انتحارٌ... وقصص أخرى قصيرة جدًا

2020-07-25

نجوى مصلية*

 

انتحار

اتجه إلى منزله يرغي ويزبد، وكأنه شيطان في ثوب إنسان. كان غاضبًا جدًا من ابنه الذي وصله خبر رسوبه في الامتحان النهائي. سنة كاملة وهو يشقى ويعمل بلا ملل ولا كلل من أجل أن لا يحتاج هذا الولد العاق لأي شيء، فقط كان عليه أن يجتهد لينجح. أين ذهبت نقود الساعات الإضافية التي كان ينفقها عليه؟ وكيف يبرر بقاءه خارج البيت إلى حدود ساعة متأخرة من الليل بدعوى حضوره لهذه الساعات؟ أكان يكذب عليه ويغشه؟ فكر: إنه حقًا ولد عاق وغير جدير بالثقة أو بالاهتمام. فليذهب إلى الجحيم!

عندما وصل إلى البيت، أخرج المفتاح من جيبه الأيمن، فتح الباب، قابلته زوجته بابتسامة رقيقة. لم يعرها اهتمامًا. توجه مباشرة إلى غرفة ابنه ليوبخه على نتيجة الامتحان. فتح باب الغرفة. صعقه المشهد. كان أيمن معلقًا بحبل من رقبته وقد ذهبت روحه إلى بارئها.

أحذية

كل المحلات كانت مغلقة بقرار من السلطة. وحده ذلك المحل الوحيد في شارع قد ماتت الحياة فيه كان مفتوحًا. لا أحد يدخله خوفًا من وباء صار يحصد الأرواح كل يوم. الكل يتجاهله إلا صاحبه الذي يواظب على فتحه كل صباح لإعادة الحياة في أحذية لم يعدْ أحد يهتم بها. صوت المقرئ لم يجلبْ له الحظ، ولم يجذبْ زبونًا إلى محله.

بعد أسابيع من الحجر الصحي الذي فرض على الناس البقاء في البيوت، وعدم الخروج من أجل قضاء مآربهم، صار الخوف يستبد بالرجل من المستقبل. لم يعرف أيستمر في فتح محله؟ أم أنه مدعوٌ إلى إغلاقه والبقاء في البيت بدوره حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا؟ في النهاية، استقر رأيه على الإغلاق.

بعد عدة أيام فقط قضاها في بيته، عازلًا نفسه عن الجميع، قرر العودة إلى محله. وصل إلى المكان الذي يوجد فيه محله. وجد كل شيء قد تغير. لم يعدْ المحل في مكانه، ولا الشارع نفسه، ولا حتى المحلات الأخرى والمباني المجاورة هي نفسها. كل شيء تمتْ تسويته بالأرض. لم يكنْ هناك أحد ليستفسره عن الأمر. سقط مغشيًا عليه. ثم ماتْ.

عجوز

كلما مررتُ في الشارع المزدحم من دون أن أبالي بتلك العجوز التي تجلس أمام باب الجامع الكبير، شعرتُ أنني مراقَبة من طرف شخص معين. كانت تراقبني كل مرة وأنا أدخل إلى أحد محلات بيع الملابس، أو أخرج منه من دون أن تكلمني. كانت تكتفي بالنظر إليَّ بعينيها الداخلتين في تجويفيهما ولا تكادان تظهران للرائي.

وفي يوم من الأيام، وكالعادة وأنا أعبر الشارع، سمعت صوتًا متقطعًا يناديني: يا ابنتي! يا ابنتي! ولما حولتُ نظري إليها وجدت العجوز مستلقية على الأرض، وبعض النقود منتشرة أمامها، وهي تشير بأصبعها إلى الزحام من دون أن تنبس بكلمة أخرى. لم أستطعْ فهم ما تقصده، وقلتُ لها:

ــ ماذا.. ما بكِ يا أمي؟ هل تريدين شيئًا؟

لم تقل شيئًا، وتجاهلتْ سؤالي. ثم أشارتْ مرة أخرى إلى شاب كان يجري كالسهم مبتعدًا عنا. كانت تشير إلى لص سرقها وهرب. كانت تشير إلى سراب! إلى فراغ إنساني! إلى حقد بشري أعمى البصر والبصيرة!!

علوٌّ مستحيل

من نافذة غرفتي تبرز لي النجوم والكواكب منتشرة في صفحة السماء الزرقاء كأنها لآلئ تزين لباسًا أنيقًا. أشعر أحيانًا كأنني طائرٌ جميل يحلق في سماء الله الواسعة بحرية مطلقة، بل أشعر في أحيان أخرى مثل مخلوق رباني ألمس مجرة عظيمة بيدي النحيلتين. من المكان نفسه، أحس أني أعيش في جنة الله التي كتبها لنا نحن المبدعين الحالمين. تلك الجنة التي رسمها أكبر فنان في الكون، فأبدع تصويرها واستعارتها. لستُ حمقاء أو مجنونة، بل ما زلتُ أحمل عقلًا مفكرًا لحد الآن، ولم أفقدْ سيطرتي على ذهني المتوقد بعدُ.

ما زلتُ أؤمن بعظمة العلو والمكان الشاهق. يجعلني أقترب من الله كثيرًا، لأقول له ما أعجز عن قوله وأنا في الأسفل. أشعر باختلاف كبير ولا محدود عندما أكون في مكان شاهق، ولا أعرف إن كنتُ أستطيع الاستمرار في ذلك، أم لا؟

أنا الآن في المجرة المجاورة ممتطيًا ظهر الطائر الخرافي، وكل المخلوقات وديعة ومسالمة. استغربت كثيرًا من وداعة الأسود والذئاب، ومن صراحة الثعالب والكلاب، ونباهة الحمير والنعاج، وعدل بني الإنسان، أصبحت غريبًا بين هذه المخلوقات العظيمة، وهي أيضًا أحست بذلك، وعرفت بأني مخلوق من الأرض، فخافت أن أدنس عالمها، ثم اختفت من وجهي!

في المجرة الأخرى، لا يوجد سجن، ولا محكمة خاصة، ولا عامة. كل المخلوقات تحكمها الضمائر والقيم. لا تفرقة، ولا حروب، ولا أحقاد. أحب أن أعيش فيها قليلًا، ولكني من الأرض. وهي تعرف أن سكان هذا الكوكب يدنسون كل الأمكنة حيثما رحلوا وارتحلوا، لذلك تخليت عن فكرتي. حاولت أن أتقرب من النجوم، لكنها صدتني، ومن القمر فسود وجهه في وجهي، ومن الكواكب فلفظتني، إنها لمهزلة حقًا...

 

  • كاتبة من المغرب.






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي