لـربما

2020-07-14

 

تمارا محمد*

 

(نافذة.. ستارة… باب)

أمام الساعة المعلّقة على الحائط المجاور لباب المنزل، وقفت لتدرك من خلال عقاربها بأن الليل قد أتى، توجهت نحو النافذة ممسكة بيدها جزءا من تلك الستائر التي تكاد من شدّة لونها أن لا ترى منها شيئاً في الخارج، حينها بدأت باستشعار الزمن الذي ابتعدت عنه منذ فترة بعيدة، ذاك الزمن الذي قررت تناسيه وتركته معلّقاً ما بين النافذة والستارة والساعة المعلقة على الحائط .

(ميس، ميس) – صوت تكاد تسمعه وكأنه يناديها الآن! – يُكمل قائلاً «اقترب دخول الليل هيا اخرجي»، بحذر رمت ذاك الجزء من الستارة الذي تُمسكه أطراف أصابعها بعيداً متوجهة نحو مقعدها، الذي باتت أوراق الصحف والمجلات والكتب تغطيه بشكل متناثر، انتشلت ورقة وبدأت بالنظر إليها بسرعة، وكأنها تبحث بين حروفها عن تلك النقطة الآمنة التي تريد الاحتماء بها، والتي جاء في إحدى زواياها مقال قديم كان قد نُشر في إحدى الصحف مفاده أن «الرحيل صورة من صور الفراق، وأن العودة أيضاً هي صور من صور الرحيل المؤقت!».

«كيف؟» بدهشة وغرابة سكنت ملامح وجهها بدون أن تتكلّم، شعرت برغبة هائلة تجذبها لمعاودة قراءة تلك الكلمات مجدداً، تذكُر أنها قرأت هذا النص مراراً فهي ليست المرة الأولى، التي تمر أمامه إلا أنّ إحساسها نحو حروفه الآن لا يُشبه أي مرّة.

انتهت ميس من قراءة النص وضعت الورقة جانباً، شعرت بضرورة الذهاب لغرفتها قبل أن يباغتها ذاك الصوت مجدداً، أمسكت بشدّة يد الباب التي تريد فتحه وعدم فتحه في آن واحد اختارت الجلوس بجانب الباب، قبل أن تهم بفتحه، اختارت ميس الوقوف مجدداً مغمضة عينيها، وهي تفتح الباب، وهناك كانت النافذة قد فُتحت والستائر يحركها، الهواء أما الساعة قد أشارت لدخول صباح اليوم التالي. بين الفراق والعودة علاقة الكلمة وعكسها، إّلا أنّ ميس لربما حان لها أن تعرف بأنّ ما بين الفراق والعودة خيط رفيع أيضاً، يكاد يُلغي درس اللغة العربية في (الكلمة وضدّها). فالكلمات حتى إن تعاكست في المعنى، يأتي الشعور ليثبت لنا بأن الكلمة، وإن وجدت نقيضها في المعنى قد تتشابه في الشعور.

(مقهى)

رزنامة الأشهر تُعيد نفسها بدون ملل، رغم مرور السنوات، فالشمس تُعلن عودة ذاك اليوم الذي يذكر رامي بأنه وقبل وداعه له قرّر أن يعقد هدنة مختلفة معه تعهّد هو من خلالها، أن يفترقا مقابل أن يعده هذا اليوم بدوره أن يطرق بابه كل سنة ولا يخذله بالنسيان! يستيقظ رامي في صباح هذا اليوم بنشاط مُحزن! يشرب فنجان قهوته ويهم بقراءة الصحف، التي يعرفها ولا يعرفها، فهو يُدرك بأن لا شيء يخفف وطأة مرور الوقت سوى قراءة الصحف، وإن كانت في معظمها لا تحمل سوى الكوارث البشرية والطبيعية – حسب وصفه. يقترب المساء وهو الوقت الذي اعتاد فيه الذهاب للجلوس في ذاك المقهى، يفكّر مليّاً كل مرّة، وقبل اقتراب الموعد ماذا لو أن المقهى خذله في السنوات المقبلة، وقرر هو أيضاً أن يتخلى عن مكانه المعتاد؟ وتلك الشوارع التي ألِفت خطوات أقدامه، وهو يمر بها، ماذا لو اختارت أن تغير هي مسارها أيضاً؟ يحاول رامي أن يوقف تلك الأفكار التي يأبى أن تنتصر عليه، يرتدي ملابسه يُغلق الباب متوجهاً نحو المقهى يجتاز شارعاً تلو الآخر، وكأن طريقه في كل سنة تزداد شارعاً لتحول بينه وبين الوصول إلى وجهته المنشودة ، كل شيء حوله يشير إلى اقتراب الوصول، الرصيف المتلاشي الذي سيصبح جزءاً من الشارع قريباً، اللوحة المرورية، التي رغم الصدأ المتآكل عليها ما زالت متمسكة بمكانها باستثناء المقهى. شعر رامي بضرورة التوقف متسائلاً هل أضاع الطريق، أم أنّ الطُّرق تشابهت عليه أم ماذا؟

استاذ رامي استاذ رامي ـ سمع صوتا يناديه، ابتسم وكأن من أتى حتماً سيساعده للإجابة عن أسئلته ـ نظر رامي خلفه وإذ بالطفل الصغير بائع الورد، تذكره بفرح ها هي الاشارات جميعها تؤكد له أن المقهى هنا.

هل تريد شراء الورد؟

بسرعة وقبل أن ينهي الطفل حديثه، والذي لربما سمعه أو لم يسمعه رامي ـ فهذا ما يمكن أن تشعر به وأنت ترى نظراته ـ قاطعه متسائلاً: أين المقهى؟

أي مقهى أستاذ رامي؟ أجابه الطفل – وهو يحاول أن يرى أي مشتر يبتاع وروده قبل أن ينتهي اليوم، وتغدو بلا فائدة- ألم يحن لك أن تريح نفسك من عناء قطع هذه المسافات! مودعاً له بيده ومعتذراً.

لربما كان المقهى هُنا قبل سنوات، أشهر أو أيام ولربما لم يكن للمقهى أي وجود سابق، ولربما كان على رامي أن يدرك أيضاً بأن الأشياء قد تبدو حقيقة في خيالنا، وتغدو حلماً على أرض الواقع وبين الحقيقة والواقع قد يجد المقهى مكانه أو يغيره بإرادته، أو بدون إرادته، أو يكن وهماً لا أثر له منذ البداية.

 

  • كاتبة من الأردن






كاريكاتير

إستطلاعات الرأي