال وانغرزت كصنارة.

شعَرَ الأستاذ بذلك فحكى له قصة تاجر البندقية، حين اقترض مالا من رجلٍ اشترط عليه رطلَ لحمٍ يقتطعُه من جسده إن لم يُسدد في أجله، والحكيم من اعتبر بغيره. لكن ضحكة السِّي عْرُّوبْ الجوفاء قالت كلَّ شيء. سّيلجأ لا محالة إلى الطوبي، رغم النهي والحكي. الرغبة جامحة. لو كانت وسوسةَ شيطانٍ لطردَها التعوذ. الشيطان يخنس، لكنَّ النفسَ لا تخنس حين تحرص وترغَب وتطمع وتبكي بكاءَ الطفل الصغير في جوف الرجل الكبير. طمأنَ عْرُّوبْ يومها صديقه الأستاذ.

في أسوأ الأحوال سِّيستعمل الحيلة نفسها. إن طالبه الطوبي برطل لحمٍ من جسدِه سِّيشترط عليه أن لا يُسِيلَ قطرةَ دم، كما فعل تاجر البندقية.. هيهات يا عْرُّوبْ.. الرجل كان في يومها ضُعف مِن قومه، وهم اليوم مِن العالِينْ عُلوًّا كبيرا.. هيهات! هيهات! رغم ذلك، تبسمَ عْرُّوبْ واثقًا، وتبسم الأستاذ متشككا، وافترقا حين دوى مِدفعُ الإفطار وتلاهُ الأذان..

طرق الأستاذ خشبَ المنضدة مرارا كأنها مسرحية، وكلَّ مرة يزيد طرقة. عادَ وطرَقَ زجاجَ العارضة، والسِّي عْرُّوبْ يأبى الخروج كأنه ممثل فقد ذاكرته. ناداه مرة وأخرى، ثم قام ودخل عليه ليجده في زاوية، مركونا بين أكياس سِلعِه. رفع عْرُّوبْ بصره في الأستاذ وزفر زفرة حارة طويلة كأنه يحمل دَيْنا من الهم لا يجدي في أدائه النقدُ..

  • ماذا دهاك أسِّي عْرُّوبْ؟ ياك لاباس؟

لبث صامتا، يرقب الأستاذ حين خرج وعاد بكرسِّي الخوص. جلسَ قُبالته وألح أن يفضي بذاتِ صدره، والبقالُ لا يزال شاردا كأن صبيَّ ساحرٍ جرّب فيه أول درس. ثم استجمع نفسَه وقال ببحة رجلٍ يحتضر:

«حين افترقنا يومها ترددتُ طولَ الليل وتأرَّقتُ وحِرتُ في أمري، وخشيت مغبة قراري. أذهب. لا أذهب. أذهب. لا أذهب. ولم يسعفني النوم حتى قررتُ أن لا أذهبَ ونمتُ على تلك العزيمة. لكن ما إن حلَّ الغدُ حتى انتقضَتْ فوجدتُ نفسِي ذاهبا أسعى إلى الطوبي وقد دنا الزوال.. آآآه النفس بنت حرام. سمكة مطلية بالصابون».

وطرقَ البقال الباب وفتح الطوبي بنفسه وأدخله البيت. كأنه استرق السمعَ بقدومه فهو ينتظرُه. أجلسَه على التخت، قريبًا من المائدة ورحب به ترحيبا بالغا. رأى عْرُّوبْ حفاوة الطوبي فتشجعَ وفاتَحَه فورا بدون تلعثم. دخلت امرأة تحمل طاجينا. أشار الطوبي إلى البقال أن لا يتحرج من ذهاب المرأة وإيابها لتوضيب وجبة مائدة غذائه.

استفاض البقال في الكلام ثم أتمه ثم سكت ينتظر الكلمة. ظل الطوبي صامتا صمتَ العذراء المخطوبة الراضية، ثم رفع قبعة الطاجين لتفوح منه رائحة تطرَبُ لها نفسُ المُفطر، فكيف بالصائم. مدّ البقال عينَه ليرى الطاجين يتوسطُه رطلٌ من لحم أو يزيد. يبدو لحمَ جَديٍ معطر متبل، وعليه وحواليه برقوق مُعسَّل وجلجلان وخيوط بصل متغنجة.

 في غمرة النظرة الراغبة ناداه الطوبي وعزم عليه أن يمُد يده. رطل اللحم النضيج فوق جَوْعته وحاجتِه وطعام الواحد يكفي الاثنين. تعوذ عْرُّوبْ من الشيطان الرجيم. رمضان هنا ولا رخصة هناك.

 مضى الطوبي يعرض عليه أن يشاركه ويؤاكله، حتى سولت للبقال نفسُه وزيَّنَتْ. هيا.. هيا.. إنها إشارة جيدة، الطعام أولُ العهد وأنتما مُقبلان على التعامل بالمال! المسكين. قاوم ثم قاوم.. ثم عاد التردد يدب إلى نفسه طمعا في أن يقرضه الطوبي إن أكل، وخوفا من أن لا يقرضه إن تمادى في الرفض كأنه يشمئز منه.

 التقط الطوبي ذبذباتِ ترددِ الرجل في نفسه، وضع كسرة الخبز من يده وقرر أن لا يأكل وحده.

 حينها أسرَّ البقالُ لنفسه بما أسرَّتْ له.. «ستُكفـِّرُ عن إفطار يومك هذا حين تأخذ المال، ويتسعُ الدكان وتزكو التجارة وتنمو، وستصوم شهورا متتابعة بدلَ شهرين، وستطعم ستين مسكينا وسبعين مسكينا وثمانين وتسعين. هيا.. هيا .. المال يشتري كل شيء، حتى المغفرة!

«ومددتُ يدي لرطل لحم الجَدْيِ النضيج الشهي.. يا أستاذ!»

ارتاع الأستاذ وفغرَ فاه، بينما أرسل البقالُ زفرةً محمومة محرورة..

  • وبعد؟ ـ وبعد يا أستاذ.. انتهى رطل اللحم اللذيذ وشربنا الشاي.. – والشاي كذلك؟ – آه والشاي كذلك يا أستاذ.. ثم قلت للطوبي مطمئنا «كما ترى السِّي الطوبي، مشاركة الطعام أول العهد بيننا وأكبرُ ضمانة».

افتعل الطوبي المفاجأة حينها والتفت قائلا بصوت أجهرْ: «- عهد؟ ضمانة؟ ماذا تقول أشِّي عْرُّوبْ؟ لا يا شِّي عْرُّوبْ لا.. لم أعدك بشيء أشِّي عْرُّوبْ.. ولكنْ أشِّي عْرُّوبْ.. نْتَ فطرتْ رْمْضَانْ وْخْدْعْتْ رْبِّي، واللي خْدْعْ رْبِّي، سَاهْلَة يْخْدْعْ الطُّوبِي».

قاوم الأستاذ ضحكته كما قاوم البقالُ غواية الإفطار، ثم استسلم لها كما استسلم المسكين، وضحكَ ضحكًا كالبكاء..

 

  • قاص من المغرب

 

 

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي