رحلة إلى كوكب ساﭭوراس - عبدالناصر مجلي

2020-08-01

-أيها الأرضي!!
نفس النغمة التي لا صوت لها تخاطبني دون أن أسمع لها صدى وكأنني في حلم، كل ما حولي أملس بارد يميل إلى اللون الرصاصي، حيث أجدني وسط صالة هائلة مثلثة الأبعاد أقف فاغر الفم كالأبله، يجتاحني خدر عارم لا طعم له ولا نكهة وكأنني معلق في الفراغ،"ما الذي حدث ومن أتى بي إلى هذا المكان الغريب!", كنت أتلفت حولي كالمهزوم في حلبة المصارعة وهو يبحث عمن يواسيه في هزيمته.
- لا تخف
ها هو الصوت ذي اللكنة المعدنية ينبعث من جديد، من مكان لا أدريه في هذه الجدران الرصاصية اللون الباردة الملمس، أيقظ فيَّ تساؤل لو قلته لأحد أبناء القرية لمات ضحكاً عليّ، فجملة "أيها الأرضي" أسمعها للمرة الثالثة تقريباً كأن من يحدثني ليس بأرضي..
- نعم لست أرضياً
لم أستطع التفوه بأي كلمة لحظة صعقني رده المباغت، فكيف عرف ما أفكر به، ثم..ثم ما معنى قوله بأنه ليس بأرضي فمن يكون أذن..أم الصبيان؟!
- لا تخف سنخبرك كيف نفهم ما يدور بخلدك بل وما يتوارد فيه الآن.
- كيف!!!
حاولت أن أسأله ولست أدري كيف واتتني الشجاعة على مجرد محاولة سؤاله هذا المتكلم المجهول، لكنها شجاعتي على كل حال الحمقاء, فقاطعني بصوته العذب المعدني النغمة كما لو كان رجع ناي بعيد
- نحن نقرأ أفكارك أولاً بأول وقبل أن تتفوه بها، وهذه ميزة خاصة بنا دون غيرنا من بقية المخلوقات..كما أخبرتك سابقاً.. نحن لسنا من الأرض.
أردت أن أضحك دون سبب أدريه، ربما لمداراة الخوف الذي بدأ يتشكل داخلي كالجنين فقد كان جسدي ينتفض رغم أنفي كما لو أن، عاصفة تعبث به فبادرني قبل أن يسمع ضحكتي التي عزمت على صفعه بها.
- لا تضحك ولا تنزعج، فهذه هي الحقيقة، ولكي تتأكد سأخبرك كيف اتينا بك إلى مركبتنا و..!
قبل أن يتم كلامه الذي لا أسمع نبراته رنانة كبقية الأصوات، قاطعته متسائلاً
- مركبتكم..ياالله كم أنا مصر على مساءلته بفضول كما هي عادتي، لكن.. لكن في وضع كهذا يصبح السكوت عدواً لدوداً.. أليس كذلك!!
وأنثالت في ذاكرتي عشرات القصص عن الأطباق الطائرة وغيرها من الحكايات الغريبة التي طالما سمعت وقرأت عنها..
- بالضبط وصوته لم يتغير هو ما قلت.. أعني كما خطر لك.
- لكنك كيف ..كيف!!
- أتينا بك إلى هنا!
- نعم.
كنا نتخاطب كصديقين لدودين، مع أنني لم أتوقف للحظة واحدة عن التلفت في جميع الاتجاهات، في محاولة مني لمعرفة من أين يأتيني صوته، لكنني لم أفلح في ذلك فصوته كان يأتيني من كل اتجاه ومن لا أتجاه.
إنك لن تتذكر ما حدث لك وهذا ما عمدنا إليه، وحينما تحين عودتك إلى الأرض لن تستطيع إخبارهم بشيء مما جرى لك إلا بما شاهدته في مركبتنا فقط وما عدى ذلك فلن تتذكره إلا إذا كانت ذاكرتك أقوى مما تصورناه؟.
- لماذا؟
- لسنا مخولين بالإجابة على سؤالك ولكننا سنخبرك لاحقاً.
- حسناً.. كيف أتيتم بي إلى هنا؟!
حاولت أن أبدوا طبيعياً معه فحتى الآن لا أدري من هو، أو ماذا يضمر لي فالمهادنة لمثل من هو في وضعي أسلم كما يبدو لي ، حتى أقرر ما يجب علي فعله.
- الأمر في غاية البساطة كنا عائدين إلى كوكب "ساﭭوراس".. كوكبنا، عندما طرأ عطل بسيط في أحد محركات المركبة، وعندما حسبنا بُعد مكان أقرب نقطة إلينا تصلح للهبوط الاضطراري، وجدنا أن الأرض هي أنسب مكان للتوقف فيه ومباشرة تصليح العطل، وقد كانت المسافة لحسن الحظ قريبة نسبياً في حدود الخمسين الألف سنة ضوئية و..!
- غير معقول ما تتفوه به يا هذا.
خرجت الجملة مني عفواً، فالرقم الذي ذكره الغريب كان أكبر من أن يصدق
- أسمي فسكاسوڤ.
أسمه الغريب كأسم كوكبه جعلني أشعر وكأنني أعاني كابوساً يكاد أن يكتم أنفاسي، فأخذت أدعك عيني علني أستيقظ من نومي المزعوم لكن...!
- لا فائدة أنت في كامل صحوك وقواك العقلية ولست تحلم.
إن كان واقعاً هذا الذي أحياه الآن فهو شيء يدعو للحيرة والدهشة والرعب أيضاً، أما وإن كان حلماً فلا ضير على من مواصلته فلن يكون بحال من الأحوال أفظع من الواقع الذي أحياه.
- بالضبط.. عليك أن تتجاهل وساوسك ولو مؤقتاً حتى نستطيع أن نتفاهم.
قرأ أفكاري كعادته قبل أن أنطق بها، وفي الحقيقة أنني منذ وجدت نفسي في هذا المكان العجيب لم أنطق بحرف واحد، فقد كانت طريقة محادثتي مع خاطفي أو مضيفي – سيان – تتم بواسطة توارد الخواطر، ولست أدري كيف يتم ذلك ، لكنني كنت أسمعه يتكلم كما لو كان من داخل رأسي.
- حسناً إسأل ما بدى لك.
عرف بأنني سأنهال عليه أسئلة، وقبل أن أبدأ سألت نفسي سؤالاً سبقني في الإجابة عليه
عندك حق فكيف تأمن لشخص لم يظهر لك أو تراه حتى الآن، ولا تدري عنه أو عن هيئته وشكله شيء . هكذا كان جوابه يرن في رأسي بطريقة لا تصدق , وكل ما عليك أن تفعله هو أن تغمض عينيك. أستجبت لطلبه بالفعل فالفضول لرؤيته ينهشني ، وأغمضتهما متلهفاً لا أخلو من رهبة
- أفتحهما لو سمحت!
صار صوته أقرب إليَّ من ذي قبل، ففتحت عيني وكم كانت دهشتي مروعة عندما رأيته, لحظتها أسترجعت كل حكايات جدتي، وكل ما جمعته من معلومات خلال قراءاتي، لكن رغم كل ذلك لم أستطع ولو لثانية واحدة أن أصدق ما يحدث لي, أو أنه قد خطر لي من قبل، فما شاهدته كان محض مستحيل عجزت عن تحليله أو حتى فهمه الفهم البسيط.
مَدّ يداً تميل إلى اللون الأخضر بشرتها الرقيقة كمن يود أن يصافحني
- فعلاًُ .. أنا أود مصافحتك.
مددت يدي بدوري لمصافحته ذلك الكائن الرقيق القسمات والذي لا يتعدى طوله المتر، وكأنني سأصافح صديقاً أعرفه منذ وقت طويل، التقت يدانا في ود كانت يده باردة ودون أظافر
كما أخبرتك فأسمي هو "فسكاسوڤ" ويعني بلغتنا الوفي، والمسؤول الأول في هذه المركبة
وأنا ....؟
حاولت إخباره بأسمي لكنه سبقني:
- أسمك صالح أليس كذلك؟؟
لم تكن دهشتي كبيرة لمعرفتي المسبقة بقواه الخارقة لكن..
- هذا شيء سهل..
وهو يبتسم بوداعة هذا الذي يشبه الإنسان بشكل قريب جداً في شكله وهيكله ما عدا لونه المائل للإخضرار ودقه يديه، وقدميه المدورتين من أسفلها، علاوة على ذلك فرأسه الصغيرة لا يغطيها شعر، كما أن عينيه كبيرتين بشكل واضح لكنهما غير قبيحتين، يرى فيهما ذكاء غير عادي وليس لهما رموش أو حاجبين.
لقد قرأته مدوناً على بطاقتك كما يدل أسمها عليها، والآن مرحباً بك في مركبتنا "ثيوداﭭيسك" المتجهة بسرعة خمسة آلاف سنة ضوئية في الساعة الأرضية، وفي الدقيقة بحسابنا نحن إلى كوكبنا الأخضر "ساﭭوراس" الذي يقع خارج إطار المجموعة الشمسية بمليار سنة ضوئية، وتسمى مجموعته التي هو محورها ومركزها الرئيسي بمجموعة "ﭭاس" أي السكون بلغتكم.
ماذا ..؟
صرخت بها عنوة هذه "اللماذا" فالذي قاله هو إلى الأساطير أقرب منه إلى الواقع، وهو يشد على يدي بحرارة وقوة هائلة آلمتني وأذهلتني معاً نظراً للمقارنة بين حجمه وقوته البدنية, وأصابني رعب فاحش إضافة إلى ألم أصابعي المحشورة في يده عندما سمعته يحدد وجهة انطلاقنا الخارق.
- لا تقلق.
بكل بساطة الأكوان قاطبة قالها، فصدقته وأنا لا أدري لماذا أشعر حينما أنصت إليه وهو يتحدث – معذرة – قصدت وأنا أسمع توارد خواطره، فربما كان لأثير توارد الأفكار بيننا، تأثير على دماغي يجعلني آنس له بمجرد أن نتحدث بخواطرنا وإلا فما معنى إطمئناني إليه؟!
- فسوف نعيدك إلى الأرض متى ما شئت العودة، لكن ليس الآن.
أشياء كثيرة كانت تعتمل داخلي.. هل كنت أحلم، كيف أتوا بي إلى هنا.. أين يقع كوكبهم، لماذا أختاروني أنا بالذات دون سواي, كيف نتفاهم هكذا ببساطة متناهية.. ماذا يريدون مني, هذه المسافة الجغرافية الهائلة كيف سنقطعها؟!
عشرات الأسئلة كانت تضج بها مخيلتي ولم أستطع تفسيرها، وكأني بي قد شللت عن التفكير، بالرغم من أنني منزو بطبعي، وتفسير الأشياء هوايتي المفضلة بعد قرة عيني .. القات.
- لا عليك يا صالح ستجد أجوبة على كل أسئلتك, أما الآن فسأتركك لتستريح بعد أن تتناول هذه الحبة المنومة, كانت في حجم حبة الفاصوليا، بنفسجية اللون، أخذتها منه وما كدت أضعها في فمي حتى ذابت سريعاً وكأنها لم تكن, فأنت في حالة غير مستقرة فعندك بوادر هبوط خفيف، وبرودة في الأطراف وخفقان بسيط، وهذا راجع لتناولك لنبات أخضر كما أخبرتنا به أجهزتنا في غيبوبتك لكنها الأجهزة لم تعرف كنهه هذا الذي تناولته.
وددت أن أتكلم فألجمني الحياء، لكن "فسكاسوڤ" فهم قصدي..
- أي شيء تريده ما عليك إلا أن تفكر به وستجده أمامك، والآن إلى اللقاء، أختفى فجأة وكأنه قد تبخر وقبل اختفائه سألته بصوتي المجرد أن لماذا لا نتخاطب بالأصوات، فلم يرد, فعرفت بأنه لا يجيد التخاطب الصوتي، لكن صوته الأثيري أتاني من البعيد .
- نحن لا نستطيع التخاطب معك بلغتك الصوتية، لعدم تعودنا على طريقتكم البدائية فنحن نتخاطب بالحس مباشرة وهذه هي طريقتنا في التخاطب.
طوقني بعدها الصمت، فعدت إلى تلفتاتي محاولاً أكتشاف مكاني الجديد.
كنت في حجرة كبيرة مثلثة الأبعاد، لا يُسمع فيها أي صوت، لا هي بالباردة ولا بالحارة، لا يوجد فيها إلا الصمت المدوي الذي له رائحة الرصاص الجامد، كما لا توجد فيها أية نافذة أو باب.
أحسست بغتة بألم يعتصر أسفل بطني، وقبل أن أسأل أين بإمكاني تفريغ بولي، فتح آخر الحجرة الصامتة باباً له صوت موسيقي جميل لم أسمع مثله من قبل، وعندما أوشكت على الدخول عرفت بأنه حمام ، هكذا أخبرني "فسكاسوف" بتوارد الخاطر، عاد الباب إلى وضعه المغلق السابق، لأجد نفسي عارياً كما ولدتني أمي داخل حجرة صغيرة مضاءة بضوء أخضر شفاف لا يوجد فيها فتحة للدش كما خمنت إلا فتحة صغيرة بمحاذاة جدار الباب من الجهة اليمنى تستخدم حسب ظني لتصريف الماء والفضلات, شعرت بالخجل لحظة شعوري بأن "فسكاسوف" يراقبني، لكنني حينما حاولت مخاطبته لم أسمع جوابه فعرفت بأنني قد أصبحت وحيداً للمرة الأولى منذ مجيئي إلى هنا.
دهمتني من كل جانب فجأة شلالات مائية لزجة ودافئة أحسست للوهلة الأولى بأنني أغتسل بدمي، بعد ذلك شممت رائحة نتنة تنبعث مني، فأكتشفت بأنني كنت أتبرز على نفسي رغماً عني، كذلك خروج عرق ذي رائحة كريهة من أنحاء جسدي، وكأنني كنت أتعرض لغسيل داخلي وخارجي، وهذا ما حصل بالفعل، فقد شعرت بوزني يخفف وبأنني أصبحت في المطلق وممتلئ بالسرور، لا أدري من أين أتاني ذلك الشعور اللذيذ لكنني سعيد به، فلطالما شعرت بدبيب الموت يدب في أوصالي، أما الآن وتحت هذه المياه اللزجة التي تطهرني حتى أعماق روحي، فإن بي جوع عاصف للحياة أريد أن أعيش كما يحلو لي لا كما يريد الناس لي العيش، والذي أكد صدق حدسي بخصوص الطهور الداخلي صوت "فسكاسوف" الذي أتاني وقد بدأ النوم يداعب عيوني.
- نحن نطهرك بسوائلنا لنعيدك إلى طهرك الأول.
بعدها غرقت في النوم واقفاً تحت وابل من سائل لم أفقه سره أو ماهيته داخل حمام غريب ومركبة أغرب, وأثناء نومي حلمت وأنا أعتقد بأنه لم يكن حلماً بقدر ما هي مساعدة من كائنات المركبة محاولة منهم لتذكيري بما جرى لي حتى الآن كي لا أجن، بأنني كنت مقيلاً في بيت أحد الأصدقاء، وبعد أن أنتهيت من القات شربت شاياً بالحليب، وقررت التنزه على قدمي خصوصاً وأن الطقس كان معتدلاً والليلة قمراء، فقررت أن أذهب إلى جهة بعيدة قليلاً عن ضوضاء مدينتي الصغيرة. وفعلاً توجهت إلى مكان أعرفه، وحينما وصلت إلى هناك، جلست على صخرة مرتفعة قليلاً عن سطح الأرض وأخذت أدندن بأغنية مفضلة لدي، وعيناي تجوسان في خبايا السماء، وبينما أنا في دندنتي، رأيت وكأن نجماً يهوي من حالق ويستقر على مسافة قريبة مني لا تتعدى الثلاثين متراً، في البداية لم أكترث للأمر معتقداً بأن هذا شيء طبيعي فكم من نجوم تخترق الغلاف الجوي وتحترق في الأعالي قبل أن تصل إلى الأرض، لكن لدهشتي الشديدة سمعت صوتاً يشبه رنين الجرس، إضافة إلى عدة ألوان ضوئية تتراقص في وجه الليل تنبعث من ذلك الشيء الذي أعتقدته شهاباً رغم أن شكله البيضوي لا يوحي بما خمنت, فأجتاحتني رعدة صاعقة وأخذت دون شعور مني أتمتم بالبسلمة والمعوذتين، وعندما تأكد لي بأن الشكل البيضوي هو فعلاً طبق طائر توقف أمامي صدفة، خصوصاً وقد بدأت أشاهد مخلوقات تنزل منه لم أرها من قبل، توقفت التمتمة في حلقي، وأنا أكاد لا أستطيع أن أتنفس وحينما حاولت الفرار أحسست بي وكأنني قد شللت، وقبل أن أسقط مغشياً رأيت الكائنات الغريبة تتحلق حولي، ولم أدر بنفسي بعد ذلك إلا داخل هذه المركبة العجيبة.

× × × × × × × × × ×

- صالح أستيقظ أوشكنا على الوصول.
صوته العذب الذي يداعب غشاء مخي مباشرة، كان يجعلني أشعر بالحب له صديقي الجديد، دون معرفة سر حبي المفاجئ، فكلما تأملت عيناه الكبيرتان والبراقتان أزداد حباً وعرفاناً بالجميل، ودون أن أدري ما هو الجميل الذي كان قد أسداه لي.
- شكراً
لم يفته أن ينطق بها قبل أن أفتح عيني، لأجده واقفاً عند رأسي مبتسماً.
ياألله كم كانت ابتسامته مطمئنة، لكن ما لفت انتباهي في فمه أنه لا شفتين له، مجرد فتحة دائرية صغيرة تتوسط الوجه، كذلك لا يوجد أنف، كما أن أسنانه صغيرة وكأنها أسنان طفل لم يبلغ الثالثة من عمره, يا إلهي.. ثم ما هذا الشيء المتناهي في الصخر الذي أراه عند مقدمة رأسه الخضراء ، يهتز بسرعة مذهلة كما لو كان قرن استشعار يستقبل به خواطري، ويرسل من خلاله جملة وكلماته الهادئة ذات الثقة العميقة.
كان ينظر إلي في وداعة ولم يعلق على اكتشافي لأسنانه وقرنه الصغير، لكنه بادرني ونفس الابتسامة ترتسم على محياه الأخضر الجميل
- هل نمت بما في الكفاية؟
نعم .
أجبته متثائباً بينما لا أزال مستلقياً فوق سرير يعلم الله وحده وفسكاسوف من أين جيئ به أو كيف وجدت نفسي عليه مع أنني كنت في الحمام أغتسل لحظة أخلدت للنوم.
- أتدري كم من الوقت قضيته نائماً!
- كم ؟!
أجبته دون مبالاة وأنا أتمطئ وأتثائب فوق السرير الذي كان يهتز ببطئ جاعلاً من الآم المفاصل، كما عرفت لاحقاً مجرد آلام سابقة لا تذكر.
- ثلاث دورات كونية!!
- لم أفهم ! أجبته
وأشهد لله أنه لم يكن يضايقني أكثر من لغته العلمية البحتة, فما الذي يعينه مثلاً بجملته الأخيرة.
أجابني مبتسماً كما هي عادته عندما عرف ما كنت أفكر به..
- يعني لقد نمت 275سنة أرضية بالتمام والكمال!
- ماذا تقول!!
قافزاً من على سريري المريح والقريب من سطح الحجرة مذعوراً وكأن أفعى نزقة لسعتني.
ما سمعته، لكن لا تقلق فنحن في طيراننا نمشي عكس عقارب الساعة الزمنية ولا ضير في هذا، أو على وجه الخصوص نحن نستبق الزمن نفسه.
في الحقيقة أن الرقم الذي ذكره فسكاسوڤ جعلني أصاب بالهلع على عمري، فمعنى ذلك أنني قد مت منذ فترة طويلة، وربما أنني الآن في العالم الآخر، وقد أدخلت الجنة جزاء لصبري فقد كنت معذباً في حياتي الأرضية السابقة, لكن وهذا للأمانة شعوري الشديد بالجوع جعلني أتغاضى عن ذلك التفكير الغير منطقي، كما أنه في نفس الوقت، أعني شعوري بالجوع جعلني أطمأن على نفسي، وأني لا زلت حياً أرزق، كيف..!! لم يعد يهمني الأمر فلو بحثت عن إجابة لكل سؤال ينتابني لوصل بي الأمر إلى الجنون أو إلى الانتحار, وقبل أن أتم تفكيري بمعدتي رأيت أمامي مائدة عامرة بطعام لم أر مثله سابقاً، فوقفت أمامه تأكلني الدهشة
ما هذا ومن أي أتيت به؟!
- طعام .. وقد أتيت به بطريقتي الخاصة، فكل مطالبنا ننسجها في عالم الخيال حتى تأخذ الشكل الذي تطلبه، ثم بعد ذلك يتجسد على أرض الواقع في لمح البصر، وهذه الطريقة تعتبر من أسرارنا التي لا يجب أن يعرفها أحد أياً كان جنسه أو فصيلته، كما توجد لدينا مقدرات أخرى ستعرفها في حينها.
ومن أي نوع هو، بقري، غنمي، .. عصيد.. كدم، خاطبته ساخراً فلم ينتبه لسخريتي، أو أنه رأي عدم جدوى المناقشة في معاني كلماتي التي بالطبع لا يدري عماذا تعبر, وواصل تعريفه والابتسامة لا تزال معلقة على مساحة وجهه الأخضر.
لن تفهم إذا ما أخبرتك، لكن كُل دون قلق فطعامنا يناسبكم معشر الأرضيين، كما أنه خال من الأحماض والأملاح والدهون المكثفة، لذلك ستجده دون رائحة كما أنه ليس بالنباتي ولا بالحيواني فهو خليط من الشيئين.
أيضاً لم أفهم !!
قبل أن أستمر في مجادلته العقيمة أكتشفت بأنني أرتدي حلة مزركشة فاقعة الألوان، وناعمة جداً أكاد لا أحسها على جسدي، ولا أستطيع تحديد نوعها بدقة، فهي خليط من عدة ألوان وخيوط تدهش كل من رآها.
- ولن تفهم ....!!
هكذا أجابني وكأنه قد ضاق من كثرة استفساراتي لكن بلطف.
- فهذا شيء معقد بالنسبة إليك.. هيا جرب طعامنا.
مددت يدي متردداً وكأنني سأقبض على جمرة، وتناولت لقمة صغيرة مما هو أمامي وقذفت بها إلى فمي، أخذت ألوكها بحذر كما لو كنت ألوك عقرباً ، لكن طعمها اللذيذ جعلني أسابق نفسي في الأكل، فما كنت أطعمه هو في أحسن الأحوال ما لم أطعمه أو حلمت بتذوقه سابقاً، وأقسم بأنني لم أطعم ألذ منه في ماض حياتي البائسة أبداً.
أستمريت في تناول طعامي وفسكاسوف يراقبني بصمت وابتسامته لا تفارقه، حين تكلم بغتة أعني خاطبني بلغته الخاصة وكأنه يود إخباري بشيء مهم
- إننا على وشك الوصول إلى كوكبنا..
قاطعته مسرعاً وثمة سؤال تذكرته يراودني منذ وجدت نفسي على متن المركبة
حتى في خيالي وهو واسع بما فيه الكفاية لم أعتقد للحظة واحدة بأن هناك مخلوقات غيرنا تعيش في كواكب أخرى غير الأرض، لكنك يا صديقي نسفت بوجودك هذا الاعتقاد فهل وأنا أتهيأ لبلع لقمة ضخمة بإمكانك أيها المخلوق الطيب أن تترفق بي وتوضح لي ما خفي عني بل وعن البشرية جمعاء.
- يا صديقي ..
أجابني بهدوء وثقة العالم ببواطن الأمور..
- هل تعتقد أن عظمة الله سبحانه وتعالى تتوقف عند خلق الأرض بمن فيها مع مجموعتها الشمسية فقط.
كلا .. وإلا كما أعتقد لما كان خلق هذا الكون المترامي الأطراف والمزدحم بالمجرات ما دام سيظل فارغاً ، ولكان سبحانه أكتفى بالأرض ومجموعتها، أولأكتفى بخلق مجرة المجموعة الشمسية وحسب.
- إذن لن نختلف
- ماذا تعني؟
- أعني بأن حكمة الله جل وعلا رأت وجود مخلوقات أخرى غيركم في كواكب أخرى لتعبده وتقدسه وتسبح بحمده، فعظمته
والدليل أنني أخاطبك الآن أكبر من أن يخلق الكواكب ويتركها خاوية لا حياة فيها, والذي نعرفه عن الله أنه لا يخلق أي شيء عبثاً بل لحكمة قد لا نفهمها أحياناً ولا نستطيع لها تفسيراً
- أتؤمنون بالله كإله واحد أحد خالق كل شيء؟!
- يا رجل..
أجابني والإيمان ينطق من خواطره الهوائية كالمطر
- بفضله استطعنا أن نصل إليكم رغم بعد المسافة الزمانية بيننا بما وهبه إيانا من علم لم تصلوا ولن تصلوا إليه إلا بعد عشرات الأجيال، وتقول أتؤمن بالله.. نعم نحن نؤمن به ونصدق بوجوده، وهذا ما يعلمنا إياه رسل الله عليهم السلام
- أمعكم أنبياء، أعني هل يوجد بينكم أنبياء مرسلون ؟
- نعم وهم كثر لكنهم قد توفوا جميعاً منذ فترات طويلة ولم يبق لنا بعدهم إلا نصائحهم وإرشاداتهم الداعية إلىعبادة الخالق وحده لأنه ليس هناك إله غيره, وإلى الحق والخير والعدل والمساواة، وكذلك بعض من كتبهم السماوية، فنحن لازلنا نحتفظ بها جميعاً ولا نفرط فيها مطلقاً
- وما هي أسمائهم عليهم السلام
- لم يكونوا واحداً ولا أثنين بل أكثر من ذلك بكثير، ولا أرى ضرورة لذكر أسمائهم الآن
- أكاد لا أصدق
- ولن تصدق إذا ما أخبرتك
- ماذا أيضاً
- تقول كتبنا القديمة بأننا في حقيقة الأمر من الأرض، أو بالأصح خلقنا فيها
- هاه..
فتحت شدقي على آخره مشدوهاً لما أسمعه
- صدقني .. هذه هي الحقيقة.
لم استطع أن أرد عليه إلا بعيني وهما تمشطانه ببله غير مصدقٍ ما قاله وحينما رأى الدهشة تتلبسني أستطرد شفقه بي..
- سأخبرك كيف.. في البدء خلق الله تبارك وتعالى الجن لعبادته، لكنهم فسقوا في الأرض وسفكوا فيها الدماء، فقرر سبحانه إنزال العقاب بهم مستثنياً منهم عباده الصالحين، وهم أجدادنا الذين أمرهم جلت قدرته على لسان أحد رسله ببناء سفن للرحيل عليها متى ما نزل عذابه فقد كانوا متقدمين جداً في علوم الفضاء والصناعة الفضائية وفعلاً أنجزت السفن في فترة وجيزة وحملت أجدادنا الأوائل الذين غادروا الأرض وقلوبهم تتمزق ألماً، لكنها حكمة الله، وبعد تيه دام عشرات السنين في الفضاء..!!
كنت أستمع إليه في ذهول ناسياً الطعام فما كان يتفوه به أشبه بالخرافة، لكنني رغم دهشتي لم أنس أن أسأله
- وكيف تسنى لهم العيش كل تلك المدة داخل سفنهم المغلقة ؟!
- الأمر بكل بساطة فقد كانت تلك السفن ضخمة جداً، ومعدة للعيش فيها لأجيال متعاقبة، لتوفر كل ما يحتاجه المسافر من مطعم وملبس ومشرب لسنين طوال دعني أواصل كلامي قالها برقة ورجاء
- تفضل
- كما أخبرتك بعد بحث طويل عن كوكب يصلح للعيش، أهتدوا إلى كوكبنا الآن فوجدوه صالحاً للاستيطان ، فاستوطنوه وعاشوا فيه ما شاء الله لهم ذلك حتى أتينا نحن وقد أطلقوا عليه تسمية "ساﭭوراس" ويعني الهبة في لغتكم، لكنهم لم ينسوا الأرض في يوم من الأيام بل كان يأخذهم الحنين إليها، وقد كانوا يقومون بزيارات خاطفة إلى كوكبكم لدقائق معينة رغم بعد المسافة، ومن ثم العودة إلى كوكبنا وقد دهشوا أول الأمر للكائن الذي وجدوه فيه وهو الإنسان، فعند رحيلهم لم يكن موجوداً، وقد أصابه الذعر هو أيضاً –الإنسان- عند رؤيته لأجدادنا كما ذعرت أنت بالضبط، لكنهم سرعان ما ألفوه كما ألفهم الإنسان وخلدهم في رسوماته التي أكتشفها علماؤكم مؤخراً على جدران الكهوف والمغاور، بل ولقد وصل الأمر بالإنسان إلى عبادة أولئك القادمين من الفضاء بأشكالهم الغريبة وقد شاهد أجدادنا ومن بعدهم أبنائهم وأحفادهم مآسي الأرض وقد آلمهم ذلك كثيراً وأحزنهم مدى تخلفكم العلمي والمعيشي والحياتي وتناحركم فيما بينكم, فحاولوا مد يـد المساعدة إليكم خلال رحلاتهم المتكررة عبر العصور، لكنكم ظللتم تنظرون إلى الأمر بخوف وريبة، وطبيعي جداً أن لا يغامر أجدادنا ونحن من بعدهم على الاقتراب منكم ونحن نراكم على هذه الدرجة من الريبة والشك وأحياناً من الخوف والقسوة، وهذه ما جعلنا ننتهز الفرصة لنأخذك معنا بعد أن قذفت بنا الأقدار بعيداً عن مخطط رحلتنا إليك فحملناك، عندما رأيناك وحيداً وطيباً لا تبغي الضر لأحد كما أخبرتنا أجهزتنا التي تستقرئ أعماق الكائنات الحية أياً كان جنسها، وأتينا بك إلى كوكبنا الذي لن تطأه بقدميك لأن ذلك محرم على بني البشر..
كنت فقط استمع كصبي صغير إلى والده، وقد نسيت فضولي قليلاً فكل ما قاله فسكاسوف كان يشبع فضولي بشكل أو بأخر وهذا مما أتاح له فرصة الاسترسال دون خشية مقاطعتي إياه باستفساراتي الساذجة.
بعمل تجارب حميدة على طباعك وعاداتك، وهل أنت مؤذ أم عكس ذلك وحينما تأكد لنا بأنك مخلوق وديع ظهرت لك كما ترى الآن، وكل ذلك حدث أثناء غيبوبتك التي استغرقت سنة ونصف بحسابكم الأرضي.
حديثه الشيق ألجمني وخصوصاً الأخير منه، فلم أعد أدري ماذا أقول وحينما هممت بالتحدث فهم ما أود قوله فاستبقني بالكلام.
- تتساءل لماذا أتينا بك إلى هنا ولماذا جعلناك عرضة لتجاربنا!!
هززت رأسي بالإيجاب وقد أنتابني ضيق بسيط وأنا أتخيل نفسي فأر تجارب دون علم مني.
الأمر بكل بساطة أجاب فقد خلص علماؤنا إلى نتائج مفادها أن أرضكم مهددة بالزوال مادمتم على طباعكم هذه، وتسابقكم في مضمار تصنيع الأسلحة الفتاكة، بحكم تفاوت وتباعد مجتمعاتكم عن بعضها في كل شيء، لذلك أخبرنا آخر أنبيائنا عليه السلام قبل وفاته بضرورة المجيء بأحد سكان الأرض إياً كان بشرط حسن طباعه لنرسل معه رسالة سلام وبعض الأدلة على وجودنا، وأيضاً بعض العلوم التي قد ترتقي بكم قليلاً وترفع من شأنكم وتبعدكم عن واقعكم المتخلف، ولأنك أنت من كان في طريقنا فمن الضروري طبعاً معرفة طباعك قبل التواصل معك وهذا علمياً ليس عيباً ففيه مصلحتك ومصلحتنا، ونرجوا المعذرة، لكن كما سبق وأخبرتك نحن لا نعرفكم إلا شكلاً فقط ولم نعاشركم وذلك ما دفعنا لفعل التجارب عليك منفذين بذلك وصية نبينا عليه السلام.
- همم .. هكذا اذن هي القصة يا صاحبي
تساءلت بكبر أجوف وكأنني كنت أدري أو أعي كل ما قاله
- دون زيادة أو نقصان.
- وما الذي علي فعله الآن.
- لا شيء، فقط سنقوم بتلقينك ما يجب أن تقوله لبني جنسك من خلال دورة تدريبية شاملة، كما سنقوم بإرسال بعض الرسائل المصورة معك تصور كيفية الحياة على كوكبنا وكيف نعيش ومن نحن كعربون صداقة بين جنسينا تدشيناً لبدء علاقة متفاهمه ومتبادلة بين سكان كوكب "ساﭭوراس" العريق، وسكان كوكب الأرض المتخلفين.
أستفزتني جملته الأخيرة وحاولت أن أحتج على مقولته لكنه..
- لا تغضب أيها الأرضي فنحن جنس من العار عليه الكذب، ولا نتعاطاه أبداً لأنه في ديانتنا كفر مبين، وقد تفوهت بما هو واقع دون تعسف مني أو مزايدة.
أغمضت عيني في حزن على سوء حالنا، لكن وللأمانة أقول بأنني أثناء نقاشي مع "ديسكاسوف" لم أتوقف عن تناول الطعام إلا نادراً حتى أتيت على كل ما في الأواني
- ما قولك في كأس من مشروبنا القومي
قال ذلك ليقطع بيننا حدة الحوار الذي بدأ يتفاقم بيني وبينه عندما رآني وقد تضايقت من صراحته الصادقة
- لا مانع لدي
لم أخيب ظنه فقد جعلني حديثه أشعر فعلاً بالعطش, قام بعدها بعدة حركات كمن يصفق أتي على أثرها شخص لا أعرف من أية كوة خرج، يشبهه في الشكل والتضاريس لكنه كان أقصر منه قليلاً، يحمل بين يديه علبة مستطيلة تشبه صندوقاً زجاجياً، تحتوي على عدة أغلفة كما لوكانت كتالوجات مليئة بالصور الملونة، وعندما سألته أين العصير، أجابني بأنه في الصور، وبأنه سيخرجه بمجرد الإشارة إلى القوارير المصورة وأن هذه الطريقة تسمى "بالجاذبية السحرية" وهي مقدرة خارقة يمتاز بها سكان كوكب "ساﭭوراس" دون سواهم، لم ألتفت إلى شرح فسكاسوف رغم غرابته، فالذي لفت انتباهي أكثر هو الشخص الذي أتانا بالصندوق الزجاجي، فلم يكن يمشي على قدميه بل كان يتنقل من مكان إلى آخر بسرعة لا تصدق، كما أنها المرة الأولى التي أرى فيها شخصاً آخر غير "فسكاسوڤ" فأجابني عندما قرأ ما يدور بذهني..
- هذه "ديسكالوا" الخادمة وهي من ضمن أعضاء طاقم الرحلة، وطريقة مشيها ليست غريبة فهذه هي طريقتنا في المشي, الانتقال من بعد إلى آخر, كذلك تجد مركباتنا، ولذلك تجدنا سريعوا الحركة سرعة خارقة
- لماذا يا صديقي لا تقدمني لبقية أفراد الطاقم؟
حاولت جره إلى البوح ببعض أسراره دون أن أفكر مسبقاً حتى لا يقرأ أفكاري، ولأنني فعلاً أردت معرفة رفاقه لكي أصدق بأنني مستيقظ ولست أحلم.
- أرجو المعذرة يا صالح فهذا لا يسرهم، وأرجو أن لا أكون قد جرحت شعورك لكنها الحقيقة
- لماذا ؟
نطقت بها ومذاق مشروبهم له وقع السحر على لساني، كما أنتابني شعور ممتلئ بالسخط، لاعناً في سري المصادفة التي أوقعتني بين أيدي هذه المخلوقات الملونة التي تزدري بشرياً كونه لا يشبههم.
ياللعنة هكذا ثرت بغتة كحيوان أخرق دونما سبب وجيه وكأنني فقط أردت استعراض نفسي في لحظة الغضب فلم أفطن لتهوري المتسارع من أن فسكاسوف يقرأ أفكاري.
- شكراً
صفعني بها والابتسامة في فمه تذوي كالزهور اليانعة، قالها ببرود كمن كان يتوقع ما حدث.
حاولت أن أتدارك الأمر وأن أشرح له ما كنت أقصد وبأنني قد تسرعت، ولم يكن قصدي الإساءة إليهم، تلعثمت وأنا أبرر له غلطتي الغبية ولم أعد أدري بماذا أفسر له فعلتي السوداء، فهو يقرأ أفكاري أولاً بأول ويعرف مدى كذبي.
- انتهى الأمر أيها الأرضي، ستعود حالاً إلى الأرض، فهذا ما كان متفقاً عليه عند أول بادرة تبدر منك للغضب أو الحنق أو السخرية سنعيدك إلى كوكبك بواسطة القذيفة النجمية العابرة للمجرات فلسنا نسمح أن يتطاول علينا كائناً من كان خصوصاً إذا كان بشرياً متخلفاً مثلك.
- أرجوك فسكاسوف أسمعني!
قلتها صادقاً عساه يسامحني على زلتي الغير مقصودة..
- أسف.. نحن لا نساوم في قراراتنا أبداً، وما قرر يجب تنفيذه فوراً أختفى بعدها مباشرة من أمامي وكأن صاعقة أبتلعته
لهذا كان رفاقي لا يودون الالتقاء بك لأنكم معشر البشر سريعوا الغضب لا تراعوا مشاعر الآخرين، ولهذا كان محرماً عليكم دخول كوكبنا، هكذا كانت وصية الأجداد.
كانت خواطره تأتيني من البعيد هذه المرة ولم يستمع أبداً إلى توسلاتي بعدم إرسالي مرة ثانية إلى عالم البؤس والحرمان والضياع، فقد استطبت صحبتهم وأود لو أن العمر ينقضي بي بينهم.
- أرجو المعذرة هذه هي الأوامر ولن أستطيع مخالفتها، كنا قد أعددنا لك برنامجاً حافلاً يستفيد منه بني جنسك عندما تعود إليهم لكنكم كما يبدو لا تستحقون الخير...الوداع أيها الارضي!!
أستسلمت لقدري وقبل أن أغيب عن الوعي استعداداً لتسفيري على متن عابرة المجرات سمعته يخاطبني قائلاً:
- من حسن حظك أنك ستعيش ألف سنة لأنك أكلت من طعامنا فهو شبيه بإكسير الحياة الذي تحلمون به في تركيبه الجزئي، ولا يجعل الخلايا تموت مطلقاً، من يدري فقد نلتقي مرة أخرى خلال عمرك الطويل ، والآن الوداع.
آخر شيء سمعته هو دوي النجمة الكونية العابرة للمجرات وهي تقلع بي إضافة إلى جملة فسكاسوف الأخيرة الذي يشبهني كما لو كان نسخة طبق الأصل مني مع اختلاف بعض التفاصيل.
- الوداع يا قريني الجاحد.
أفقت بعدها على واقع مزري، لأجدني عرضة لمطاردة الصغار وقهقهات الكبار كلما رويت لهم قصة رحلتي إلى كوكب "ساﭭوراس الأخضر", حتى جعلوني أشك في نفسي وأتساءل، هل سافرت فعلاً أم أنني كنت أهذي بما لا يصدق؟!
حتى الآن لم أجد من يجيبني على سؤالي، لكنني كثيراً ما ذهبت إلى نفس المكان الأول الذي أُخذت منه إلى المركبة الغريبة وأقضي ليال بطولها منادياً صديقي فسكاسوڤ عله يصفح عني ويأتي لينقذني من نفسي ومن قومي، فلا أسمع إلا نواحي يهاجم ظلام البراري الموحشة، وعواء الذئاب يدهمني من البعيد.

...............

صنعاء – شتاء 90

......................

* شاعر وقاص وروائي يمني أمريكي
من مجموعة ( ذات مساء..ذات راقصة ) الأعمال الكاملة1:

https://thenationpress.net/pdf-5.pdf







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي