التحولات الصادمة في رواية "دفاتر الورّاق" للأردني جلال برجس

2020-09-19

الرواية رصدت مشكلات ومعاناة الطبقة الفقيرة في المجتمع

موسى إبراهيم أبو رياش*

بروايته الرابعة «دفاتر الورّاق» الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يواصل الشاعر والروائي الأردني جلال برجس مشروعه الروائي، الذي يسير بخطى حثيثة، وتنوع مدهش، ومستوى عالٍ من الإبداع والتميز، والمضمون الثري العميق، وليس من المبالغة القول؛ إنها الرواية الأكثر التصاقا بالهامش وقاع المدينة ونبض الناس.

تتناول الرواية في 366 صفحة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، على مدار أربعة أجيال، خلال سبعين عاما تقريبا، متنقلة في كل من مدينة مادبا وقراها، والعاصمة عمّان، والعقبة وموسكو؛ حيث ابتدأت الحكاية منذ 1947 في إحدى المناطق الرعوية شرق مادبا، حيث الفقر والجوع والجفاف، وتحكم الإقطاعيين، وغياب الحكومة الكلي، يقابله توتر للأوضاع في فلسطين، وما تلاه من ضياعها على دفعتين، وما ترتب على ذلك من سقوط شهداء وموجات هجرة، ومشكلات على كل الصعد. وتتواصل أحداث الرواية حتى سنوات قليلة مضت، وما طرأ على عمّان من تحولات أفقية ورأسية، وتمدد الطبقات الهامشية، التي نهشتها أنياب الجشع والفساد، بالتواطؤ مع الجهات الرسمية، التي مهدت لها السبيل، وذللت لها الصعاب، وأطلقت أيديها تعيث فسادا وافتراسا ووحشية.

الرواية زاخرة بالأحداث، غنية بالتفاصيل، مليئة بالرسائل والترميزات، مثيرة للدهشة، ولكن سأكتفي بإيراد بعض الأفكار والملاحظات العامة؛ حتى لا نحرق الرواية للقارئ، ونفسد عليه متعته، وسبر أغوارها بنفسه.

رصدت الرواية مشكلات ومعاناة الطبقة الفقيرة في المجتمع، التي تعيش على الهامش، تحت رحمة رأس المال المتحالف مع السلطة، كما أنها تناولت فئة اللقطاء، وأبناء الحرام، هذه الفئة المنبوذة اجتماعيا، المهملة رسميا، التي تخرج من دور الأيتام إلى الشارع؛ لتواجه مصيرها ضياعا وتيها وانحرافا لا بد منه، ولعل «دفاتر الورّاق» هي الرواية الأولى أردنيا ـ حسب علمي- التي تناولت هذه الفئة التي تعيش في القاع، بعيدا عن الحياة ومقوماتها الأساسية، مع أنها فئة مظلومة، ضحية، تتحمل ظلما ذنب غيرها، وتُحرم من حقوقها الإنسانية، في العيش بكرامة واستقرار واحترام.

 

الرواية زاخرة بالأحداث، غنية بالتفاصيل، مليئة بالرسائل والترميزات، مثيرة للدهشة، ولكن سأكتفي بإيراد بعض الأفكار والملاحظات العامة؛ حتى لا نحرق الرواية للقارئ، ونفسد عليه متعته، وسبر أغوارها بنفسه.

أبدع برجس في رسم شخصية «إبراهيم» هذه الشخصية التي كانت سجينة أوامر وتعليمات الأب، ومن ثم سجينة الكتب وعوالمها، ويكاد لا يعرف شيئا خارج بيته ومكتبته، وفجأة تحول إلى شخصية، بل إلى شخصيات مختلفة؛ من شخصية خاملة إلى شخصية فاعلة مؤثرة، ومن شخصية مسالمة إلى شخصية قلقة مجرمة، وأصبح حديث الناس والإعلام. فما الذي أدى إلى هذه التغير الصادم؟ أهو الظلم، أم القمع، أم الحرمان، أم القهر، أم الفساد؟ أم غير ذلك، أم كل ذلك؟

كما إن «إبراهيم» الذي أدمن قراءة الروايات، وتميز بقدرته الفائقة على تمثل وتقليد شخوصها بشكل مذهل، وظّف هذه الشخصيات قلبا وقالبا في أفعاله وحركاته ونشاطاته الإجرامية، أو لغايات خداع الناس خلف أقنعتها وملابسها وتصرفاتها؛ فالناظر أو المتابع كان لا يرى «إبراهيم الورّاق» بل كان يرى «أحمد عبدالجواد» أو «دكتور زيفاكو» أو «الأحدب كوازيمودو» وغيرها من الشخصيات الروائية المشهورة، وهذه إضافة إبداعية تُسجل لجلال برجس.

برز صوت التطرف والجهل مؤثرا وفاعلا في هذه الرواية، وأدى إلى نتيجة عكسية وتمرد، بعد أن اختفى أصحابه، وسيبقى التطرف والإقصاء والتعصب عوامل مؤثرة، ما دام الجهل موجودا، والوعي غائبا أو مغيبا، والنعرات المختلفة تغذيها أيدٍ خفية، في غياب واضح للحريات، واستشراء الظلم والفساد، وتواري صوت العقل والحكمة، واختفاء ثقافة التسامح وتقبل الآخر.

 

موضوع يهمك:"سيدة أيلول" رواية المرأة والحرب والخسارات

 

أظهرت الرواية تعطش الناس البسطاء إلى بطل شعبي يمثلهم، ويرون فيه المنقذ، أو المنتقم الذي يشفي غليلهم من الطبقة المخملية، ومن الفاسدين ومن الجشعين، حتى ولو كان بطرق غير قانونية، المهم أن يكون في صفهم، وضد من يمتطون ظهورهم؛ لأنهم يشعرون بأنه يقتص لهم، ويذيق هؤلاء ما يستحقون. وربما جاء تعطش الناس للبطل الشعبي لافتقادهم لأي مظهر للبطولة في حياتهم، فلا يرون إلا اللصوص والظلمة ومصاصي الدماء، وقناصي الفرص، ولذا فأي بطل يخرجهم من حالة اليأس والظلام والتهميش، فهو بطل عظيم، ورمز كبير، ولذا كان لهم «إبراهيم» «روبن هود» البطل الخارق، الذي أصبح حديث الناس والمجالس والصحف والمحطات الفضائية، وقد وظفت الرواية حوادث سرقة البنوك، التي بدأت قبل سنوات قليلة في الأردن، ولم تكن معروفة من قبل، ما أشعر الناس بالفرح والتشفي؛ لأن معظم المواطنين مدينون للبنوك، وتقبض على رقابهم وتقض مضاجعهم وتقلق حياتهم.

ككل روايات جلال برجس السابقة، برز المكان جليا واضحا في هذه الرواية، ليس كفضاء للأحداث وحسب، بل باعتباره شخصية مؤثرة وفاعلة أيضا، ودلالاته الرمزية، فمن «حنينا» إحدى ضواحي مادبا، وبيت «الشموسي» الذي أوشك أن يفقده، إلى بيت «إبراهيم» في جبل الجوفة، ووسط البلد، وكشك الورّاق، وجبل اللويبدة، والمطعم، وجسر عبدون وجبل عمّان، والبيت المهجور وغيرها، كلها أماكن حية متحركة كان لها دورها المهم في الرواية، وهنا تظهر حنكة الكاتب؛ إذ أن أي حذف لأي منها يخلق فجوة واضحة في بنية الرواية وتدفق السرد.

حضور المرأة كان بارزا ومتوازنا في هذه الرواية، خاصة من خلال شخصيتي «ليلى» و«ناردا» اللتين لعبتا دورا كبيرا ومفصليا في الأحداث، وكان لهما الفضل في إضاءة جوانب مجهولة، أو مخفية، أو هامشية في المجتمع، وتفاعل هاتين الشخصيتين مع «إبراهيم» رفع من وتيرة الأحداث وحرارتها وتسارعها وتشابكها وتأزمها وتعقيدها، ما أكسب الرواية دفعة قوية من الإثارة والتشويق والمتعة والترقب والمفارقة.

كان لافتا في الرواية موضوع الانتحار والرغبة فيه، فكما أن القشة تقصم ظهر البعير، فإن اللمسة الرقيقة أو النسمة اللطيفة، أو الابتسامة الصافية قد تكون قشة الغريق؛ تغير المصائر، وتعيد للنفس رغبتها في الحياة ومقارعة الصعاب، وإعادة النظر في ما مضى، والأمل في المستقبل، ومع أن الانتحار لا يشكل ظاهرة مجتمعية في الأردن، لكنه يوشك أن يكون؛ إن استمرت الأوضاع كما هي عليه، ولا مبشرات في الأفق.

في العمل الروائي الممتد زمنيا، من الطبيعي أن تنمو الشخصيات وتتطور وتتغير، وفق سياقات وظروف مؤثرة، ولكن في هذه الرواية، لوحظ تحول كثير من الشخصيات من النقيض إلى النقيض، بعد تعرضها لصدمات أو ضغوطات أو زوال أسباب محددة، ومن أبرز المتحولين، كان «إبراهيم الورّاق» كما أسلفنا سابقا، ومن قبله والده «جادالله» الذي تحول بعد سجنه إلى شخصية منطوية مرعوبة متكتمة، بعد أن كان منطلقا نشيطا، وكذلك «ناردا» التي غيرت اسمها بعد وفاة أفراد أسرتها، وانطلقت متحررة وغيرت مكان سكنها، ولم تنجُ «ماجدة» و «أسماء» فتحولتا إلى الدعارة تحت ضغط الظروف وقسوتها، وتتبع بقية شخوص الرواية، يؤكد أن معظمها تحولت وتغيرت بدرجة كبيرة.

 

موضوع يهمك:"نقد الذات": منتظري يحاكم التجربة الإيرانية

 

هذه التحولات الصادمة السلبية في معظمها، هي جرس إنذار بأن الأوضاع المعيشية أصبحت لا تطاق، وظروف الحياة صعبة للغاية، والظلم يتفاقم، والفساد يتمدد، وأن كل مواطن مهمش هو قنبلة موقوتة برسم التفجير في أي لحظة، فهو لن يستطيع الصبر والتحمل إلى الأبد.

وبعد، فإن رواية «دفاتر الورّاق» إضافة نوعية لتجربة جلال برجس الروائية والإبداعية، وللرواية الأردنية والعربية بشكل عام. ومن المؤكد أنها ستثير شهية النقاد والدارسين، ومن قبل القراء؛ لما أثارته من موضوعات شائكة، وأسئلة عاصفة، وأفكار لافتة، وكل ذلك بلغة شعرية جميلة، وسرد ممتع متدفق، وقدرة على الإدهاش، وتعدد مستويات القراءة، خاصة أن القارئ سيشعر بأنه قريب من بعض شخوصها، خاصة «إبراهيم الورّاق» صاحب أحد أكشاك الكتب، أهم المعالم البارزة في وسط البلد في عمّان.

 

  • كاتب أردني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي