مرحون في ثياب ناحلة" وثنائية الجميل الحزين"

2020-07-06

د.حاتم الصكَر


1-

التقاط الإنساني في المتوحش، ذاك أحد أقدار الشعر، وعزاء القصيدة في ليل غموضها ونور انكشافها. ثنائية يحتويها الشعر لكنه لايقدمها كوثيقة ولا ملتزماً بخط الأحداث ومصائرها المسبقة الحصول، كالسرد، لأن وسيلته الخيال الذي يولّد أكثر الصور أثرا حين يستل الواقعة من موضوعها الخارجي وتسلسلها الحدثي، ليهبها حياة جديدة تمتلك خلالها عناصر من ملامح تلك الوقائع، لكنها ترصد دلالاتها وتسمو بها صوراً ومجازات وإيقاعات..

يتعامل الشعراء مع الحرب كتجربة كونية الدلالة. إنها تستأنف حياتها من خلال ماظل من حيواتهم وما تهدم منها أيضاً. لكن تجاربهم تلك تأخذ سمتاً رمزياً وإشارياً تنوب فيه الإشارات كصور، وهم يلقون بها في مياه الشعر لتغتسل من آنيتها وسرديتها التقيلدية التي تتكفل بها متون السرد؛ كالرواية والقصة والمسرحية والفلم ..وهي بهذا إلى اللوحة الفنية أقرب لو شئنا مقارنةَ شعريةِ كل من القصيدة واللوحة في انتظام العناصر الفنية والرؤى والدلالات.

لكنها لوحات شعرية ناطقة. لا صمت فيها. تضج بالحياة والسرد المنتقى لخدمة الفكرة وتجسيدها شعرياً في القصيدة التي ستصبح محفلاً تلتم فيه الإستعادات من الماضي الذي هو ماضي الواقعة الفجائعية وتتلمس دلالاتها. وهي لا تنفك عن مرجعها وتنتمي من جهة أخرلحاضر الشاعر أو مستقبل حياته، قياساً لزمن الفجائع التي يسترجعها ولا تزال تلقي بظلالها عليه.

2-

سيكون شعراء الثمانينيات- كما يجيّلهم النقد الأدبي العراقي احتكاماً إلى مزايا نصيّة في شعرهم -هم مثالنا لتأكيد فكرة العيش في ماضي واقعة الحرب، واسترجاعها وتأمل تداعياتها وما تدمَّر من حيوات بسببها حتى بعد انقضائها. إنها تنام وتستيقظ في أسرَّة أولئك الشبان خاصة ممن اقتيدوا لمعارك وحروب استنفدت أعمارهم. وحين انتهى كل شيء ظل شبح تلك الأيام في واقعهم يهيمن على أجواء قصائد شعراء الجيل الثمانيني حتى اليوم.

هذا ما تدلنا عليه قراءة ديوان(مرحون في ثياب ناحلة) للشاعر العراقي سهيل نجم (بغداد 1956-) وهو ذو تجارب شعرية متعددة أكثرها دلالة على رؤيته ما يلخصه عنوان أحد ديوانه السابقة هو (فردوس أسود). هكذا يرى وطنه. جنة يلونها السواد برمزيته ودلالاته العميقة. رماد الحياة وما فيها من ظلم وفقْد وخسارات. كأنه يترجم ثنائية الإنساني والمتوحش بصياغة أخرى، هي الجمال والحزن يمثلهما (فردوس أسود). لكنه هنا يقلل من سعة الدائرة فيدخل إلى الشخص. الإنسان الذي يحمل معه وزر هذا النزاع الوجودي بين الجمال والشر. ويضع في عنوان مجموعته الجديدة ما يؤكد تلك الثنائيةحيث المرح صفة للجماعة تقطعه ما يظهرون به من ثياب أسند إليها في انزياح صياغي مناسب صفةَ النحول عن الجسد الواهن؛ لينسبها في شعرية متقنة إلى الثياب التي غدت هي المتسمة بالنحول.

وسأورد قصيدة (مرحون في ثياب ناحلة) التي أخذ الديوان عنوانها كتأكيد على أهميتها في رؤية الشاعر. هذه القصيدة شاهدعلى استناجات قراءتي لذاك التجسيد لثنائية الإنساني والمتوحش، أو الجميل والحزين.

نحنُ المرحينَ بالترابِ

أغانينا طريةٌ على الشفاه

بينما نحملُ أوزارَ حروبٍ ليست لنا.

صورُنا تزينُ جباهَ بيوتِنا

وتلك اليافطات السودِ

وهذه صورُ عشيقاتنا مبللةٌ بالحنينِ

والموت.

كم مرةً غابَ الوقتُ هنا،

كم مرةً كفَّت الأرضُ عن الدورانِ،

كم مرةً باتَ الضُحى لنا دماً أصفرَ

يسيلُ على متونِ الأسلحة.

هبطنا إلى السرابِ عشيةً

نلملمُ الحكاياتَ من أصدقائِنا الذين

تحت الترابِ

بينا ينظرون إلينا عبرَ نوافذ القبورِ.

تآخينا وأكياسَ الرملِ من قبلِ

أن يكتمل القمرُ حجراً ويسقطُ

على رؤوسِنا في الفجرِ

ساعة تأخرنا عن واجبنا السحري

وسقينا الأرضَ من جدْبِنا.

علّقنا أرواحَنا على أدواتِ الاستفهامِ

حتى تسرّبنا حُراساً لعالمٍ من نارٍ جليدية.

جرحنا وقتَنا العسكريَ بالعطالةِ

حيث البهاءُ حكايةٌ جديدةٌ أُخرى عن الأبد الفاني

نحنُ أبناء الترابِ

بأيدينا حفرنا ملاجئ الضباط محصَّنةً..

ونمنا في العراء.

نلاحظ أولاً اتساع دائرة المتكلم في القصيدة ليغدو جمعاً لا فرداً.وهذه ظاهرة تتكرر في كثير من شعر الثمانينيات ،لتمركزه حول فاجعة واجهتها الجماعة وصار الفرد مفردة في جملتها الطويلة الحزينة الدلالة.فكأن الشاعر يكتب نشيداً تتكلم فيه الجماعة.

وسوف تطّرد تلك الظاهرة الصياغيّة ذات الدلالة المهمة في القراءة. هنا يقدم الشاعر هوية نصه بكونه رثاء بالغ الحزن لما فقده. وسوف تعود أفعال السرد كلها لتلك المسيرة الطويلة من الألم.هم أبناء التراب يجعلون لغيرهم وقايةً من الموت بينما يكون نصيبهم هو النوم في العراء مواجهين موتهم.

الشاعر سهيل نجم

إنها أفعال جمعية ،بناة الملاجئ وحاملو أكياس الرمل لخطوط الموت الأمامية هم جامعو حكايات يرسلها أصدقاء ماتوا قبلهم، بشر تحجر الزمن في تقاويم حياتهم كما انعكس في السؤال (كم مرة غاب الوقت) و(كم مرة كفت الأرض عن الدوران) فيكون الضحى وهو فتوة اليوم وارتفاع نوره ليس إلا ذلك الدم الأصفر يسيل على الأسلحة. وهذا ا تجسده قصيدة أخرى بعنوان (نحن) تكاد أن تكون تنويعاً على ثيمة الديوان الأساسية الممثلة في قصيدة (ناحلون بثياب ناحلة). بل جاء استهلالها استكمالاً لجملة القصيدة الأولى.

نحن المُطْفَئينَ بالشمسِ

أبناءَ السؤالِ،

غرقى السُفنِ الخربةِ،

سبايا العهودِ،

قادنا الضباط إلى الحرب

.3-

الجماعة تهيمن على سرد الحدث وتمثيله. حتى في القصائد التي تحيل أفعالها إلى الفرد؛ كالتمني الذي تضمه قصيدة (أريد...) التي تنبني على تكرار جملة (أريد أن أغني) متبوعةً برغبة أوأمنية او إعادة لتشكيل الأشياء بعد أن ينفض عنها ما لحقها من خراب. وتأتي صياغتها مؤثرة كونها تمزج الواقعي الممكن كإرادة، بالمتوهم والممكن الحدوث شعرياً كمجاز.

أريد أن أغني نخيلاً

مازال يغازل الريح

محزوز الرقبة

أُريدُ أنْ أغنيَ المنازلَ الأولى

على جدرانِها حِنَّاءٌ ودمٌ وأمنياتٌ

احترقتْ من الانتظار.

الجمال تقطعه دوماً الفجيعة الماثلة البحر هو الموت يقود السفن إلى المرسى الأخير، والنهر كذلك:(نهر أم ثعبان؟) يتساءل الشاعر (أنت أيها النهر أيها الثعبان الملتوي. ما اسمك؟) ويصفه بأنه تابوت، و يثرثر طمياً وقتلى. فالحرب بقذائفها جزت رؤوس النخيل، وألقت بالجثث إلى النهر الذي غدا مقبرة.. الغروب الذي انهمك الرومانسيون والإنطباعيون في رسمه نجده عند الشاعر مسمَّرا في لوحة يسيل فيها دم مذعور.أما المرأة كرمز جمالي فهي حاضرة هنا لابكونها طرف عاطفة أو موضوع غزل، بل هي تلاعبه في الظهور والإختفاء. (المريبة تطرق بابي وتختفي) كأنها تعبث به في لعبة من لعب الطفولة. ولا فرح في ذلك. (لافرق أن تلد امرأة غيمة/أو تلد القصيدة حجراً) وإزاء ذلك ينكفئ الشاعر ولا يجد إلا التمني بالعودة إلى ذاته: (ليتني ليتني أتممت طريقي/ إلى روحي/ ولم أنشغل بالنجوم). وهذا رفض واضح للأمل. وتصويت للذات التي لم تجد نفسها أو هويتها في الجماعة التي تركت تلك الجراح على الجسد والروح.

4-

يضعنا الشاعر في لجة كوابيس تتمدد لتقفل الأفق كله ،وتغدو حصاراً للألم والفقد والخسارة.فمن أي نص نبدأ سننتهي بالفجيعة.وإذ نتلمس تفسيراً لذلك لا نجد إلا خسارات الجماعة وضياع الوطن وأعمار البشر وأحلامهم تشكل خلفية للديوان وصوره المتكررة بتنوع صياغي.

ويحف بهذا الإستذكار الفجائعي في الغالب نوعان من العيوب الشعرية،هما: إمكان إعادة صوغ الثيمات في جمل شعرية مكررة، وخلق انطباع الملل لدى القارئ بسبب تكرارها. والثاني هو كون تلك الثنائيانت المستعادة من زمن الحرب وويلاتها أصبحت مشتركاً شعرياً شائعاً كموضوع وصياغة. ولكنها من جهة أخرى ميزت قصيدة ما بعد السبعينيات وصارت سمتها االخاصة. وهذا ما تؤكده قراءة ديوان سهيل نجم ورؤيته الشعرية .







كاريكاتير

إستطلاعات الرأي