فن المحتمل*.. يَصنعُ التحالفَ السعيد بين موهبة الفرد ومقتضيات الفن

2020-07-30

توماس بافيل*

ترجمة: إدريس الخضراوي

الرواية، في الواقع، هل هي فن؟ طالما نُوظّف هذا المصطلح بالمعنى الحِرَفِي، فإن الجواب مَعروفٌ مسبقًا. سواء أتعلّق الأمر بالاختيار النّبيه للغايات والوسائل، أو ببراعة العمل اليدوي، فإن فنّ الرّوائي، مثل فنّ الملّاح والاحترابي، يَصنعُ التّحالفَ السّعيد بين موهبة الفرد ومقتضيات الفنّ كما يُمارسُ في مرحلة معينة. إن النّجاحات التي حققتها هذه الفنون، هي البراعة والحكمة العملية والمعرفة الفطرية والعالمة، والنماذج الجيدة. من ناحية أخرى، عندما نُوظّفُ مصطلح «فن» بالمعنى المقتصر على الأنشطة المنفصلة عن الحياة العملية والمكرّسة لإنتاج الجمال، فإنَّ الجوابَ يغدو إشكاليًّا بشكل كبير. في هذا التوظيفِ الثاني، مصطلح «فن» يُحيلُ على رسالة لها طابع التّعالي، مثل الرّسالة التي تَنهضُ بها منذ الأزمنة القديمة فُنونُ الهندسة والفنون التشكيلية والشعر والموسيقا.

أيضًا السّؤال: هل الرواية فن؟ ألم يمضِ عليه وقت طويل قبل أن يأخذ الصيغة المقارنة: هل تُشاركُ الرواية في النهوضِ برسالة الفن، بالمستوى نفسه الذي تُشاركُ به الفنون التشكيلية والشعر والموسيقا؟ يَجبُ أن نَعترفَ بأن الجوابَ عن هذا السؤال لم يسبق أن قدّم، أو أنه لم يكن كذلك لمدةٍ طَويلةٍ.

في بداياتها، لم تكن الرواية تَطرحُ سؤال رسالتها الفنية، ولقد كانَ غِيابُ هذا السّؤال بحدّ ذاته دالًّا. الرواية جنسٌ سردي ظَهرَ في وقت متأخّر نسبيًّا، ونَبتَ على هامشِ عالم الثقافة الراقية، مفتقرًا إلى ما يؤكّد قيمته وأهميته، ومع ذلك لم تهتم كثيرًا بالمطالبة بمكانة خاصّة بين فنون اللغة، ولا سيما بين الفنون كلّها. في البداية، رضِيتِ الرواية بأن تُضمِّنَ العَملَ مَعرفةً لم تكن أقل دقة وكفاءة، بعد عدم إعلانها بشكل كامل. علاوة على ذلك، وبخلاف الآداب الجميلة المحكومة بقواعد معلنة، وبقوانين مكتوبة، ظلت الروايةُ لمدة طويلة مُستنكرةً، مَنبوذةً من المتخصصين، مضروبًا عليها الصمت، ولا يُشارُ إليها، إلا بشكل محتشم، في كتب الشّعرية والبلاغة. هذا الفراغ هو الذي أدّى إلى عدم الاهتمام النظري بالنوع الجديد، وكرّس تواضعه.

الغيابُ المطوّل لقانون مكتوب، الذي، علاوة على ذلك، لم يمنع الرواية من أن تَتطوّرَ، وأن تَحتلَّ في النهاية مكانةً وازنةً بين الآداب الجميلة، أتاحَ المجالَ لأن يَتشكّلَ، ضمن هذا الجنس الأدبي، تقليدٌ من التفكير قَصير الأمد وعلى نطاق محدود. بسبب غياب سَنن موروث، استفادت الرواية خلال تطورها من غنى الأشكال السّردية المتاحة.

 

في ظلّ النظام العرفي للرواية، كان نَسقُ الأجناس الصغرى يَتطورُ بالموازاة مع تنوع الخلق، وغنى السجلات الثيماتية، ومع القدرة على التكيفِ السّريع معَ انتظارات الجمهور.

 أيضًا، قبل القرن الثامن عشر، كانت قوة الرّواية كامنة ليس فقط في مجموعة من القواعد الواضحة، وإنما كانت كذلك في قوة وتنوع الممارسات المتبعة. العديدُ من هذه الأنواع، بدءًا من رواية المغامرة المثالية (رواية الحب، رواية الفروسية) إلى المحكيات السّاخرة (الشطار، والكوميديا الجديدة)، مرورًا بالمحكيات الرّعوية، والسّرد التعليمي، وقصص الرّثاء والتراجيديا الجديدة، شكلت مجموعةً دائمةَ الحساسية للظروفِ السّابقةِ والحاليةِ.

أثبتت ممارسة الرواية دائمًا قدرتها على التكيّف مع تنوّع الظروف والحاجات المختلفة لجمهورها، كما عرفت بدورها كيف تَصنعُ الحلم والبكاء والضحك والتأمل. إنَّ قواعدَ هذه الممارسة، التي غالبًا ما تُدمَج خِلسَةً في الأعمال نفسها، لم تتخذ في عدّة مناسبات نادرة شَكلَ النظرية أو الخطاب الدوغمائي، وإنما اتخذت شكل المقدّمات أو التعليقات المصاحبة للأعمال الجديدة.

 إلى حدّ ما على طريقة التفكير القانوني في بلدان حيث يَسودُ القانون العرفي، الذي يعبّر عنه ليس بالبنود، وإنما بالديباجات والمصطلحات المرتبطة بأحكام الظرف. ولعدم خضوع الرّواية للنظريات الموضوعة، ولكن الموجودة خارج الممارسة، لم يكن عليها أن تُحاكي أعمالًا قديمة عفا عليها الزمن، أعمالًا تَستثمرُ فيها مثل هذه النظريات دائما دَورَ النماذج، وإذا كان من المؤكد أنَّ للروائيين دائمًا ذلك التحدّي تجاه ضغط نجاحات الماضي، فإنّ قوةَ النموذج لم تصبح قط ذات سلطة لا تقاوم أمام هيبة القانون المكتوب.

كان خيارُ الرواية أن تُحكمَ وفق نظام عرفي، هو الذي أتاح لها أن تُنجزَ بنجاح التحولات الثلاثة العميقة خلال تاريخها. هذه التحولات التي نفّذت بطريقة هادئة بِفَضلِ المبادرة العملية للكتاب، كان لها، مع ذلك، تأثير كبير: التحول الأول خلال القرن الثامن عشر، الذي وزّع بشكل متساوٍ فرص العظمة الروائية بين كل الطبقات الاجتماعية والإثنية، قَلبَ بشكل عميق التوازن بين الأجناس السّردية الصغرى ما قبل الحديثة.

 أما الثاني، ومع ظهور الواقعية الاجتماعية في بداية القرن التاسع عشر، فقد وَحّدَ بشكل دائم جنس الرواية. والتحول الثالث الذي أدّى إلى ظهور الحداثة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أعادَ تشكيل الخصوصيات الجمالية لجنس الرّواية. ومع ذلك، وبعيدًا من أي استبعاد كلي للماضي، فإن هذه الطفرات التي حققتها الرواية استندت إلى المسار البطيء الذي سلكته الممارسة العرفية منذ أجيال، وأرست متطلباتها المعيارية الجديدة على الأسس التي وضعتها هذه الممارسة في السّابق.

القوة الأخلاقية للفرد

وفقًا للمعايير الجديدة تَعزّزَ تَأكيدُ الرواية إلى حدّ كبير عندما جعلت، خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، موضوعها القوة الأخلاقية للأفراد، وتَجَذّرَهُمْ في العالم الذي يعيشون فيه، لتشهدَ، مع ذلك، نوعًا من التراجع مع ظهور الحداثة. قبل القرن الثامن عشر، عندما كانَ الناسُ يَقيسونَ قيمةَ الفنون وتميزها بصرامة القواعد التي تحكمها، لم يكن للرواية أيّ سبب للشعور بالضّيق إزاء الأنواع الأدبية التي كانت تُعتَبرُ راقية، والحالة هذه الملحمة والتراجيديا، هذه الأنواع التي قُوِّضتْ حيويتها تدريجيًّا في نظر الجميع بسبب الصّعوبات المعيارية المرتبطة بها.

 في ظلّ النظام العرفي للرواية، كان نَسقُ الأجناس الصغرى يَتطورُ بالموازاة مع تنوع الخلق، وغنى السجلات الثيماتية، ومع القدرة على التكيفِ السّريع معَ انتظارات الجمهور. في الآداب الجميلة ما قبل الحديثة، المؤسّسة على المراتبية النوعية التي لم تكن عرضة للتغيير، لم تهتمّ الرواية بالطموح إلى اكتسابِ مكانة عاليةٍ.

تلك المكانة التي، مع كل شيء، ظلت غارقة في الواجبات والأعباء. الرواية تَزدهرُ بالفرح بشبابها.

بالفعل، في نهاية القرن السّابع عشر بدأت الرواية في الابتعادِ من هذه الحقبة السّعيدة، حيث حُدِّد جزء كبير من إنتاجها بمصطلح «الروايات القديمة». لم تكن هذه الروايات قديمة حقًّا، لكن العديد من القرّاء والكتاب لم يعودوا يعرفون كيف يحافظون على الحماس بهذه الطاقة التي لا تنضب للفرسان المتجولين، وبهذا التأثير القوي للأبطال الشجعان، وبنبل الفضائل الرّعوية. إن الابتعاد النبيل من الأكوان المتخيلة التي أنشأتها الروايات القديمة، وثراء الخلق، وتجميل المشاعر، وأناقة الكلام، باختصار، الاعتيادُ على وضع حياة ذات طابع مثالي -كل هذه السيطرة للشعر والخيال على نثرية الحياة اليومية تُخُلِّيَ عنها تدريجيًّا. ولتسويغ هذا التخلي، أعربنا عن أسفنا لعدم قدرتنا على ذلك، متناسين أنه استجاب لحاجة عميقة لدى الرجال والنساء، التي هي إضفاء التعالي على الهُنا والآن، والتحرّر من قبضة الفورية، ولو بطريقة رمزية وعابرة.

بعد محاولاتِ بحث طويلة، أعادت رواية القرن الثامن عشر قراءها مرّة أخرى إلى الفورية، وبيّنت أن هذا النّأي عن الخيال هو انتصار للفطرة السليمة، كما ذكّرتهم أنهم عاشوا في هذا العالم، وليس في عالم آخر، الأكثر جمالًا والأكثر سخاءً، وقدّمت هذا الامتثال للنظام التجريبي على أنه تَقدّمٌ أخلاقي.

 باعتمادِها المحتمل معيارًا، ابتعدت الرواية بحركة واعية وحاسمة بشكل متزايد مما بقي من الأدب، وبالطبع من الروايات القديمة المشبعة بالمثالية. من المؤكد أن هذا المسار عَرفَ الكثير من التعرّجات، وأنّ فقدان المكانة الذي طال الروايات القديمة كان بطيئًا وتدريجيًّا، وليس من غير الصّحيح أنه في القرن التاسع عشر، عندما نَقيسُ أخيرًا أهمية المسار المتبع، نَعتقدُ أن الفاتورة الجديدة قد أبطلت بالفعل، بل ألغت الطرائق القديمة المؤسّسة على اللامحتمل.

التفوق الجوهري للأجناس

مقتنعة بالتقارب بين هذا التحول العميق ومجيء العالم الحديث، اكتسبت الرواية ثقة كبيرة في نفسها وفي رسالتها التاريخية. مُذ ذاك توقفت عن الاعتقاد بالتفوق الجوهري للأجناس الأدبية التي يعدها البعض راقية قياسًا إلى الأنواع الأخرى. في عصر تكافؤ الفرص، والتوزيع الدائم للشرف، احتُفِلَ بقيمة النجاحات الأدبية العظيمة مقارنة بالأعمال المتواضعة، ومُنحَ جميع الأنواع الحقّ في أن تُبدعَ روائعها.

نظرًا لأن ما يُثمَّن من الآن فصاعدًا هو النجاحات الكبيرة، وأيًّا كان النوع الذي تنتمي إليه. وبما أنّ فن الرّواية كانَ يَرتكزُ على التقاط حقيقة العالم الجديد، فقد أكّد هذا النوع بقوة على حقوقه في الارتقاء الفني. كانت قضية الرواية منذ هذه المرحلة، ليس فقط هي معرفة ما إذا كانت الرواية تمتلكُ شَرفَ الفنون الحقيقية (لأنها اكتسبته للتوّ)، ولكن فهم كيف كان من الضروري عليها أن تَتصرّفَ لضمان تفوقها ضمن الآداب الجميلة: ما العمل، من ناحية أخرى، لإبداع روايات تتعين بوصفها روائع حقيقية؟

لإنتاج مثل هذه الأعمال، يُجيبُ رواد الواقعية الاجتماعية والنفسية، بأنه يتعيّن على الكاتب أن يُنجزَ فنّه، وأن يكشف بطريقة فعالة حقيقة العصر الحديث: لذلك كان عليه، أولًا، أن يَمنحَ جميع الرّجال القوة الأخلاقية التي كانت إلى عهد قريب حكرًا على الأبطال الاستثنائيين، وأن يخضعَ بدقة، ثانيًا، الإبداع للملاحظة التجريبية، واللغة للبساطة والرّزانة. ويُمكنُ لتقنية الملاحظة التجريبية أن تَعكسَ اهتمامات الناس اليومية، التي يعبّر عنها بالثرثرة وكذلك بموضوعية العلم. وبالفعل قام نثر القرن التاسع عشر بكليهما في الوقت نفسه.

الأسلوب، من جانبه، صارَ على غرار اقتصاد اللغة المحكية، واقتصاد القانون المدني. ينبغي أن يُستبدَل بتصورات الروايات القديمة حول الحرية والقوة والكرم -الصفات التي أعيد توزيعها بطريقة ديمقراطية من خلال روايات القرنين الثامن عشر والتاسع عشر- تفكيرًا محايدًا في فضائل وأخطاء البشر الحقيقية، وفي علاقاتهم الملموسة بالمجتمع والطبيعة.

 لقد دُعِيَ الكاتب لتسليط الضوء على المنظور الفردي، ولتأكيدِ تجذّر الرجال والنساء في المحيط الاجتماعي. أصبحت رسالة العمل الروائي العظيم ترتكز على ربط الإنسان الفردي بموضوعية العالم.

أُنتِجت الأعمال التي أدت هذه المهمة بشكل مثير للإعجاب في كثير من اللغات، ولم يظل نجاحها الهائل من دون تأثير في ذاكرة النوع. تحت تأثير هذه الأعمال، قُسِّمَ تاريخ النثر السّردي مرحلتين متتاليتين: عصر الكذب الروائي، الحقبة التي ركزت على الخطيئة والخرافة، والعصر الجديد عدو الظلام، ومروّج الأسلوب الحقيقي للرواية.

كما هي الحال دائمًا في مثل هذه الحالات، يتردّد المرء بين الرفض المطلق للماضي والتعويض عن ذلك بالامتنان لعشيرة صغيرة من المتقدّمين. كان هذا الامتنان أسهل في تحقيقه؛ لأن جذور الواقعية الاجتماعية والنفسية قد تسللت بالفعل إلى الرّواية الحديثة.

لكنّ ما زال من الصّعب الاعتراف به، هو أن مثالية رواية الفروسية، والرواية البطولية والرّعوية، استمرّت في الوجود داخل النظام الجديد.

وعلى الرغم من كلّ التوقعات، أظهرت هذه المثالية حيوية كبيرة: لم تستمر الأعمال السّردية المخصصة للاستهلاك الشعبي في تلبية الحاجة إلى تَخيّلِ عالم أفضل من العالم المحيط بنا فحسب، بل يكفي النظر بإمعان للروايات الأكثر نجاحًا خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ لإدراك أنها احتفظت، وفق الطبيعة التداولية والعرفية للنوع، بشيء من اللامحتمل المميز للطرائق القديمة؛ لذلك، جميع كبار روائيي القرن التاسع عشر، كانوا قد قرؤوا وتأملوا هيلويز الجديدة، ذلك العمل الذي يَدينُ بشكل كبير للروايات القديمة البطولية والرعوية.

 يكفي أن نزيح الأمير ميشكين قليلًا حتى يتبدّى، من خلال الملامحِ، الوجه المتواري لـأماديس دوغول، ويكفي مَسحُ صورة دوروثيا، بطلة رواية مدل مارش لجورج إليوت، حتى يتلمّس المرء هناك روعة شخصيات

الرّواية الهيلينية.

* المصدر:

– L’art de la vraisemblance, In, Thomas Pavel, La pensée du roman, Editions Gallimard, Paris 2003, pp17-22.

 

  • توماس بافيل، منظر وناقد أدبي روماني، وأستاذ الأدب المقارن بجامعة ميشيغان.

 







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي