رواية "المحيط الإنكليزي" للبحريني فريد رمضان: التاريخ الذي نعيشه الآن

2020-07-25

يوسف أحمد مكي*

بداية بمجموعته القصصية «البياض» عام 1984، لم تتوقف مسيرة الكاتب البحريني فريد رمضان عن فتح آفاق سردية مختلفة، وصولاً إلى روايته الأخيرة «المحيط الإنكليزي» والصادرة عام 2018. وما بينهما العديد من الأعمال، منها.. «التنور غيمة لباب البحرين» 1994، «نوران» 1995، «البرزخ.. نجمة سفر» 2000، «السوافح ماء النعيم» 2006، «رنين الموج عن سيرة القرية المنسية وكائناتها العاشقة» سنة 2012.

المحيط الإنكليزي

تتميز رواية «المحيط الإنكليزي» بالضخامة، من حيث المساحة الجغرافية والشخوص الكثيرة، فتشمل مساحة شاسعة من شرق افريقيا، مرورا ببحر العرب والمحيط الهندي والهند وجوادر وفارس ومكران وبلوشستان، الموزعة بين باكستان وإيران، والخليج وعمان والبحرين، وبعض نواحي الجزيرة العربية مكة وجدة. كذلك الكم البشري الذي تناسل، ودخل في نسيج الرواية، والذي يشمل العديد من الأجناس والأعراق: العرب والعجم والبلوش والهنود والافارقة والبحرينيين والعمانيين والأوروبيين، والنساء والرجال الأحرار والعبيد، مع قدرة الكاتب على الإمساك بكل تقاليد وطقوس هذه الشعوب، وإثنوغرافياتها ممثلة في أساطيرها، أديانها، مذاهبها، سحرها، خرافاتها وطقوسها.

والأكثر من ذلك الإمساك بتطلعاتها وذنوبها وأحلامها المكسورة، وفي الأخير يأتي المعنى الاستعماري الذي يشي به العنوان. فلم يقل المحيط الهندي، بل المحيط الإنكليزي، ذلك أن هذه البقعة كانت خاضعة لسيطرة بريطانيا العظمى، خلال الفترة الزمنية التي تستغرقها الرواية حوالي أربعين عاما، منذ سنة 1896 حتى سنة 1935، كما أن العنوان لا يعني المحيط الهندي فقط، بل عنى البر والبحر اللذين سيطر عليهما الإنكليز خلال هذه الحقبة المهمة من تاريخ المنطقة، فهو حقا المحيط الإنكليزي.

ومن خلال ما يزيد على أربعمئة صفحة تُنسج أحداث وأماكن وشعوب وإثنيات وأعراق وقضايا إنسانية وسياسية وثقافية واستعمارية، ومقارنة ضمنية بين الأديان والملل والنحل كالزرادشتية والوثنية المشوبة بالسحر في مجاهل افريقيا والمسيحية والإسلام، وفهم كل من هؤلاء لعلاقته مع الله والأقدار.

الوطن المفقود

تبدأ الرواية بتحطم سفينة عربية في المحيط الهندي، وهي سفينة يملكها أحد الربابنة العرب، تنطلق من جزر زنجبار من مدينة (ستون تاون) وهي محملة ببضاعة وبشر وعبيد ونساء ورجال وأطفال، بقيادة الربان عبد الله التوانقي العماني.

تغرق السفينة لسبب أو آخر، ومع أن الرواية لا تذكر السبب في غرق سفينة العبيد، لكن القارئ يستشف أن الإنكليز يعرفون السبب وربما يكونون هم السبب في غرقها، تتعلق بتجارة العبيد. هذه السفينة التي يتم إنقاذ ركابها من قبل سفينة إنكليزية، البارجة «فكتوريا» في عرض المحيط، وتذهب بركابها، خاصة العبيد إلى عمان، حيث تبدأ أحداث ذات علاقة بالتبشير، وظهور شخصية المبشر بيتر زويمر، وإنشاء مدرسة العبيد المحررين، ثم تنامي الرواية.

وعلى الرغم من العدد الكبير لشخوص الرواية فإن الراويين الرئيسيين في رواية «المحيط الإنكليزي» هما يوسف ومباندا، مع حفظ أدوار بقية الشخصيات في الظهور والاختفاء في الرواية، حسب الوظيفة المطلوبة لكل شخصية على حدة من جهة، وفي علاقتها بالآخرين من جهة أخرى.

استطاع فريد رمضان في روايته الضخمة، أن يشبك علاقات إنسانية في ما بين شخوص الرواية، ويبرز العديد من الجوانب الوجودية للأشخاص كما هم من حيث انتماءاتهم ومناطقهم وتقاليدهم وتطلعاتهم. والعلاقة بين ما كانوا عليه من أسماء وأصبحوا عليه بعد تبدل أحوالهم وغرق سفينتهم. فضلا عن التنافس والصراعات ومفاهيم التدين، والحرية والعدالة، ودور المبشرين في استغلال أوضاع العبيد في إدخالهم إلى المسيحية، وإن التحرر مرتبط بالدخول في ديانة الرب، كذلك إبراز الصراع في ما بين العبيد أنفسهم، بغض النظر عن قومياتهم وأعراقهم، حيث يوجدون ما بين البلوش والعرب والعجم والهنود، وفي الوقت نفسه ذلك التفاهم في ما بينهم في أحيان كثيرة، بغض النظر عن أصولهم، حيث الوضع الوجودي واحد: هجرة وغربة واجتثاث وإذلال وأحلام ضائعة.

 

في الرواية تفاصيل هائلة تنم عن قدرة كبيرة لدى رمضان في استيعاب تاريخ المنطقة، خلال الفترة الإمبريالية البريطانية، وكل ذلك يتم من خلال سرد أدبي رفيع، يتداخل فيه الحلم مع الواقع، وإبراز ما هو جوهري في الوقائع والأحداث، بدون الوقوع في التقريرية.

 تنويعات الغربة

استطاع رمضان أن يسرد ملابسات الغربة، من خلال عدة مستويات: غربة في المكان، حيث الهجرة من افريقيا إلى عمان مطرح مثلا، ومن قرية سقر في مكران إلى غوادر، ومن غوادر وسقر إلى عمان، ثم إلى البحرين ومن هذه إلى جدة ومكة والمدينة، ثم من البحرين إلى زنجبار لينتهي المطاف بالحكاية على لسان عبد الله بن يوسف، بدلا من أبيه يوسف، الذي يعرف في مدينة ستون تاون بعبدالله البحراني العماني أصلا.

غربة في الزمان، حيث الذاكرة لكل شخوص الرواية مشتعلة بين مناطق تواجدهم الأصلية، وما هم عليه في مناطق الهجرة أو التهجير الجديدة، حيث أصبحوا موزعين بين عوالم كانت، وعوالم جديدة فيها أحلام، وفيها تمييز طبقي صارخ، وفيها استعباد منقطع النظير، خاصة لأجساد النساء وامتهان كرامتهن. وأخيرا غربة في الوعي واللاوعي، حيث بعض الشخوص، خاصة أولئك العبيد المحررين بصكوك دار الاعتماد البريطاني في عمان والبحرين، لدرجة انهم لا يعرفون هل هم مسيحيون، بعد أن أنقذتهم البارجة البريطانية، وتبنتهم وأدخلتــهم إلى المسيحية، بدلا من الوثنية، أو هم مسلمون وقد دخل بعضهم إلى المسيحية.

في الرواية تفاصيل هائلة تنم عن قدرة كبيرة لدى رمضان في استيعاب تاريخ المنطقة، خلال الفترة الإمبريالية البريطانية، وكل ذلك يتم من خلال سرد أدبي رفيع، يتداخل فيه الحلم مع الواقع، وإبراز ما هو جوهري في الوقائع والأحداث، بدون الوقوع في التقريرية.

فنقرأ تاريخ أمم ممثلة في شخوص الرواية، وكيف استطاع الإنكليز أن يرسموا تاريخ هذا المحيط بكل مناطقه المائية واليابسة. نقرأ كيفية تداخل شعوب وأعراق هذه المنطقة. ولم تنس الرواية أن تستوعب تاريخ البحرين خلال الثلث الأول من القرن العشرين وتربطه بالرواية، من حيث الأوضاع الاجتماعية، ودور الإرساليات، وكذلك دور علية القوم، خاصة في ما يتعلق بالعبودية والاسترقاق والتمييز الطبقي، واسترقاق النساء، كما الإشارة إلى أهم الأحداث التي مرت بها البحرين، خاصة في ما حدث بين النجادة والعجم.

لكن الرواية وهذه نقطة الضعف فيها لم تتطرق إلى أهم حدث في البحرين، الذي يتقاطع مع الأشخاص ومواقعهم والأحداث ونتائجها، خاصة مع شخصية عبد العزيز بن يحيى الرمي. قصدت أحداث 1923، حيث تم تنصيب الشيخ حمد بن عيسى حاكما للبحرين، بدلا من أبيه الشيخ عيسى بن علي.

فقط للإنسان

استطاع فريد رمضان أن يكون موضوعيا وحياديا في نمو شخصيات الرواية، وأن يقف على المسافة نفسها من كل الشخصيات، بدون أن يتحيز إلى أي منها، لكن روايته بمجملها متحيزة لما هو إنساني، وكان متعاطفا مع شخوصه، لدرجة وأنت تقرأ الرواية تشعر بمدى تعاطف الكاتب، من خلال شخوص الرواية مع المغبونين والمنبوذين وضد التمييز الطبقي والاجتماعي، ولكن بشكل يشي بذلك ولا يقوله مباشرة. كذلك تأتي النقلات بين الفصول سلسة، وما الترقيم الوارد في كل فصل من الفصول التسعة التي تحتويها الرواية إلا من باب إعطاء النفس للقارئ، فهي عمل ذو نفس واحد متكامل وطويل.

«المحيط الإنكليزي»، تؤسس لنمط مختلف من الكتابة الروائية، التي تستلهم التاريخ مضمخا بالخيال والحلم والتفاصيل الحقيقية والمخترعة، في الوقت نفسه، كما تستلهم التاريخ في خطه العام، ولكن بدون أن تقع في الكتابة التاريخية.

 

  • كاتب وسوسيولوجي بحريني









شخصية العام

كاريكاتير

إستطلاعات الرأي