الثقب الثالث

2020-09-23

أحمد المؤذن* 

احتجبت وراء باب الحمام، لم تخبره عن تقلصات مفاجئة من الوجع تجتاح خاصرتها، كان مشغولًا بهاتفه الجـوال في حجرة النوم. آثرت مواجهة خوفها وهي تلعن وساوس إبليس، من مرآة الحمام عرفت ما يتراكم على وجهها من قلق. هي ليست تلك الفتاة المراهقة التي ترتعب من دم الحيض الأول ولكن هذا اختبار صعب، يمتزج بالألــم وتنتفخ فوق سطحـه فقاقيع الخيبــة، كل فقاعة تنفجر تجر خلفها حلمًا ينتحر!

تقلصات متواصلة من الألــم تجبرها على الجلوس فوق غطاء المرحاض وجسدها يرتعش، عرقًا غزيرًا يتصبب من جبينها، أنفاسها تتسارع راكضـة في هوة الخوف وشيء من الغثيان يداهمـها كيما يكتمل المشهـد. ترفع يديها ضارعة بالدعاء أن تكون هذه الأعراض مجرد مغص معوي عابر.

أحيانًا تضخيم الخوف هو الأسرع فتكًـا من هرولة الموت ذاته، ترتعش يداها في لحظة الدعاء وتستجمع طاقة صمودها، هي تعرف صعوبة الأمر فصارت تردد: يا رب، يا رب، يا رب، هه هه ها ه ه ه ه ه! ثم ها سطح بلاط الحائط يتحول إلى مرآة ضخمـة… صارت تــــرى امرأة تشبهها، تمرجح طفــلًا يأكل الفشار، وهذا آخـر تمسك عربتـه، والثالث نائم في بطنها المنتفخـة بكرم ولطف الله. هذا زوجها تراه قادمًا وهو يبتسم وكل شيء خلفه يحتفل بالاخضرار.

ترجع، ترى البلاط عاد إلى سيرته الأولى… تهبُّ الأوجاع ثانية بإيقاع مندفع الشراسة أكثر من ذي قبل، كتم الألـم ومحاصرته جزء من معادلة الصمت، لا يجب أن يسمعها، فكل هذا مجرد… آه ه ه ه ه ه! مجرد وجعٍ عابر، خمس أو عشر دقائق تنتهي على خير وسلام، ثم تصفو سماء الحياة، ويحلق في زرقتها الحمام. الآن، الآن أخيرًا تهدأ عاصفة خوفها ويعود قلبها إلى نبضه هادئًا وقد انسحب الألـم. هـــو لطف الله سبحانه وتعالى، لا يترك عبده في ضيق، تتنفس بهدوء وسكينة، قد غادرها الجزء الأصعب من هذا الوجع المباغت، عشاء ليلة البارحة وراء هذا التلبك المعوي المزعج لا أكثر.

يا قلب افرح، لا شيء من وساوس إبليس نجحت في اختراق زرقة سماء الحلم الجميل، فيا غيمة الربيع أمطري ماءك، رماد الأوهام المحترقة إلى زوال حيث يبقى الفرح. بهدوء تخرج من الحمام ثم تقرأ بعض السور القرآنية في سرها. جاءت إليه وهو بعد لا يزال منشغلًا في هاتفه الجوال، التفت إليها وتبسم، ثم قرأ ساعة الحائط وقال: «الآن يفترض أن أستعد، سنخرج بعد نصف ساعة وسوف نتأخر، هذه رحلة صيد بحرية وتعرفين الوقت الذي تحتاجه، اذهبي لجارتك أو أهلك».

هزت رأسها عن طيب خاطر، فهي تعودت هكذا مشاوير فجائية يقوم بها، كما تعرف أنه كرجل لا بد له من محيطه الذكوري حيث يرجع إليها وهو مشتعل الشوق والعاطفة. لم يستغرق سوى خمس عشرة دقيقـة كي يجهز نفسه للرحلة، ثم قبلها وأخذ ينظر إليها وهمس في أذنها: «أحــبك».

أرادت قول شيءٍ ما له ولكن صوت بوق سيارة صديقه قطـع عليها، فلوّح لها من على الباب ومضى. صار البيت صامتًا وما يجعله صمتًا كريه الإيقاع في إحساسها، أن الريح تزداد سرعتها وهي تلهو بشجرة الورد في حديقة البيت، ريح تُصدر صفيرًا جنائزيًّا أخذت تتعوذ منه. أحسن شيء تفعله الآن بعض أعمال «الكروشيه» التي تحبها، هذا سوف يطرد هواجسها بلا شك.

لحظات وهي ذي تحرك الإبرتين في تناوب متناسق، يتضح الآن شكل الشال الصوفي الذي سيلتف حول عنق «ماجدة أو محمود» كما سبق واتفقت معـه، المولود القادم الذي… آه ه ه، لذة هذا الحلم القادم كم هي رائعة كلما خطرت على نبض القلب الظمآن. الإبرتان في حركتهما مع الأصابع تنسج جزءًا من سعادة الأيام القادمة كما تراها الآن، تبتسم حيث لا شيء يدعو للقلق، حتى الطبيب حينما تفقد نتائج الفحوصات قال ضاحكًا: «لما يكون الحمل توأم لا تنسون الحلاوة»!

أوه… تعود التقلصات من جديد! بسرعة تركت ما بيدها، تتحسس بطنها وتهجس المزيد من الخوف، تعودته رفيقًا غادرًا يسرق هداياها السماوية الثمينة. فاتصلت من هاتفها الجوال بجارتها سُــهى: ألو، سهى يرحم الله والديك، تعالي البيت بسرعة.

  • الآن الآن دقائق وأكون عندك.

عادت تتحسس خاصرتها وسواد حزنها، ها غيومه تتكثف سريعًا، في هذه الأثناء تدخل جارتها، تحاول فهم الأمر ولكن…

* * *

  • الدنيا تدور في محيط عينين متعبتين، أهي هنا على الأرض أم في كونٍ آخر؟ رؤية الأشياء حولها ضبابية مشوشة وسرعان ما أحست بيد تربت على كفها بحنان، تبينت لاحقًا أنها أمها عندما اتضحت الرؤية، وهذا زوجها وتلك جارتها وهنا أجهزة كثيرة بعضها يُصدرُ طنينًا، محاصرة بكل هذه الأجهزة؟ هــي في المستشفى على أية حال كما توقعت سلفًا، دوامة العذاب يتكرر دورانها الكارثي من جديد، فما من بارقة أمـل ترحم الأرض من جدبها. صوتها يغيب في هذه المحنة، تريد أن تقول شيئًا. تطلب ورقة وقلمًا، دقيقة أو دقيقتين ثم تكتب سؤالها المسكون بالخسارة التي تعـرفها: ماذا لو كان هذا هو الثقب الثالث في صميم قلبها؟ «خسرت جنيني… صح؟!». الوجوه التي أمامها سيطر عليها العبوس والصمت، هذا لا يفاجئها وهي التي تعرف تكرار حكايات الغياب والحنين. هذه المرة حاولت حبس دموعها، ارتعش القلم بين أصابعها لكنها تحلت بالصمود المكابـر وهو يقف مقاومًا الانهيار، كتبت والدمع يبلل لحظة الوجع: «الحــمد للـــه على كل حال»، ثم غابت عن الوعي.

 

  • كاتب بحريني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي