
أربع خصائص تحفز على مقاربة والاهتمام بهذه الرواية العربية الأصيلة المولودة في اليمن السعيد، كما يسميه أهلوه: 'طعم أسود.. رائحة سوداء'* لمؤلفها علي المقري:
ـ أولها، واقعيتها الحادة، فهي خارجة من فرن محميّ، مما يربطها بأول تصور لفن القص.
ـ ثانيها، تنازعها بين الواقع الذي تنتمي إليه بشرعية كاملة، والعجيب الذي تسبح فيه، وهي تمتح من منهل بيئة ذات طبيعة أسطورية، وُتجلي ملامح لثقافة أنتروبولوجية.
ـ ثالثها، اتكاؤها المتين على سنادات تاريخية حية من صميم الواقع اليماني، ما يربط في العمل الماضي إلى الحاضر، ويصنع الدينامية التي يحتاج إليها أي عمل درامي أصيل.
ـ رابعها، وهذه هي الخاصية الأهم في نظرنا، كونها تجمع في تركيب محكم ومتناغم بين العنصرالخبري، والمادة الشفوية، المخصوصتين بالقص التقليدي التراثي، وبين السرد الحديث، المندرج في فن التخييل الذي أخذه الأدب العربي عن الثقافة الأدبية الغربية.
ـ خامسها، منبثقة من الخاصية السابقة، مناطها تعدد اللغات (البوليفونية) حسب المصطلح الباختيني، تنجم عن تنوع المحيط والثقافة وشخصيات العالم الروائي، نمطية وخصوصية معا.
قبل أن نفصل القول في هذه الخصائص مفردة، ثم مجتمعة، لتوطيد الدلالات الكبرى للعمل، نحتاج إلى تقديمه على الوجه الذي يسمح للقارئ، من لم يطلع عليه، للتعرف على المادة الحكائية، على الأقل في خيوطها ومفاصلها البارزة المكونة للجسم السردي العام، داخله تتحرك وتتوالد الوحدات الحكائية الصغرى، وهذه يصعب تلخيصها لتمثيليتها المجازية الناهضة على مزيج من فعل بشري وموروث خرافي في جمع حميم، هو نواة الرواية وذروتها في آن. لنعتبر النواة هم القطاع البشري، أو الفئة الاجتماعية التي اختار علي المقري أن يتخذها شخصية مركزية لمحكيه، ويولي وضعها، وهو يقدمها في كامل التجسيد الحيوي مناط دور البطولة، محققا بذلك مفارقة جذابة وموطن الطرافة الأولى للعمل، بما أنها فئة هامشية، مقصية من المجتمع حد النبذ بجميع تمظهراته ودلالاته، ومسهما في الآن في تحوير موقع البطولة الذي كانت تحظى به الشخصيات والفئات المحظوظة، تحتكر وحدها صدارة التمثيل الاجتماعي، وعبر مصائرها يتحدد سلم القيم، وتتبلور رؤية العالم الفعلية والممكنة.
يروي السارد في'طعم أسود، رائحة سوداء' قصة جماعة يطلق عليها تارة 'المزينون' وتارة أخرى'الأخدام'، طبقة وضيعة جدا، شديدة التدني في السلم الاجتماعي'المزينين ناقصين على جميع الخلق'(ص14) إلى درجة وصفها بالنجاسة، وتحريم أي تعامل معها، تحت طائلة التعرض لأهوال خطيرة، منها أن يتحول المرء إلى دودة على غرار ما تحكي الخرافة المستثمرة في مدخل العمل'الملك شمسان أحب ابنة المزين مرجان فتزوجها. وفي صباح اليوم الثاني وجدوه تحول إلى دودة'(13)؛'لأنه جامعها.هي ناقصة. ما تساويش مقامه'(14) وعدا هذه الإشارات المقتضبة عن هؤلاء القوم، يؤجل الكاتب مسألة التعريف بهم من ناحية الأصول إلى نهاية العمل، مؤثرا على ذلك، وهو نهج محمود، وصف حياتهم، وتقديمهم وهم في حالة فعل، في صور وعلاقات تكشف عن أسلوب حياة ووضعية مفارقة.
بهذا التبعيد ضمن إمكانية التعريف بأبطال قصته، والتشويق بمتابعته حياتهم الخصوصية جدا، هي المتميزة قياسا بغيرها السائد والمألوف، سواء في المدن الحديثة، أو الطبقات الاجتماعية التي تحظى بالشرعية القانونية، في ما يتصل بشأن حقوق المواطنة في مجتمع حديث. فمن هم'الأخدام' لكي يساموا خسف النقصان، ويحرموا من أي حق، ولكي يستحقوا الأهم، أي حظوة البطولة الروائية لدى كاتب أحس من صلتي الأولى به أنه سيمضي بعيدا؟
ـ 'فمن قائل إن أصولهم إفريقية، وإنهم جاؤوا إلى اليمن مع مجيء الأحباش الإثيوبيين لليمن عام 525م، وقائل بأن أصولهم يمنية، وأنهم يعتبرون من أحفاد الحميريين القدماء'(80(
ـ'هناك رأيان، الأول يقول إن الأخدام هم أسرى الحرب الذين استولى عليهم جيش الملك سيف بن ذي يزن بعد انتهاء الاحتلال الحبشي الثاني لليمن من 525 إلى 574م، وتم تحويلهم إلى عبيد. أما الرأي الثاني فيرى أن فئة الأخدام تكونت من بقايا الحبشة، الذين كانت دولة آل زياد في القرن التاسع عشر، في زبيد، تشتري معظمهم كعبيد، وتعتمد عليهم في العمل بفلاحة الأرض، وفي الجيش والإدارة..'(81(.
ـ وقد ذُكر عن سبب بلائهم قََسَمٌ لقائد يدعى علي بن مهدي الرعيني، متعصب للعنصر العربي ضد الحبشة وأبنائها هدد في قسم له شهير'لأخدِمنّكم بنات الحبشة وأخواتهم، ولأخولنّكم أموالهم وأولادهم'(82(.
ـ'صار[القسم] كاللعنة التي أصابت هؤلاء، منذ تأسست الدولة المهدية في يوم الجمعة الرابع عشر من رجب سنة أربع وخمسين وخمسمائة للهجرة، فقامت بإخضاعهم بالعنف، واتخاذهم خداما يقومون بأداء المهن المحتقرة، وتشريدهم إلى أماكن قذرة، لا يستطيعون الخروج منها بسبب حصار المجتمع لهم، ونبذهم بعيدا عنه، إلى خارج المدن والقرى، منذ ذلك الحين حتى الآن'(م.س(.
هذا التعريف المتأخر، وكان أحرى لو جاء متخللا نسيج المحكي، أو حاشية عليه، عوض عرضه كإضاءة تاريخية. غير أن ما يشفع النزعة التأريخية، والتوثيقية البينة، الحاجة الماسة لمعرفة الأصول بالنسبة لقارئ خارج البيئة المرصودة، ولكونها تأتي في النهاية سندا لا قاعدة بالضرورة لقوم الأخدام هؤلاء. معرفتهم الحقيقية تتأتى روائيا، أي وهم شخوص يحيون في بيئة محددة، مميزين معيشا وثقافة ومصيرا، في وضع الاختلاف الجذري مع المجتمع المركزي الذي يعتبرون هامشا له، إنهم كالبثور فوق الجلد، مقصيون لكن دون انفصال كلي، فالعزلة القصوى لا تصلح مادة للرواية، لأنها تحتاج إلى الصراع، إلى مواجهات وتوتر بين قوتين غير متكافئتين، مما يحدث الغبن النفسي، والضيم الاجتماعي، ويحرض بالتالي على انفجار قوة خفية ثالثة بين الاثنتين تكون غيرمتوقعة، تبدو الرواية، الحكاية إن شئنا مضمارها الأمثل، وكذلك كان. هذا ما تخبرنا به عندما تسرد علينا العلاقة الجنسية التي حدثت بين جمالة، الخدمية، والفتى (بطل القصة المرتقب)، وهي طبعا محرمة لأن الأخير ينتمي إلى مجتمع البيض، وسينجم عنها حمل، وتعتبر المرأة زانية، ويجوز عليها الحد، وهو ما ستنال بقتلها، دون أن يلحق الفتى عقاب، ما نتعرف عليه من خلال جدل فقهي سائد في هذا الوسط.
كان الفتى قادرا أن يمنع العقاب لو تدخل'كان بالإمكان إنقاذ جمالة من القتل' تقول له أختها الدوغلو (لنلاحظ غرابة الأسماء، كجزء من الاختلاف عن المحيط). سيظهر هذا التنبيه المتأخر بمثابة تحريض يفتح القمقم السحري، ويقذف بالفتى والدوغلو إلى المغامرة التي سترسم عالم الأخدام ونمط حياتهم، عبر صراع الأضداد والتمرد الذي سيخوضه الفتى بإقدامه مجددا على مجامعة أنثى من خارج طبقته، وأخطر منه انسلاخه عن بني جلدته، وذوبانه في الفئة المنبوذة، وليس أفضل من هذا الذوبان طريقة للتعرف عليها من الداخل، صنيع من يتسلل داخل جماعة أو عصابة متخفيا لينجز تحرياته الضرورية. غني عن الذكر أننا مع فتى يماني عربي، يرتبط بجارية أو أمة، وهما مارسا الحرام، وارتكبت هي خطيئة أختها، لكنها مهدت لنجاتها بالحل الذي سبق لأختها أن أعلنته، ويرد على لسانها من باب الإيحاء له ليفعل غدا لو تم لهما الوصال الكامل:'جمالة قالت إشهرب معك.هم جاؤوا بسرعة. أنت تأخرت' (26). وسيهربان، وقد تخلى عن أهله، وانفصل عن محتده، طلبا لمنجاتها ومن ثم يبدآن رحلة المغامرة، وهي رحلة الحكاية، بتكونها، ومخاطرها، وأجمل كثافة وغرابة ما ستكشف عنه، هي غرابة والخصوصية المثيرة لمجتمع الأخدام، أبطال القصة، وكله باختزال خبير، وعبر صور مثيرة، وحوارات عامية معبرة، وبلاغتها لا تعوض شأن أناقة تعبيرها، ورشاقة تكوينها ، مشذبة لا مزيد فيها لحشو أو ما ليس وظيفيا يغني الحكاية ويقوي عَضُدَها.
تعتمد قصة علي المقري أساسا المادة الوصفية، وتجعل من الوصف أداتها المثلى، ومن التمثيل مهمازا سواء لرسم الشخصية، أو إيجاد الفعل، تستخدم صيغ المضارع التي تفيد حدوث الشيء وهو يحدث، حاضره ومستقبله يتوحدان، ويتجسد الكل أمام البـصر، وتصعد الرائحة معه مباشرة إلى الأنف تضوع أو تزكم على الأغلب. التاريخ يسجل ويروي، والوثيقة تضبط وتدون، وفي الحالتين ثمة تقريض أو لمز وغمز، بمعنى آخر حكم قيمة، أما الرواية فشأنها التمثيل والوصف واعتلاء الواقع على صهوة التخييل لتهجس دائما بالمحتمل، والحكاية من قبيلها، وألطف لأنها بطبيعتها تشبك الواقعي بالخيالي، والناس يميلون إليها لطبيعتها الاستهوائية التي تغير حرفية حياتهم، تنقل السامع أو القارئ، فكيف إذا تمثلت في صيغة العجيب. الأخدام في الرواية بشر من لحم وعظم ورائحة وعطانة يعيشون في منطقة اسمها 'محوى زين'، أطفالهم أبرياء ينطقون ويتغنون بالكلام الحاف كأنه النشيد الوطني.
في الرواية لوحات مكثفة ومعبرة عن نوع ومحتوى معيش فئة الأخدام، نساء ورجالا، وموقعهم في السلم الاجتماعي، لاـ موقعهم بالأحرى، وحالة النبذ الكلية التي تجعل منهم نجسين، تختصرها عبارات حكم سائدة ضدهم:'الخادم أنجس من اليهودي؛ ' اغسل بعد الكلب واكسر بعد الخادم'؛ 'لا يغرنك حسن الأخدام/ النجاسة بالعظام'(88). إلا واحد من أهل الدار، زعيم كبير من سياسيي الجنوب، سالم الرّبيّع، وحده رفع راية الدفاع عنهم لتحريرهم، لذلك أقام سكان محوى زين مأتما عظيما حزنا على مقتله، هم الذين ناصروه
وكان مدخلهم الأول إلى السياسة والمطالبة بالحقوق المغصوبة، ومعه رددوا شعار:' سالمين قُدّام قُدّام/ سالمين ما احناش أخدام'، وهو ما يعلنه سرور بهذا المطلب:'نشتي من يحترمنا كما نحن. يحترم ثقافتنا. يحترم لوننا. طعمنا الأسود. رائحتنا السوداء'(88). أي ما أرادته عيشة لنفسها وأهلها، وبهجة المناضلة، والدغلو، وأمبو الذي انسلخ عن أهله البيض من أجل حبه، وسرور الذي ظل يقذف حمم غضبه إلى النهاية، وحتى الفقهاء الذين يستغلون البؤس لنشر الدعوة. ولم يكن بد أمام علي المقري ليجنب قصته من مغبة التصنيف كلوحة أو بانوراما فولكلورية، ذات نكهة ابتئاسية، ومسحة عجائبية، من أن يخرجها من رحم الوصف الستاتيكي، المنسحب إلى الماضي كزمنية غابرة، بدثارأسطوري، منسجم مع النزعة الحكائية، بكل تأكيد، إلا أن يدفع الحدث، بل أن يصنع ، يجعل من قضية الفئة المرصودة حدثا آخر حيا في الواقع الاجتماعي والمناخ السياسي، هو ما يحدد وعي المجتمع بطبيعة الأزمة، ورؤية العالم لدى الكاتب في آن واحد. فها هو محوى زين، الهامش على مدينة تعز، مهدد بالاقتلاع أكثر من هامشيته، بسبب الأطماع حول الأرض التي يشغلها، والمضاربات العقارية التي يشترك فيها الملاك والدولة والسلطة التي ترى في إقامات الأخدام أوكارا ومخابئ للمعادين والمتمردين، بينما يقتنع ساكنوها أنها أضحت مأوى للملاريا والبلهارسيا. وإذ ينهي المقري قصته بخاتمة تفاؤلية تبشر بنوع من التحول في مجتمع البيض تجاه هؤلاء المنبوذين، ممثلة في الدكتور الحكيمي الذي سيقع في غرام الممرضة الخدمية ويتزوجها محدثا ما يشبه ثورة ثقافية هي نفسها ما يتعطش له سرور، الذي بات يدعو بسخرية مرة إلى تحنيط نموذج للأخدام قبل أن يتحولوا عنده ' إلى حشرات، صراصير، أو فئران، إلى أي شيء؛ أفضل لهم من أن يتكيفوا ويعاد تشكيلهم، ليصبحوا كمثل هؤلاء، الذين لم يقبلوا بهم في يوم من الأيام.'(118)؛ تبقى الروايةـ الحكاية مفتوحة في الأخير على نهاية الأسى والالتياع من قبل رفيق الدغلو، الفتى الأبيض سابقا، الذي يتساءل إلى أي عالم ينتمي منذ الآن والعالم الذي انتقل إليه، وقبله رغم تعاسته ستنهبه الجرافات، سيمحو من الأرض شيئا اسمه محوى زين، وليصدر عنه كبوْح جاهش ومستنكرالسؤال الجوهري للرؤية المأوساوية: 'هل يمكن أن نصبح، هكذا. لا شيء. أتساءل من نحن؟'(119)
بإمكاننا الآن أن نستعيد ما اعتبرناه خصائص مائزة لهذا العمل، وتحديدا لخاصيتين كبريين فيه هما ما يرشحانه في نظرنا للوقوع في منزلة متقدمة ومتميزة، أحسب في النتاج السردي العربي عامة، لا اليماني الذي نلاحظ أنه بات يسهم فيه تدريجيا بحظ كيفي لافت، رغم أنه محدود الانتشار، من أسف، وليس محط 'تزمير'و'تطبيل'شأن أدب بلدان ذات شطارة ترويجية وشوفينية بلا نظير:
ـ الأولى، تتجلى في التفاعل الحي بين الواقعي والعجيب، بين المادة الحية منبثقة من المحيط الموّار، ذي القسمات الاجتماعية والسياسية والفردية لمجتمع قابل لأن يصبح ويتنمذج روائيا، وبين ما يوفر رؤية سحرية هي جزء من رصيد هذا المجتمع الثقافي، وتمثيل سخي لمخيال شعب وأرض، متجذر حضاريا، وراسخ تاريخيا، وقيمة هذه الرؤيا أنها غير مسقطة، ولا مندسة قسرا، بل تسري في اليومي والذهني والخيالي سريان الهواء في الشهيق والزفير، وصورة الخارج الموسوم موضوعيا تضحل بدونها، وهو ما يجعل التخييل السردي هنا من عائلة التخييل الكبير لعائلة أدب أمريكا اللاتينية الذي يحتفي به العالم كله منذ ستينات القرن الماضي، المشتهر اصطلاحا بالواقعية السحرية، وإن كان أغنى من هذا بكثير في تنوعه.
ـ الثانية، ترشحها الخاصية السابقة، وترهص بها. ذلك أن عنصر التكوين الواقعي للعمل السردي الذي نحن بصدده هو ما يمثل قطبه، وشرعيته الروائية، لو صح التعبير، فلا رواية من دونه وإن لم تُطوّع كما هو بادٍ هنا أدواتها ومراميها رصدت بطولة جديدة ومفارقة بحدة، بتحويلها المركز إلى هامش، وتشخيص الهامش في أعلى وأقوى مظاهر تنافره وتقززه كجمالية، ضاربة في العمق سذاجة التوصيفات الروائية، ذات الملامح المدينية الهشة والملفقة، ومستخلصة من الواقع المادة الأكثر ملاءمة وانسجاما مع جنس أدبي ما انفك يتطور وتغتني أشكاله التعبيرية والنوعية كلما اتفقت لها الرؤية الموضوعية الناضجة، واليد الصناع، والاندراج، بكل تأكيد، في سياق ذائقة ونسق تلق، يجدان، ولا شك، مصدرهما في بيئتهما، وما يلبثان أن يتفوقا على محدوديتها، أو محليتها، وهما ينقلانها إلى صعيد التعبير الإنساني الأعلى.
هذا بالذات الذي تتيحه المادة الخبرية، وطرائق توصيلها وحواريتها وغنائيتها، وتلويناتها الخرافية، كنتاج ميتاـ واقعي بينما هو من صميمه. إننا نرى قارئ 'طعم أسود..رائحة سوداء' مزدوجا ومفردا في آن، إن شئنا منصهرا في وضع قارئ مركب من قارئ القصة الحديثة، وهي كلاسيكية اليوم، طبعا، والأخرى المسماة حكاية في تراث جميع الشعوب، وتحتفي بتلك العناصر المتآلفة التي صنفها فلاديمير بروب في كتابه الجامع والرائد 'مورفولوجيا الحكاية'.
وإذا كان مألوفا القول بأن الحكاية شكل تعبيري لبنية تقليدية، بدئية، وهي عموما من الموروث الشفاهي في ثقافات عديدة، وصورة إناسية بامتياز، قبل أن يكون أو يتخذ أحيانا صفة قول أدبي، فبالوسع تطوير الحكاية لا كمتن مكتوب، فحسب، بل وجعلها بمثابة قاعدة سردية ترسو فوقها أسس روائية، ما من شأنه أن يفضي إلى نص سردي يصنع من قدرات النوعين، وبتفاعل بينهما، ولنفرض أن الأمر سيؤدي إلى ضرب من التهجين، فإن الأنواع الأدبية والأشكال الفنية الوليدة ، والمتأتية عن سابقة لها تنجبها دائما هجنة خلاقة. إنه خلافا لما يزعمه حداثيون قصيرو النظر، محدودو الثقافة، لم لا، لا توجد أبدا قطائع حاسمة أو نهائية بين الأنواع/ الأشكال الموروثة، بل انتقالات إما متوترة أو سلسة، وفي الحالين ثابتة ورأينا أن هذه الرواية، وهي لا تعدم نظيرا أو ما يتطلع لطموحها، يمكن أن تمثل نموذجا لطيفا لنهج ورؤية وجمالية مختلفة في الرواية العربية، ترضي تطلعات كتابة ونقد ما انفكا منذ وقت يدعوان إلى خصوصية أدبينا السردي، ويلحان على إسهامه في عالمية الرواية.
' كاتب من المغرب
ـ دار الساقي، بيروت، 2008