ابن رشد الفقيه الفيلسوف .. والعاشق!

2020-08-07

 حسن داوود*

كتاب جلبير سينويه عن ابن رشد يشتمل على كافة ما عبرت به حياة الفقيه والفيلسوف، من يوم ولادته حتى يوم وفاته. أما من يروي هذه الحياة فهو ابن رشد نفسه، بادئا بتجشم ذاك العناء، من زمن يبعد ستة أشهر من وفاته، في التاسع من ديسمبر/كانون الأول 1198 الموافق للتاريخ اللاتيني، فيما كانت وفاته في شهر مارس/آذار من ذاك العام.

هذا التعيين الزمني، كما إجراء التاريخ والأحداث على لسان ابن رشد نفسه، يُظهران أن الكاتب الفرنسي أراد لكتابه أن يكون أقرب إلى عمل روائي، بل رواية بالمعنى الكامل، بحسب ما هو مدوّن على صفحة الغلاف.

أما كيف أمكن لهذا الكاتب أن ينجز عملا سِمَته التخييل من دون أن يسمح لنفسه بالخروج عما أتاحته له المعلومات والشواهد التي استقاها من الكتب، فذلك ما سيظل سؤالا يلازم قارئ الكتاب من صفحته الأولى حتى صفحته الأخيرة.

هناك حكاية واحدة أمكن لسينويه أن ينفخ فيها الروح الدرامية التي يحتاجها لجعل كتابه رواية، وهي تلك العلاقة الغرامية بين ابن رشد ويمنى، المرأة المنقادة بمزاجها الشبيه بمزاج بطلات روايات القرن التاسع عشر الأوروبية. فهي لم تتمنع عن ممارسة الحب كاملا، فيما هي رافضة الزواج. وهي، كما في الأفلام والمسلسلات التلفزيونية، مريضة تخفي عن حبيبها أمر مرضها.

كما أنها تكبره بسنوات كثيرة، وهذا ما يستطاع تسويغه بتذكّر فارق العمر بين النبي وزوجه الأولى خديجة. وما يدفع الدرامية إلى حدها الأقصى، قول خادم يمنى لابن رشد، إنها ماتت وفي قلبها لوعة وحزن عميقين على رفضها الزواج منه، إذ لم تشأ أن تعلمه بخطورة مرضها، كما لم تشأ أن تهرم، فيما لو نجت من مرضها، وهو بعد في عزّ رجولته.

ولم تكد تنتهي هذه العلاقة حتى قَبِل ابن رشد، وهو في الخامسة والعشرين من عمره، توصية والده بالزواج من ابنة عمه سارة. هنا يستعيد الكتاب نبرته التوثيقية فتجري الأمور كما ينبغي للزوجين أن يكونا في مجتمع محافظ. لم يحدث الغرام مرة ثانية، والزوجة هي غير الحبيبة. في شهادته عنها، ودائما بحسب ما يرويه في الكتاب، تبدو سارة وقد تحوّلت أمّا لولده الأول جهاد، ثم لابنتيه، ثم زوجة منتظرة في البيت لا تختلف مشاعره نحوها عن تلك التي يكنها الأقرباء لبعضهم بعضا.

ومن مظاهر التخييل الذي يضيف الطابع الروائي للكتاب، هو تلك القفزات في الزمن المستقبلي، فمثلما يبدأ ابن رشد روايته لحياته بعد ستة أشهر من وفاته، ها هو الكاتب يأخذنا إلى سنوات أعقبت تلك الوفاة، مرة إلى ما بعد ثلاثين سنة، وأخرى إلى ثمان وسبعين سنة، ثم إلى مئة، فإلى أربعمئة، حتى ينقل لنا الأثر المستمر الذي خلّفه راويته الفيلسوف في عالم الغرب خصوصا. لم تتوقف الكنيسة عن الدعوة إلى مواجهة حاملي فكر ابن رشد وقمعهم.

وعلى الدوام كان هناك حاملون لهذا الفكر الذي، في أوانه، وفي عالمه الإسلامي، حرص حامله على ألا يكون مجفلا للسلطات ومتحدّيا لها، لذلك ظل على الدوام مقرّبا من الحكام، سواء في قرطبة أو أشبيلية أو رباط الفتح حيث أقام، أو من أمراء المؤمنين الذين تعاقبوا على الخلافة، أو من الحكماء الكبار الذين بينهم ابن طفيل وابن زهر.

هؤلاء جميعا أحسنوا وفادته ورفعوه إلى أعلى المناصب، فيما كان فكره متخطيا للتيارات الفقهية التي تدير شؤون المسلمين. ربما هي مرحلة خاصة من مراحل التاريخ، حيث الفكر النقدي التغييري لا يُدحض ولا يجري التخلّص من حامله.

يرجع ذلك، في الخاتمة التي ذيّل بها الكاتب الفرنسي سيرة بطله إلى قدرة هذا الأخير على «الجمع بين الإيمان والعقل، الفلسفة والشريعة، أرسطو ومحمد». أما المواجهات المتهِمة بالكفر فأتت من الكنائس التي ظلت رافضة لما دعا إليه، طالما كانت فلسفته المتآخية مع فلسفة أرسطو نشيطة فاعلة بين مؤيدين جدد.

في خاتمة الكتاب، وكان ابن رشد في الثانية والسبعين من عمره، قام عليه الخليفة المنصور بعد أن سمع من مغرضين أن ابن رشد أطلق عليه لقب «ملك البربر»، وكان هذا فاتحة لاتهامات بينها ما قاله وجهاءُ من قرطبة لأمير المؤمنين أن فيلسوفه وفقيهه يزعم أن القرآن ليس إلا أسطورة من أساطير الأوّلين، استطرادا لقوله إن ما نُقل عن قوم عاد وإرم ذات العماد أسطورة وليس حادثة تاريخية، إلخ. أما العقاب الذي تلقاه فنطق به الخليفة المنصور نفسه: «من الغد ستغادر مراكش في موكب محروس وتسلك طريق المنفى. ستذهب إلى لوسينا بين اليهود، مطرودا من مدن المسلمين وتنتظر هناك إلى أن يهلكك الموت».

كتاب جلبير سينويه تعريفي وتعليمي… ومشوّق في آن. لم يكن للقارئ أن يلمّ بكل تلك التفاصيل عن ابن رشد وزمنه، ورفاقه من الفلاسفة والأطباء المسلمين، وتلقيه لفكر أرسطو والفلسفة اليونانية، وتلقّي الغرب لفكره هو، لولا هذه الصياغة في شكل الرواية وتسلسلها. لكن ما ينقص هذه الكتابة، وهي النقيصة التي تشكو منها أعمال روائية كثيرة، هو خلوها من السجال والاختلاف والتواء الحقائق عن مساراتها والتنازع بين المرء ونفسه إلخ…

*رواية جلبير سينويه «ابن رشد أو كاتب السلطان» نقلهـــــا إلى العربيـــة بترجمة قرّبتها من زمن بطلها وراويتها، شكير نصر الدين. صدرت عن منشورات الجمل في 271 صفحة سنة 2020.

 

  • روائي لبناني






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي