نهار مجنون

2020-09-11

شادية الاتاسي

مثل كل صباح

استيقظت مبكرة، بدأ النهار

وضعت ركوة القهوة على النار، أعدت فنجانين تعلم مسبقا، أنها لن تشرب أحدهما، توقفت عن هذه العادة منذ زمن. أعطت لزوجها المسترخي على الأريكة، يسمع أخبار الصباح، الفنجان الآخر. غمغم وهو يتناول قهوته وينظر إليها، نظرته الغائمة التي لا يراها بها.. «أخبار بائسة وقهوة باردة».

تظاهرت أنها لم تسمع ما قاله، لم تغضب، فقط فكرت بحياد تام، ما الذي يجبرها على قبول هذه الحياة؟ همست لنفسها: أن أفقد غضبي، يعني أنني انكسرت، وأغلقت إلى الأبد المسافة التي قطعتها عبر الزمن لأعود إلى ما كنته يوما. أضافت في حزن بزغ للتو، ما لبث أن انطفأ، ما أصعبه من فقد.

أسرعت إلى المطبخ، أخرجت كيس الخضار الذي قطعته في المساء، من البراد، وضعت قليلا من اللحم والبصل في الطنجرة، أهالت الخضار المقطعة فوقها، أضافت القليل من الماء أحكمت الغطاء، وخففت النار. أعدت الجبنة واللبنة والزعتر لفطور الصباح، لم تنس الشاي. هيأت سندويتشات الأولاد، وضعتها في أكياس نظيفة، وبين هذا وذاك كانت ترتب ما تناثر، من فوضى المساء، وتعيده إلى مكانه، ومع كل حركة تفتح النافذة، لتتأكد ما إذا كان ثمة قصف هناك، ومن أي جهة يأتي. مع أنها تعرف أنه قد يأتي من أي جهة وعلى حين غرة.

غسلت وجهها ويديها، سرّحت شعرها، التقت لبرهة بعينيها في المرآة، بوجه مُطفأ وعينين غائمتين، لم يعد هذا مهما. كان الوقت هو ما يهمها الآن، الوقت الذي يسمح لها، أن تجهز نفسها وطفليها للخروج. تضع ابنتها في المدرسة، والصبي في عهدة الأم، لتصل إلى عملها في الوقت المحدد. تناهى لها صوت زوجها، الذي أصبح بلا عمل، يتساءل ساخرا، وهو ما يزال في مكانه مسترخيا، تحت شمس الصباح الخجولة:

«قهوة باردة، وزوجة باردة، قرف كله قرف».

حملت الصبي، وأمسكت بيد البنت، فتحت الباب وانطلقت في طريقها هائمة. لم يفلح الهواء الطري، ولا انبثاق النهار الجميل، في تهدئة أفكارها.

عبرت الشارع المزدحم، الصباح محمل بالقلق، الفوضى مجنونة، رائحة الحرب تجثو على رئة المدينة، الزمان والمكان يتشظى بمشهد الموت اليومي. الخوف سؤال على وجه الجميع. تغيرت الأمور، فقدت الحياة طبيعتها، ثمة وجوه غاضبة تعبر من هناك، تريد شيئا مختلفا عن عذوبة الحياة ورخاوتها.

حتمية الأمور تقول، التغيير مقبل لا محالة. وصلت متأخرة، انتظرت بقلق دخول ابنتها مع المشرفة، تفرست بلهفة في الوجوه من حولها، زاغت عيناها، خيل إليها للحظة، أن هناك عيونا تراقبها، وربما أحدا ما، ينتظر ذهابها لينقض ويختطف ابنتها. حوادث الخطف الأخيرة، أثارت رعب الجميع، والخوف أصبح رفيقا ثقيلا، يلتهم طمأنينة أصبحت بعيدة المنال.

أسرعت وهي تكاد تجري إلى بيت والدتها، أعطتها الصبي وهي تكاد لا تجمع أنفاسها، بدون أن تتفوه بكلمة، مضت مسرعة، متجاهلة نظرات الأم القلقة وتوصياتها اليومية: «انتبهي، ابنتي الله يرضى عليك، إلى كل ما حولك، لا تتكلمي مع أحد، لا تجادلي أحدا خاصة عند الحواجز». ودت للحظات أن تتريث، أن تضع رأسها على كتف أمها، وتبكي طويلا، ولكنها لم تفعل. أشارت إلى الحافلة المقبلة، وصعدت إليها.

وضعت نفسها على أول مقعد في الحافلة، وهي تجفف عرقها وتسترجع أنفاسها وترتب ثيابها. كانت الحافلة العجوز تئن تحت وطأة الزحام كالعادة، وجوه متعبة قلقة، غاضبة، لامبالية. روائح خليط، من بقايا مطبخ وعرق وعطر رخيص. ومع ذلك بدأ نسيم الصباح العاري المتسرب برخاوة من الشباك المفتوح، وصوت فيروز الصباحي يهدهد بعضا من تعبها، استرخت قليلا، مشوار الحافلة الذي أصبح يستغرق أكثر من الساعة يوميا إلى عملها بسبب الحواجز العديدة، التي تقطع المدينة، كان هو الوقت الأجمل في يومها الدائم المتعب. رغم الزحام والغضب، والضجيج، وجو الحرب الكئيب، والروائح الكريهة والوجوه المتعبة، إلا أنها اعتادت أن تجعل منه وقتها هي، مساحتها البخيلة من الزمن لتكون هي، تترك لإرادتها أن تستجيب لإغواء هذا الوقت المستقطع، تذهب معه حيث يشاء، تترك لروحها المتعبة العنان،

إلى حيث يتقاطع وجع القلب مع طقوس أغنية مجروحة بالحنين، في حافلة صغيرة محشورة بالبؤس والاستسلام، تنساب دموعها بدون قيد، فتستعذب ملوحتها وتلامس قلبها، تستعير حياة وأحداثا افتراضية تعلم إنها ليست لها، ولكنها تعلم أنها تشبهها، وتريدها.

اجتاحها صوت فيروز من الأعماق، كانت أغنية حب، في هذا الصباح المحمل بصوت الحرب والقلق والخوف، وفي هذه الحافلة الفقيرة المكتظة، ولكنها كانت كافية لإيواء أحلام يقظة، ومشاريع مؤجلة، وسط أناس غير مكترثين، إلى أين يذهبون.

ابتسمت في سخرية، وهل هذا وقت الحب؟ ومع ذلك وجدت نفسها تبتسم، هي أيضا أحبت، أحبت ذات يوم.. وابتسمت بمرارة لصورة زوجها المقطب. لم يكن وقتها مقطبا، ولم يكن غاضبا، كان الحب، الورطة الجميلة، المتاهة الغامضة التي يتداخل فيها الواقع بالدهشة، بفك الألغاز، بأشياء كثيرة معقدة.

لم يكونا قد انكسرا بعد.. ما أكثر ما تغير كل شيء.. ما أكثر ما غيرتهم الحياة، عندما أدركوا أن هناك الكثير من القهر، الكثير من الألم، سرق منهم زهوة الفرح والحلم

لم يصمدا، غادرهما الحب، لم يطل الإقامة،

وكيف لها أن تنسى، وتلك التفاصيل الصغيرة تتمطى في دهاليز الذاكرة، تتشربك بها كلما حاولت أن تدير ظهرها لذكريات تتعربش بتأن على جدار القلب والروح، وتأبى أن تبرحه. أرادت يوما أن يكون لها مجازها الواسع من الحياة، أرادته مريحا مضيئا. فيض طافح بالحماس كان يرتعش في قلبها، كانت تنتمي بقوة للحياة، يداهمها الذعر أن لا تكون في قلبها، ألا تمنح مكانا بأبعاد كاملة بما يكفي، لم يكن لها ما أرادته، ما أكثر ما تغير كل شيء.

وصلت متأخرة كما في كل مرة إلى عملها، واجهها مديرها بعينين جاحظتين، ووجه مكفهر، وبخها علنا أمام الجميع، عاقبها واقتطع من راتبها الضئيل أصلا، حاولت أن تشرح له، البيت والمدرسة، والمواصلات والحواجز، لكنه شأنه شأن الجميع لا يريد أن يسمع أو يفهم، لم يكتف، بل وجه لها إنذارا بالفصل، كانت تعيسة، تعيسة جدا، إلى حد وجدت نفسها تقول له باستهتار:

أنت جبان.. أعماه الغضب، لم يدعها تكمل، أشار إليها بإصبعه، ونبس باحتقار:

أنت مطرودة، حريق اشتعل في دمها، غضب قديم استيقظ داخلها، لا حدود تؤطره ولا مسافات، أوجعتها حنجرتها، غشت الدموع بصرها، من دون مقدمات، ولا سابق تصميم، رغبة جامحة تلبستها، بدأت تصرخ وتصرخ، تدفق الكلام حارا، من نبع فاض مخزونه ففاض، لم تعرف ما قالته، قالت أشياء كثيرة مخيفة، سبّت وشتمت وأوغلت، لم تغفل أحدا، ولم تترك شاردة ولا واردة.

وفي هذه اللحظات، لم يكن صوتها المبحوح من هزّ، ولعلع صداه في فضاء المبنى الكبير، كان وحشها الصغير، تمردها القديم قد استيقظ. واجهتها وجوه الزملاء المندهشة، ووجه المدير المذعور.

لم تكف، أصابها مس من الجنون، اقتادتها أيد إلى تحقيق مؤلم وسريع، ثم أُطلق سراحها بداعي الجنون. في المساء، حين خيمت العتمة، وضعت رأسها على الوسادة، بكت قليلا، ثم استغرقت في النوم، في انتظار يوم جديد وهكذا..

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي