جلطات خفيفة وعابرة تتمشى فوق رؤوسنا

2020-08-08

فهد العتيق*

كنت أتمشى في شوارع شمال الرياض وحيدًا، كانت السيارة تسير بهدوء وكأنها تقودني وتختار لي شوارع ومقاهي الذكريات الجميلة. وكانت نجاة الصغيرة تغني من الإذاعة عيون القلب سهرانة، حتى وصلني اتصال يقول لي: إنه أصيب بجلطة عابرة وخفيفة، وإنه الآن في المستشفى. غيرت الطريق وأنا في حال من القلق والأسئلة المعلقة بلا إجابات واضحة، كنت أفكر في كلمة (عابرة).. وماذا تعني، كلمة: عابرة لا تتكرر كثيرًا، أسمع أحيانًا عبارة: عابرة للقارات مثلًا. وبدأت أشعر أن الجلطات الخفيفة والحديثة تتجول الآن في الأجواء فوق رؤوسنا ونحن لا نعلم.

وصلت إلى المستشفى وبقيت معه في الغرفة حوالي الساعة حتى أفاق. نظر في وجهي بابتسامة صغيرة وهادئة، ثم سألني باستغراب: كيف عرفت أنني هنا؟ لم أجد إجابة. قلت له: كيف حالك؟ قال: أنا متعب وأريد أن أخرج من هنا. في هذه اللحظة دخلت الممرضة وأخذته وهو على سريره لعمل الأشعة، وبعد عودته تمشينا أنا وهو على أقدامنا في الممرات، كان يبحث عن باب للخروج من المستشفى ولم يجده حتى تعب فعاد إلى الغرفة محبطًا. بقي في سريره حوالي نصف الساعة يلعب في جواله ثم نام. في هذا الوقت حضر الطبيب مع الممرضة التي أخذت قياس الضغط والحرارة. سألتُ الطبيب عن الحالة. قال لي: جلطة حديثة وعابرة. وأضاف: الوضع الآن مستقر وسوف نعطيه علاجًا لتنظيم دقات القلب، وهنا عادت نبرة صوت نجاة تتردد في رأسي عن عيون القلب. سألت الطبيب عن المقصود بجلطة حديثة وعابرة. قال: هذا يعني أنها ليست قديمة وليست متوقفة وهذا يعني إمكانية علاجها.

آخر الليل تركته في المستشفى نائمًا، وتوجهت بسيارتي إلى البيت، يصحبني إحساس حاد أن الجلطات الخفيفة والعابرة صارت مثل كائنات حية تتمشى في زماننا ومكاننا بطريقة حديثة وبأريحية تامة، صارت تتجول فوق رؤوسنا مثل العصافير أو البعوض، شيء يريد أن يتمشى في دمائنا، يقطف الأرواح والأجساد ويحيلها إلى شيء تالف مثل خردة.

استمرت حالة الحياد والقلق والأسئلة المعلقة، وأظن أنني نمت في الطريق، وصلت شارع أنس بن مالك الواسع والمزدحم والقريب من بيتي. لكني ذهلت لمنظر الناس وهم يوقفون سياراتهم على جنبات الشارع ويتطلعون في السماء باهتمام وكأنهم يبحثون عن قوس قزح أو عن هلال رمضان أو هلال العيد. أوقفت السيارة إلى يمين الشارع جوار الرصيف، وبدأت أتطلع مثلهم في السماء. حولي نساء ورجال وأولاد وبنات من كل الأعمار وكأننا في حفلة، منظر مبهج وغريب في نفس الوقت.

توقفت بجانبي سيارة جيب مازدا سوداء ونزلت منها امرأة ومعها صديقاتها، وأخذن يتطلعن مثلنا في السماء. سألت المرأة المتحمسة عن الموضوع، قالت بجدية واضحة: هناك جلطات صغيرة بعيدة تحلق في الفضاء والنَّاس يريدون أن يعرفوا أين سوف تسقط.

بدأت أنظر في السماء بجدية مثلهم، سألتها: أين؟ قالت: هناك.. ومدَّت يدها ناحية الغرب. قالت: بقع سوداء صغيرة هناك. شعرت كأنها تتحدث مثلًا عن قنابل صغيرة لا نعرف أين سوف تسقط إلا حين يخرج لنا دخانها من بعيد، من إحدى الفيلات الجديدة في ذلك الحي الجديد مثلًا.

ضحكت لكن ضحكتي لم تعجبها.

سألتني بغضب: لماذا تضحك؟

قلت لها: موقف مضحك.

سألتني: الجلطة؟

قلت: أقصد منظر الناس برؤوسهم المرفوعة.

قالت: لا تسخر حتى لا تسقط جلطة تائهة على رأسك، وأشارت بإصبعها الجميل إلى رأسي. وهنا شعرت بالخوف وأردت أن أمشي. وحتى لا تكتشف خوفي منها ابتسمت لها قبل أن أتركها وسألتها سؤالًا عابرًا وخفيفًا: هل تعرفين سارة؟ قالت: سارة من؟ قلت لها: أختي.. كأني رأيتك عندها، قالت بهدوء وهي تشير بيدها علامة النفي: لا أعرفها.. خلاص مع السلامة.

غادرت مرتبكًا، مشيت للأمام قليلًا لأجد الناس يزدادون كثافة، فتعثرت برجل على الرصيف، كان قريبًا من الأرض لأنه قصير ولا تلتقطه العين بسهولة. وكان أيضًا ينظر في السماء البعيدة بقلق. دفعني فاعتذرت له مبتسمًا ثم سألته: هل سقطت الجلطة. استغرب سؤالي ونظر لي بعينين حمراوين وحادتين ثم سألني: من أنت؟ كان هذا السؤال القوي والمباغت مثل قنبلة انفجرت في وجهي فجأة. شعرت أنه سؤال وجودي عميق ومخيف، فاستيقظت مذهولًا وخائفًا. شربت من كأس الماء المجاور على الطاولة فارتحت قليلًا. وفِي هذه اللحظة فكرت في الخروج من البيت والذهاب إلى شارع أنس بن مالك القريب لأعرف هل ما زالت الرؤوس المبهورة والعيون الجميلة مرفوعة إلى السماء من دوني.

 

  • كاتب سعودي






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي