مصطفى عبيد*
أحيانا نجد تقييمات غريبة للأدب لا علاقة لها بالجمالي ولا الفكري ولا الفني، من بين هذه التقييمات ما تتعرض له بعض الروايات العربية الجديدة، حيث يقع تقييمها من خلال الحجم، كلما كانت الرواية أكبر و”أسمن” وأثقل حجما كانت أفضل عند البعض. قد نفهم هذا التقييم من قارئ ناشئ يبحث عن استمرارية الخيال والغرق في عوالم السرد، لكن أن يتسرب إلى لجان تحكيم الجوائز العربية الكبرى فهو أمر يدعو إلى وقفة تأمل.
لا أضرب وَدع المزاج الإبداعي، ولا أدعي قراءة القادم، ولا أتنبأ بتحولات الذائقة الأدبية لدى الناس، ولا أزعم القدرة على معرفة ما يسود في الغد من فن أو لون أو أسلوب أدبي، لكن أستقرئ الصعود والهبوط في ألوان الكتابة وفنون السرد وفق انطباعات القراء ومناقشاتهم العفوية.
لست سوى قارئ خطفته الكتابة فأبحر خلف سحر الحروف أو كاتب أضاءته القراءة ليبصر ما وراء الكلام، أتحسس بأنامل الشوق وأتعرف بشغف المتابعة على تطورات فنون السرد في سوق الكتاب الفسيح.
شرط غير مكتوب
قبل خمس سنوات سألت شابا عشرينيا قابتله مرارا في حفلات توقيع روايات أجيال عديدة من الروائيين المشاهير بالقاهرة عن السبب الذي يدفعه، وهو قارئ نهم، إلى تفضيل الرواية على ما عداها من فنون أدبية، فقال لي “لأنها كالأفيون أو أشد خدرا، تسافر بصاحبها بعيدا عن عالمه المُحزن، وتضعه في قلب قصة أخرى تشهد انتصارات وانكسارات، فينسى أوجاعا ويغادر هموما تحاصر معشر الشباب كل يوم”.
أتذكر أنه أضاف من عنده أن ولعه بالرواية كبير، لكن ولعه بالرواية الضخمة المطولة أكبر، لأنه يغيب معها عما حوله وقتا أطول، فكلما تضخمت الرواية زاد الخدر وطال الهيام واشتد الإعجاب بصاحبها.
لجان تحكيم الجوائز صنعت الروايات السمينة كلعبة للتخدير، والرواية التي يمكن تلخيصها تساوي بالضرورة لا رواية |
يبدو أن الفكرة ذاتها كانت شائعة لدى الكُتاب ودور النشر، لذا لم أستغرب ما قاله لي روائي شهير دخلت إحدى رواياته القائمة القصيرة للبوكر العربية قبل عدة سنوات من أن هناك شرطا ضمنيا وغير مكتوب للرواية الفائزة بأي من الجوائز ذات الحيثية في عالم الثقافة العربي، مثل البوكر وغيرها هو ألا تقل عدد كلماتها عن خمسين ألف كلمة.
بالفعل حكت لي ناقدة أدبية معروفة شاركت في تحكيم إحدى الجوائز في ذلك الوقت بأن تصفية الأعمال المقدمة للجائزة تبدأ أولا من حيث الشكل قبل أن تمتد إلى المضمون، وأول محددات الشكل أن تزيد الرواية عن خمسين ألف كلمة.
يبدو أن ذلك كان موصولا بتأثر واضح بالأدب الغربي الكلاسيكي الذي كان يفضل الرواية المطولة، أو النص السمين كما يحلو للبعض تسميته، وحتى في عصر الحداثة وما بعد الحداثة كانت الرواية المطولة هي الأكثر تناسبا مع المزاج العام السائد، خاصة مع تطور الحياة ونشوء تفاصيل عديدة يمكن أن تُضاف لمنح النص قدرا من الواقعية.
اضمحلال النوفيلا
إذا كانت الرواية القصيرة أو “النوفيلا” قد نشأت كحالة وسط بين فني القصة القصيرة والرواية التقليدية للتعبير عن حدث ما بتفاصيل أكبر مما يُمكن أن تقدمه القصة القصيرة، وأكثر اختصارا مما تتسم به الرواية، ولاقت قبولا واسعا بين جمهور القراءة والمثقفين زمنا طويلا، فإن شرط عدد الكلمات الكبير لدى دور النشر ولجان تحكيم الجوائز الكبرى أدى إلى اضمحلال فن “النوفيلات” رويدا، فهجره الكثير من الروائيين ربما تحت لهفة التوافق والتكيف مع شروط الجوائز الرفيعة، فآثروا كتابة ونشر الروايات الضخمة التي يصل بعضها أحيانا إلى أكثر من مئة ألف كلمة.
سنوات مضت، وربما عقود، والرواية القصيرة مستبعدة تماما من غالبية ترشيحات الجوائز العربية، على رأسها البوكر، ومنذ إعلان هذه الجائزة في عام 2007، وحتى 2019، لم تفز بالجائزة أي رواية قصيرة، بل لم تدخل ضمن القوائم القصيرة للجائزة ولو “نوفيلا” واحدة.
بدءا من عام 2018 كانت ثمة ملاحظة جديرة بالاهتمام تمثلت في حدوث انخفاض واضح في أحجام روايات القائمة القصيرة إلى درجة أن ثلاث روايات من أصل ست روايات في ذلك العام جاءت صفحات كل منها أقل من مئتي صفحة، لكن المفاجأة الكبرى حدثت عند إعلان الرواية الفائزة بالبوكر في 2019 لنجدها رواية قصيرة لا تتجاوز 128 صفحة، وهي “بريد الليل” للروائية اللبنانية هدى بركات، مقابل 343 صفحة لرواية “حرب الكلب الثانية” للروائي الفلسطيني إبراهيم نصرالله، والفائزة في 2018، و592 صفحة لرواية “موت صغير” للروائي السعودي محمد حسن علوان، والفائزة بالجائزة في عام 2017.
تحول ثقافي
لا شك أن ذلك بدا تحولا عن الشرط السابق الذي كانت دور النشر تحاول الالتزام به، كأنه أشبه بقانون عام للروايات الناجحة ككل، وكأن القائمين على الجائزة أدركوا أن ثمة تغيرا في ذائقة الإبداع الروائي بشكل عام، فعبروا عنه بعدم الخضوع لاشتراطات يرونها قابلة للتغير والتحديث، وربما قرروا العودة إلى الفكرة السابق طرحها من قبل التي ترى أن الجمال الإبداعي لا علاقة له بطول أو قصر النص. يحسب الجمال جمالا وفقا لأثره لدى المتلقي، وبحسب الانطباع الذي يتركه لدى المستقبل، وفي الغالب فإن الشروط الشكلية لأي نص هي بالضرورة قيود مكبلة للإبداع وسمات دافعة إلى الجمود.
من الملاحظ أن الكثير من روايات الشباب الساعية للتجريب تركز على فكرة استيعاب أدق التفاصيل، ما جعل روايات كثيرة مطولة وليست طويلة، بمعنى استهداف إطالة النص، بغض النظر عن جدوى تلك الإطالة من الناحية الجمالية، وهنا فقد تولد مصطلح شعبي لتوصيف ذلك هو “النصوص ذات الكروش” أو النصوص المنتفخة، وهي النصوص القابلة للتلخيص.
في هذا السياق، تحضرني مقولة للروائي والناقد الأدبي مصطفى بيومي، مفادها أن الرواية التي يمكن تلخيصها تساوي بالضرورة لا رواية، فربما هي حكاية مدهشة أو مسلية، وتتضمن في طياتها تشويقا، لكنها يقينا لا تنتمي إلى الجمال المفترض رسمه من خلال فن الرواية.
قد لا تساعد الرؤية السابقة المفسرة لالتفاف الشباب في العالم العربي حول فن الرواية سعيا إلى الهروب خياليا من واقع غير مقبول إلى عوالم أكثر قبولا، على نشوء فن خلاب ومبهر وخالد مع الزمن وقادر على بث معان ساحرة وجدير بالتأثير في الناس.
هي أشبه بلعبة إشغال أو إلهاء لا تغير في وجدان البشر قيد أنملة، ولا تفتح أمام أرواحهم نوافذ التحضر والتسامح والتآلف مع الحياة والآخرين.
بدأ التحول التدريجي لصالح الروايات القصيرة مبكرا خارج العالم العربي، ثم انتقل ببطء تدريجيا حتى وصل إلينا. ففي أكتوبر سنة 2012 نشر الروائي البريطاني الشهير إيان ماكيوان مقالا في مجلة “النيويوركر” تنبأ فيه بسيادة فن “النوفيلا” مرة أخرى، فصغر النص مبرر كاف لهجوم النقاد الذين يُمكنهم باستسهال أن يعتبرونه خداعا للقراء.
ورأى الرجل أن المؤلفين الموسيقيين سبق وواجهوا مثل هذا النقد عندما قدموا أعمالا قصيرة، لكن الآن من يمكنه التشكيك في عظمة وجمال سوناتات بيتهوفن أو رباعياته الوترية أو الموسيقى المغناة لشوبرت.
أشار ماكيوان إلى أن الرواية القصيرة هي الشكل الكامل للنثر الروائي، وهي لديه بمثابة الإبنة الجميلة لذلك العملاق المترهّل المعروف بالرواية الكلاسيكية، لكنّ هذا لا ينفي أننا لم نعرف عظماء الكتاب إلا من خلال روايات قصيرة مثل “التحول” لفرانز كافكا، أو “منعطف اللولب” لهنري جيمس، أو “موت في البندقية” لتوماس مان.
هناك متطلبات عديدة للاقتصاد في الكتابة الروائية تدفع بعض الكتاب إلى ترشيق كتاباتهم بحثا عن الدقة والوضوح، والإبقاء على بؤرتهم الروائية مصوّبة على صنيعتهم الروائية المميزة ودفعها إلى الأمام بالطاقة الخلاقة للنص، وبلوغ النهايات المأمولة والقارئ قد حافظ على وحدة عقله ولم يبعثر طاقته في بؤر سردية متشظية عديدة، كما تفعل الرواية الطويلة.
الجمال والمتعة
إن “النوفيلات” لا تهيم في الفضاء أو تعتمد اللغة التبشيرية، وتتجنب الحبكات الثانوية والنصوص المنتفخة، والمادة المكتوبة في عشرين ألف كلمة أو حتى ثلاثين ألف كلمة يمكن أن تقرأ في جلسة متصلة واحدة، ما يعني الإمساك بالجمال والمتعة الابداعية بكامل سحرها. ما قاله ماكيوان لم يعرفه سوى المتخصصين، لكن هناك عاملا مهما أعاد التبشير بالنوفيلات في العالم العربي، وهو التوسع في متابعة وقراءة الأدب الصيني خلال السنوات الأخيرة بعد ترجمة نصوص عديدة.
يعتمد الأدب الصيني على الروايات القصيرة منذ أكثر من ستين عاما، ولم يكن غريبا أن نجد أن معظم الأعمال السينمائية الناجحة هناك مأخوذة في الأصل عن روايات قصيرة، فثمة اعتقاد سائد لدى الصينيين أن الصغر قرين الجمال، والصغير بالضرورة أجمل، وكان ذلك دافعا لمعظم الروائيين الصينيين إلى التركيز على كتابة روايات قصيرة، باعتبارها أقرب للناس وأكثر قبولا لديهم.
كان من الملاحظ لدى كبرى دور النشر العربية أن النوفيلات الصينية التي تُرجمت في الآونة الأخيرة لاقت اهتماما كبيرا من جمهور القراء العرب. فرواية “الصبي سارق الفجل” مثلا للأديب الصيني مويان، والفائز بجائزة نوبل للآداب سنة 2012 عبارة عن نوفيلا لم تزد صفحاتها بعد أن ترجمها إلى العربية الدكتور محسن فرجاني، وصدرت عن هيئة الكتاب المصرية سنة 2015 عن 160 صفحة، لكنها حوت تشابكات إنسانية ودرامية اعتبرها الكثير من النقاد مذهلة وساحرة.
الأمر ذاته ينطبق على رواية “الربع الأخير للقمر” للروائي تشيه زيه جيان، وترجمها إلى العربية أحمد ظريف، وصدرت عن دار العربي للنشر ولاقت إقبالا كبيرا ولافتا، ما يجدد التبشير بعودة النوفيلات إلى ساحات الإبداع وبقوة.